الجمعة، 30 يوليو 2010

مملكة الصعاليك ـ تجارة اللصوص ـ 1



سيطرت مكة على التجارة العالمية
تربعت مكة على عرش التجارة العالمية
لا يمكن تصور مدى ما بعتري كاتبنا العربي و باحثنا الإسلامي من الفخر و العزة بالنفس و هو يخط هذه الجملة المبهمة التي أضحت بفضل التاريخ الثانوي و الروايات الكلاسيكية من أبده المسلمات التي لا يرقى إليها شك و لا يلفها غموض
سيطرت مكة على التجارة العالمية.
كلمتان خفيفتان على اللسان، عسيرتان على الهضم،  ثقيلتان على الفهم . لا يستطيع العقل العادي، مع كل الأسف لكل رواتنا و إخباريينا الموقرين، أن يستوعبهما بهذه السهولة. فالتجارة ليست شعرا و لا نثرا و لا كلاما في السحر أو الماورائيات. إنما التجارة نشاط بشري ملموس و إنتاج حضاري مادي تنعكس آثاره على الفرد و المجتمع. فأينما ازدهرت التجارة ارتفع التخلف و انقشع الكسل و الخمول و حل البناء و التشييد و انتشر الأمن و الأمان و شمخ العمران.
سيطرت مكة على التجارة العالمية
فرية لم تستطع أعتا المدن و أكثرها قدما و تجدرا في التاريخ أن تدعيها
فلا روما ادعت يوما أنها فعلت ما فعلته مكة. و لا الإسكندرية تجرأت على القول بما قالته مكة ، و لا دمشق و لا أثينا بلغت بهما الوقاحة مقدار ما بلغته مكة.
قد يقبل أهل اليمن أن تسلبهم قريش تاريخهم و تتبنى حضارتهم .و قد يقبل أهل العراق و الشام أن تكون قريش سيدتهم و أميرتهم.لكن الحبشة لو تُبعث اليوم حية ، و تسمع بمثل هذا الافتراء،ما أظنها إلا ستنتفض مذهولة و تحتج رافضة أن تسلبها مكة الحقيرة مكانتها التجارية التي احتلتها في القرن السادس، خصوصا و أن كل المصادر تقف بجانبها و تعزز موقفها بما فيها مصادر أهل قريش نفسها. فالمرء يحار لسماعه أن قبيلة مغمورة مثل قريش تسكن قرية صغيرة مثل مكة في صحراء خالية متخلفة مثل صحراء العرب استطاعت يوما من الأيام أن تقصي الإثيوبيين عن البحر، و تنتزع منهم و من العالم البيزنطي المترامي الأطراف السبق التجاري الذي كانوا يحضون به.فالكل يعرف أهمية إثيوبيا في القرن السادس الميلادي و التاريخ يشهد لها بالسيادة الكاملة على البحر الأحمر بعد سقوط البطالمة و السيطرة على المحيط الهندي من سواحل شرق إفريقيا إلى الهند و سيلان . و ما حروبهم مع الفرس و استيلاؤهم على ممالك اليمن إلا جزء من هذا النفوذ العظيم الذي كانت تحظى به إثيوبيا .فأي تجارة هذه التي احتكرتها أو سيطرت عليها قريش؟
إن مجرد ذكر كلمة التجارة يفجر في عقل المتتبع للأخبار عدة أسئلة موضوعية لا تستطيع الروايات أن تسعفه بأي إجابة عنها .فالتجارة تتطلب الطرق المعبدة و تتطلب المواصلات و رؤوس الأموال و توفر الأسواق المنظمة و سن القوانين التجارية و تنظيم المعاملات ،كما تقتضي التجارة العهود و المواثيق و المكاتبات و المحاسبات و السجلات، هذا إن كانت تجارة عادية . أما والحال أننا نتحدث عن تجارة على الصعيد العالمي فإن هذه ستقتضي من القائمين عليها توفير أساطيل عسكرية تسهر على حمايتها و تأمين طرقها البرية و البحرية.فلا يعقل أن تكون هناك تجارة عالمية و لا تكون بجانبها قوة عسكرية تضمن حركيتها و تؤمن نشاطها!!.كما تتطلب التجارة كذلك سك النقود و إنشاء المصارف و جباية الضرائب و المكوس. و كل هذه المتطلبات شروط مادية يفترض أن تكون لها آثار تشهد عليها و توثق لها.فما هي الشواهد و الآثار الباقية التي تدل على تجارة مكة؟؟ أين هي الطرق التي بلطتها مكة ؟أين هي آثار مواصلات أهل مكة و بقايا نقودهم ، أين هي مكاتباتهم و معاهداتهم ، أين هي قوانينهم التجارية؟ ففي حين نجد في اليمن أثارا للطرق المبلطة و النقود المسكوكة و النقوش المدونة و التي تدل على الأنشطة التجارية و غيرها و تحمل الأسماء و التواريخ  و المعاملات ، و في حين نجد كتابات اللاتين و الإغريق و السريان و الأقباط  و الآشوريين تتحدث عن اليمن السعيد وعن غناه و ثرواته، وعن أهل الحبشة و مدنهم و موانئهم و تجارتهم .فإننا بالمقابل لا نجد أي شيء يذكر في تلك المصادر عن قريش و لا عن هاشم وإيلافه و لا عن تجارة مكة. اللهم هذا الكم التلاطم من الأخبار المتناقضة و المتراكبة الوارد في أسفارنا المقدسة .. فمتى كانت قريش تتاجر إذا؟؟ و في ماذا كانت تتاجر؟ و مع من كانت تتبادل تجارتها؟ و أين هي طرقها التجارية؟ و ماذا عن نقودها و معاهداتها و قوانينها التجارية ؟ هل هناك من لقى أو آثار تدل عليها؟؟ و مما يؤسف له أنك لا تجد أي إجابة شافية مقنعة على أي سؤال من هذه الأسئلة، لا لدى الرواة و أهل الأخبار و لا حتى لدى المستشرقين الكبار، الذين في جلهم انساقوا وراء بريق الرواية و سحر البلاغة، فاكتفوا مشقة التدقيق و التمحيص، و البحث و التنقيب و البرهنة و النقد النزيه، و غدوا مثل رواتنا مطبلين مهللين لنظرية تربع مكة على عرش التجارة العالمية.
هذه المقولة ـ النظرية يتخذها الرواة و أهل الأخبار بديهية و مسلمة ، فيجعلونها مقدمتهم الكبرى التي ينطلقون منها ليستدلوا على أن أهل مكة كانوا تجارا مهرة حاذقين و أن مكة كانت تتوسط الطريق التجارية التي تربط الهند ببيزنطة ، وأنها استطاعت في القرن السادس للميلاد بعبقريتها و حنكتها أن ترث الطرق التجارية التي تمر بها بعد أن اختلت الدول في اليمن و خارت عظمة بيزنطة و الساسان نتيجة الحروب بينهما و الاقتتال. و هكذا ينتهوا بك في الأخير إلى أن مكة قد تربعت على عرش التجارة العالمية..نعم.. و في هذا المقام ، و قي إطار تقديمه لتجارة مكة، يعلق العلامة جواد علي قائلا في هذا الصدد:"فمورد الكسب الأول عند العرب هو الغزو على رأي أهل الأخبار، و قد ترفعت قريش عنه، و صرفت نفسها إلى التجارة. "(المصنف 7/286) .و يضيف في نفس التعليق أن الجاحظ قد نسب سبب تركهم الغزو إلى "كونهم أهل حمس ديانيين لذلك تركوا الغزو لما فيه من الغصب و الغشم واستحلال الأموال و الفروج من العرب" (كتاب البلدان 468). فبواسطة الدين إذا زهد ت قريش في الغزو و ابتعدوا عنه و استغفروا لذنوبهم و تابوا منه إلى التجارة،ثم أفاء الله عليهم بطرق أهل اليمن يرثونها حلالا مطيبا ، فأصبحوا ملوك التجارة العالمية. هكذا و بكل البساطة  يختزل الجاحظ التاريخ و يزدري التجارة و يجعل الدين أداة سحرية تحول قريش بين عشية و ضحاها من غزاة مغيرين غاصبين غاشمين إلى تجار أذكياء حاذقين كرماء جوادين. فعن أي دين يتحدث الجاحظ، كان يتحمس فيه أهل مكة في هذا الإبان الذي نتحدث فيه.؟؟ و نحن نعلم ما أخرجه اليعقوبي في تاريخه من إجماع أهل الأخبار على أن معظم سكان مكة كانوا دخلاء عليها و نازحين إليها من الخارج.فهم كما يقول من مختلف نواحي الجزيرة المسماة عربية و من الهلال الخصيب و من اليمن و بلاد فارس و الروم و من مصر و الحبشة و السودان و من فينيقيا و فلسطين و سوريا و بلاد ما بين النهرين، لدى يستنتج أن اختلاطهم هذا أدى إلى اختلاط أديانهم و تنوع معتقداتهم و لغاتهم، فكان منهم يهود و نصارى و صابئة مندائيون و زرادشتيون مجوس ، (اليعقوبي 1/254). ففي أي ديانة كان أهل مكة يتحمسون إذا؟...أما قريش فخلطاء ! نعم !! و هذا ما يؤكده  ابن الكلبي في قوله: إنما قريش جماع النسب ليس بأب و لا بأم و لا حاضن و لا حاضنة (ابن سعد 1/66،69،71...نهاية الأرب 1/20) و يعني أنهم ليسوا من أصل واحد و لا من قبيلة واحدة و أن قريش ليس جدا و لا جدة لينتسبوا إليه. و إنما هم بإجماع كل أهل الأخبار"في غالبيتهم من البدو و الأحابيش و الخلعاء و المطرودين الذين يسميهم القرآن بالأراذل و الأذلة و الأرذلين، و فيهم الفقير و اليتيم و المسكين و ابن السبيل و المحتاج أما كتب السير و الأخبار فتنعتهم بالصعاليك و الخلعاء و الطرداء و الخلطاء و لصوص البادية و ذؤبان العرب و الشياطين و الفتاك و غير ذلك(الواقدي457 ،الطبري 1/1438 ، الأغاني 8/65 ،النهاية لابن الأثير2/52 أسد الغابة في أسماء الصحابة5/178). و كلنا يذكر أن قصي بن كلاب جمع هذه العينة من البشر و خطب فيهم قائلا لهم: هل لكم أن تصبحوا بأجمعكم في الحرم حول البيت؟؟فوالله لا يستحل العرب قتالكم و لا يستطيعون إخراجكم منه، و تسكنونه فتسودوا العرب أبدا.فقالوا أنت سيدنا و رأينا تبع لرأيك، فجمعهم ثم أصبح في الحرم حول الكعبة.(السيرة الشامية 1/321 ـ 325) و نذكر  أن أول مال أصابه قصي هذا كان حسب السيرة  الشامية مال رجل قدم مكة بأدم (جلود) كثير ، فباعه و حضرته الوفاة و لا وارث له فوهبه لقصي و دفعه له إلا أن ابن حبيب يصحح هذا الرواية مصرحا بكل الشجاعة أنه " قام قصي بقتل أحد النبلاء الأحباش و نهب ثروته و كان قادها لمكة من أجل التجارة.(المنمق ، 108).هذا هو قصي أبو هاشم صاحب الإيلاف،  و هؤلاء هم قريش قوم هاشم، و هذا هو مالهم الذي يفتخرون به على العباد، و هذا هو المجتمع القرشي المتصدع الذي يفترض أن القرآن جاء لإصلاح ذات البين بين أغنيائه و فقرائه. و المفارقة العجيبة هي أن القرآن فعلا يتحدث عن خلقية تجارية ويخاطب في شقه المكي قوما تجارا جشعين مستبدين. فهل كان القرآن يخاطب قريش هؤلاء الذين قدمناهم الآن، أم أنه كان يخاطب قريشا آخرين؟؟ فهؤلاء القريش الذين نعرفهم، أو بالأحرى تعرفنا عليهم السير،إنما هم قوم لصوص غزاة مغيرون!! فكيف بالقرآن الذي نزل فيهم يخاطب قوما تجارا؟؟؟؟يقول الأستاذ سليمان الكتاني في كتابه " محمد شاطئ و سحاب""ولد محمد في مكة يوم كانت مكة تعجن الطحين من كل غبار يتطاير من زحف أقدام الحجاج إلى حرم مكة، يوم كانت تتلمس بركة قطيع من الأصنام المشرورة حول هذه الجدران، يوم كانت تنام صديانة (شديدة العطش) تنتظر رجوع النوق من رحلاتها إلى الشام و العراق لتأخذ من حليبها المنهوك جرعة ري. (ص 31) فإذا كانت هذه حال مكة عشية ولادة النبي فيها سنة 570م.فأين هي آثار التجارة التي قامت و ازدهرت فيها منذ هاشم الذي توفي سنة 497م .ألم يكن قرنا من الزمان كافيا لتظهر تجارة مكة عن حضورها من خلال التأثير في الأوضاع  و تحسين الأحوال؟؟. قريش لم يكونوا تجارا و لم يكفوا يوما عن الغزو و السلب و النهب، لأن ذاك هو أمرقصي الذي صار فيهم دينا، حتى أصبحوا يتحمسون فيه كما ورد عن الجاحظ. فالسؤال الذي نبتغي الوصول إليه من خلال هذا السياق هو هل يمكن للصوص المحترفين و الناجحين في فنهم أن يتحولوا إلى تجار مغمورين يتذللون بالأدم والأسمال المتهرئة بين القبائل الفقيرة والأسواق الكاسدة.؟؟هل يعقل هذا؟؟ هل يعقل أن يتخلى اللص عن الأرباح السهلة التي يجنبها من وراء صنعته التي لا يتقنها سواه، و يغامربالمقابل بما سرق طول حياته في عمليات تجارية غير مضمونة العواقب و لا مأمونة الجانب، و هو أعلم بما يحذق بالأموال من المصائب و الأهوال؟؟؟ ثم من جهة أخرى هل يعقل أن يستقر اللص في مكان معلوم حيث يكون عرضة للعيون و الحراس وغرضا  سهل المنال لأصحاب الثأر والأعداء؟؟. فخطبة قصي السالفة الذكر لا تفيد بالضرورة أن لصوصه قد نزلوا الأبطح و استقروا فيها و بنوا لأنفسهم الدور و المنازل. فهذه باتريشيا كراون في كتابها تجارة مكة و ظهورالإسلام تعتقد إن الأمان إنما هو أمان لأهل مكة يرجع فيه الفضل إلى التحالفات التي عقدت مع أفراد قريش، و ليس لسبب القداسة التي افترضت في أراضي مكة.(ص319).فهي بذلك تأخذ برواية أن قريشا لم ينزلوا بمكة و أن أهل مكة من خزاعة و بني بكر لم يغادروها، بل إنهم رضوا بالعيش تحت كنف و وصاية قريش الذين بقوا في جبالهم يحيطون بمكة من كل جانب و يتربصون بأهلها في كل حين.و هذا أقرب إلى طبيعة اللصوص عن الاستقرار الذي من شيم التجار.كما أن اللصوصية ،ولمن يجهلها،فإنها كالتجارة فن و علم و صناعة و أدب و نمط من العيش يناقض بالتمام و الكمال نمط العيش عند التجار.و هذا مأزق القرآن الذي يقول أنه نزل على قريش المجتمع التجاري الذي بمكة ، بينما  القرائن التي بين أيدينا لحد الآن تنفي عن مكة الصبغة التجارية، ولا تثبت أن قريشا كانوا يسكنون و يتجرون في مكة، و تؤكد على أن قريشا كانوا لصوصا أشداء محترفين. و نحن نضيف أن اللصوص لا يمكنهم أن يكونوا تجارا و لا يمكن لأرباح أي تجارة كانت أن تعوضهم عما يجنونه من السرقة و السلب و النهب . و لو افترضنا أن هذا حدث، و أن لصوص مكة أجمعوا على الثواب و أرادوا الاتجار تكفيرا عن الذنوب فما هي هذه التجارة التي ستستهوي هذه العينة من البشر؟؟؟ ما هو نوع هذه التجارة التي ستتلاءم مع طبيعة اللصوص سابقا فيقبلون عليها بكل ترجيب ، و تعوضهم عن اللصوصية و إغراءاتها ؟؟ فاللصوص كما نعلم لو يتاجرون فإنهم يتاجرون في الممنوعات و المحرمات و المهربات و السلع المغشوشة.كما أنهم يتاجرون في المخدرات و الخمور. و على ذكر الخمور فقد ورد عن علماء اللغة أن العرب تسمي بائع الخمر تاجرا، و أن أصل التاجر عندهم الخمار يخصونه من بين التجار.(تاج العروس 3/66). كما يتاجر اللصوص في الذمم و الرقاب و الزور و في النخاسة و القوادة . و لنا في تجار قريش المرموقين أمثال عبد الله بن جذعان و العباس الخمار عم النبي مادة دسمة للدرس و التمحيص في مقتبل فقرات هذا البحث الميمون.
هذه هي طبيعة البشر الذين يفترض أنهم أصبحوا ملوكا للتجارة العالمية.. و هذه هي خاصيات المجتمع الذي يفترض أنه تربع على عرش التجارة العالمية.. و الآن علينا أن نتعرف على هذه التجارة المزعومة ، أشكالها و أنواعها ، بضائعها و أماكن إنتاجها، طرق نقلها و أسواق تصريفها.  و علينا أن نتتبع تلك الطرق التجارية التي تزعم مكة أنها تتوسطها و أنها و رثتها عن ممالك اليمن السعيد، لنحصيها و نحدد مساراتها واتجاهاتها و أعمارها.. و علينا كذلك أن نستقصي تلك الحروب المزعومة التي كانت بين الروم و الساسان من جهة و بين هؤلاء و الأحباش من جهة أخرى لنقف على مدى تأثيرهم على التجارة العالمية و على الدور المزعوم الذي لعبوه في إنشاء تجارة مكة. و لكم علي ألا أدع صغيرة و لا كبيرة تفيد من بعيد أو من قريب في تزيين سمعة تجارة مكة إلا أحصيتها لكم و و ضعتها بين أيديكم .و إلى ذالك الحين ها هو أبو نبي الصعاليك يحييكم .
تشاو
أبو قثم.











الخميس، 15 يوليو 2010

مملكة الصعاليك ـ إيلاف في مهب الريح





الثابت إذن من كل ما أوردناه سابقا، أن مكة حسب الروايات و الأخبار كانت عشية وفاة قصي تعيش تحت رحمة قوتين عسكريتين تتحكمان في مصيرها ، أما إحداهما فقوة شبه منظمة أو نظامية سميت على استحياء بالأحابيش، وأما الثانية فهي قوة عسكرية منفلتة عن التنظيم و القوانين ،مشكلة من عصابات و مرتزقة تنتشر في كل مكان من شبه جزيرة العرب و مركزها مكة و تسمى بالصعاليك. و الثابت في شأن الأحابيش أنهم حسب السير و أهل الأخبار قوة عسكرية قوامها الأحباش و بعض القبائل العربية المهجنة نتيجة التواجد الحبشي القديم بتهامة، و الذي يعود إلى القرن الثالث الميلادي.و أن عبد الدار إما أن يكون قد قبل الخضوع لهذه القوات و سيطرتها على الحجاز بلا قيد و لا شرط و بدون مناقشة و لا مقاومة، و ذلك امتثالا لأوامر قيصر الروم الذي طلب إلى النجاشي أن يدخل قريشا أرضه ، إذا أخذنا بعين الاعتبار رواية ابن سعد الواردة أعلاه(الطبقات ـذكر هاشم بن عبد مناف ج2)، و إما أن عبد الدار و أخاه عبد مناف أنشآ هذه القوات نتيجة تردي الأوضاع الأمنية و حاجة مكة الماسة إلى الأمن و الأمان في ظل تنامي تواجد و تعاظم قوة الصعاليك غير المرغوب فيها. و الثابت تاريخيا أن قريشا لما أصبح لها الملك و تحرشت بالأمم احترمت الحبشة و وقرت جانبها ،لما لها من فضل في استقبال المهاجرين الأولين حسب السير و الأخبار. و بالرغم من ذلك فقد هاجم عمر بن الخطاب ميناء أدوليس و كانت الهزيمة من نصيب قريش. إلا أن الملاحظ هو أن قريشا لم تثأر للهزيمة و لم تُعد الكرة مرة ثانية و لم تفعل بالحبشة ما فعلته بسائر بلدان أفريقية التي دخلت إليها ، مما يعزز الانطباع على أنه كانت هناك بين الاثنين ،في الماضي الذي نتحدث عنه، علاقات خاصة متميزة، أقل ما يقال عنها أن السير و الأخبار قد نجحت نجاحا في التستر عليها و تمويهها.
و الثابت كذلك من ثنايا هذه السير أن هذه القوات كانت نذير شؤم على بني عبد الدار الذين رغم بقاء وظائف الزعامة فيهم بالتعاقب لغاية مجيء الإسلام و بعده، فإن ذكرهم سيتوارى في الأخبار و تطردهم السير من سجلات الشرفاء و الأخيار. فعبد الدار السياسي المحنك،برفضه احتواء الصعاليك و محاولته التخلص من نفوذهم و تبنيه فكرة التوفر على قوات نظامية في البلاد ، يكون قد تنكر لفضل أولئك المرتزقة على مكة و على أمن طرقها و مسالكها، و نقض ما بينهم و بين قريش ، في شخص هاشم، من العهود و الأيمان و الإيلاف.فالإيلاف، كما مر بنا ذكره، تورد الأخبار أنه تأليف للقبائل مقابل حق المرور في أراضيها، و يكون بجعل تعطى للقبيلة و أرباح و هدايا تقدم لها.إلا أن نفس الأخبار تفيد من جهة أخرى أن هذا الضرب من العهود كان معروفا في الجزيرة ساري المفعول فيها."فكل قبيلة كانت تستقضي جعلا من كل من يمر بحماها و أرضها.حتى كسرى نفسه عندما كان يبعث بتجارة داخل الجزيرة كان يدفع جعلا لكل قبيلة تمر هذه التجارة بأرضها، برغم أنها كانت محروسة ب"أساورة" كسرى ،أي جنوده الأشداء. و عندما كان يتقاعس كسرى لسبب أو لآخر عن دفع الجعالة لأي قبيلة تمرّ بها قافلة، كانت القبيلة تعتدي عليها. و قد حدث أن قافلة لكسرى مرت بأرض قبيلة تميم لم تدفع الجعالة المعهودة، قام بنو تميم بنهبها ، و أسر جنودها.بل إنهم أسروا هوذة بن علي و كان ملكا على قبيلة بني حنيفة، و لم يفكوا أسره إلا بعد أن دفع دية مضاعفة"(محمد أحمد جاد المولى بك و آخرون ـ أيام العرب في الجاهلية ـ ص2). أما الجديد في إيلاف هاشم بن عبد مناف فهو تأليف الخلعاء و الصعاليك المنتشرين على طرق القوافل، و ذلك بإيوائهم في مكة و حمايتهم و فرض حق معلوم لهم في أموال أهل قريش و حلفائهم , و إشراكهم و استعمالهم في التجارة، مقابل تأمين الطرق من القطاع و المنافسين و الدود عن حمى الديار.
فمبدأ الإيلاف و الأمان الذي تفرط الأخبار في الكلام عنه و تستفيض، إنما قصد به احتواء الصعاليك و التحكم فيهم، و تأطير عصاباتهم المنفلتة عن الحراسة و القانون، و تسخيرها في سبيل مصالح قريش. ففي حين كانت القبائل العربية أجمعها تخلع مجرميها و تتبرأ منهم كتابة و في الأسواق، فإن قريش كانت تؤويهم و تحميهم و تجيرهم و تمنحهم الحصانة أينما مروا يكونون آمنين. و في هذا الباب يعلق العلامة جود علي قائلا : بل نجد أهل مكة يجيرون كل غريب حتى إذا كان صعلوكا أو خليعا أو مستهترا بالعرف و الأخلاق أو قاتلا غادرا أملا في الاستفادة منهم و في عدم التحرش برجالهم إن خرجوا متاجرين يحملون أموالهم لبيعها في الأسواق البعيدة و لاستخدامهم في حمايتهم ممن قد يتحرش بهم من الأعداء الأعراب، و نجد في كتب الأخبار أسماء عدد من أمثال هؤلاء كانوا قد لجأوا إلى مكة و أقاموا بها و استقروا و عاشوا بها مجاورين لسادتها آمنين على حياتهم لأنهم في جوار سيد من قريش(المصنف7/289). فيتبين لنا من خلال تعليقه هذا أن أعداء قريش الحقيقيين هم الأعراب البدو أي القبائل العربية المنتشرة في الصحراء الذين يتحرشون برجالهم و الذين تفترض الروايات أن الإيلافات عقدت معهم! فإذا كان الحال كذلك ،فما حاجة قريش بإيواء الصعاليك إذا؟ و التودد إليهم؟.كما يفيد التعليق بأن هذه الفئة كانت تشكل جزءا هاما من النسيج الاجتماعي لمكة،لأن عددا منهم أقاموا بها و استقروا و عاشوا بها فأصبحوا بذلك جزءا لا يتجزأ من ساكنتها.كما أن أولئك البدو الأعراب الذين يصفهم التعليق بأعداء قريش هم في نفس الوقت أعداء دول الشمال من غساسنة ومناذرة و روم و ساسان، أو قل بالأحرى، هم أعداء الروم قبل أن يكونوا أعداء لغيرهم.فمن يا ترى سيكون بحاجة إلى إيلاف هؤلاء القبائل من أجل تأمين تجارته؟ أ قريش أم الروم؟؟ثم من جهة أخرى ما هي هذه التجارة المكية التي تستحق كل هذه العهود و الحبال و العصم التي سميت إيلافا؟؟تلك أسئلة من ضمن جملة من الأسئلة المشروعة التي سوف نتناولها على طول هذا البحث الذي نتوخى منها استقراء الظروف الموضوعية لنشأة ما يسمى بالإسلام.لكن قبل ذلك دعونا نقف و لو وقفة موجزة على هندسة القبيلة العربية الاجتماعية، عموما؛ لنتبين ملامحها العامة و نستوضح هيكلتها الأساسية فمن خلال الغربلة الدقيقة للأخبار يتبين أنها تتفق جميعها على تقديم القبيلة العربية على أنها وحدة اجتماعية تجمعها أهداف اقتصادية و سياسية أكثر منها عرقية أو دموية، و يرتبط أفرادها بعلاقات تنظمها الأعراف العربية السائدة.و تنقسم في بنيتها إلى طبقتين رئيسيتين: طبقة الفقراء و هم أغلب أفرادها كانوا يعيشون عيشة الكفاف قانعين به أحيانا و ساخطين عليه أحيانا(عبد الجواد الطيب ـهذيل في جاهليتها و إسلامها ـ ص 119)، و طبقة الأغنياء الذين يمتلكون قطعان الإبل و الشياه وعلى درجة كبيرة من الغنى و اليسار.و من بينهم فئة يسمون "السادة" يمتازون بتحمل المسؤوليات في إصلاح ذوات البين بين أفراد و عشائر و بطون و أفخاذ القبيلة ذاتها ،أو بين قبيلة و أخرى، و قد يتحملون التزامات مادية مثل دفع ديات القتلى. و بجانب هاتين الطبقتين كانت توجد فئة تسمى بالموالي، و تسميهم قواميس اللغة"الزعانف" و يطلق على الواحد "الزنيم" و"التنواط" و هو الذي يناط بالقوم أو يلصق بهم و ليس منهم ( اللغوي عيسى بن إبراهيم الحميري، نظام الغريب في اللغة ص87) و هم في غالبيتهم عرب التجأوا إلى قبائل غير قبائلهم الأصلية كي تسبغ عليهم حمايتها، أو من أسرى غزوات القبائل فيما بينها، مُنَّ عليهم بفك الأسر فتحولوا إلى موالي.و قد يكونون من الأعاجم الأرقاء، افتدوا أنفسهم من ناتج أعمالهم أو منّ عليهم سادتهم بالعتق نظير خدمات أدوها لمن يملكهم أو للقبيلة كلها، كإظهار شجاعة في إحدى الغزوات أو مهارة في أحد الأعمال. و هم أقل مرتبة من أبناء القبيلة الخلص الصرحاء و لو وجد بينهم نوع من التوارث.و في مقابل الموالي تأتي فئة الخلعاء ثم العبيد الذين هم دون الخلعاء . و يتكون العبيد أو الرقيق من أسرى الغارات و الحروب أو بالجلب من الخارج كالحبشة أو بالشراء من سوق النخاسة، و كانوا يقومون بأشق الأعمال و أحقرها. فكانوا بذلك "في هذه الفترة يشكلون قوة منتجة لا استهلاكية فقط...إلى جانب كونهم كانوا يشكلون حينئذ إحدى السلع الشائعة و الرابحة"(حسين مروة ـ النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ـ 1/200).فعبد الله ابن جدعان كان من كبار النخاسين..و كان لا يتورع من تشغيل الإماء في الزنا و يحصل على أجورهن من ذلك كما أنه كان يبيع أولادهن من الزنا (برهان الدين دلو، جزيرة العرب قبل الإسلام ،1/168)..أما الخلعاء فهم الأشخاص الذين تلفظهم قبائلهم و تتبرأ منهم و من فعالهم. و قد يتم ذلك كتابة أو بموجب إعلان يذاع عادة في الأسواق العامة، و هم في أغلبهم" شبان فقراء أمثال عروة بن الورد و تأبط شرا و السليك بن السلكة و الشنفرى.و يسمون أيضا ذؤبان العرب جمع ذئب، لأنهم كانوا مشهورين بسرعة العدو، و لكن مع فقرهم كانوا نبلاء و من نبلهم أنهم كانوا لا يهجمون إلا على الأشحاء البخلاء من الأغنياء. و كانوا يسمون بالعدائين لأنهم كانوا مشهورين بسرعة العدو في السلب و النهب (أحمد أمين ـ الصعلكة و الفتوة في الإسلام ص88). و يجمع أهل الأخبار على أن الصعلكة كانت نتاجا طبيعيا للتراكمات المختلة في مجتمع شبه الجزيرة و تَركّز الثروة في أيدي طبقة محدودة من الناس ، و في هذا الطرح يؤيدهم أحمد أمين إذ يبين في نفس الصفحة من نفس المصدر أعلاه ، أن " الحالة الاجتماعية في جزيرة العرب قد أنتجت هذه الصعلكة لأن أكثرهم فقراء لا يجدون ما يأكلون، و إذا حصلوا على شيء من تجارة أو نحوها ، فشيخ القبيلة هو الذي يأخذ من الغنيمة حصة الأسد و هم لا يأكلون إلا الفتات."..انتهى .."فكانت النتيجة الطبيعية لهذا كله أن فرّ الصعاليك من مجتمعهم النظامي ليقيموا بأنفسهم مجتمعا فوضويا  شريعته القوة و وسيلته الغزو و الإغارة و هدفه النهب و السلب (د . يوسف خليف ـ الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي ـ ص 55).فعلى سبيل المثال ، في قبيلة هذيل " فأغلب الأفراد في هذه القبيلة كانوا من الدهماء يعيشون عيشة الكفاف قانعين أحيانا سخاطين عليه أحيانا أخرى و بعضهم أو كثير منهم، كان يعد من الصعاليك و الذؤبان مثل "الأعلم" و "صخر الغى" و "أبي جندب" و غيرهم . و مع ذلك كان الخلعاء من هذيل أقل من غيرهم "( هذيل في جاهليتها و إسلامها ـ د.عبد الجواد الطيب ص119).و من خلال كل هذه القراءات نتلمس مبلغ ما يكنه أهل السير و الإخباريون من تعاطف اتجاه هذه الطبقة من المجرمين الأقحاح و من تنويه بفعالهم و تبرير لنذالتهم و خستهم، فهم يعني " الصعاليك أو الخلعاء أو الذؤبان امتازوا على فئة الموالي و طبقة العبيد بالشهامة ( و ما معنى الشهامة غير حمل السلاح ؟؟) و المروءة (يا سلام و هل من مروءة في الغدر و القتل و السلب و السبي و النهب؟؟ هذا ما يدفعنا إلى التساؤل حول المعايير الأخلاقية التي يقيس عليها هؤلاء الإخباريون أحكامهم الأخلاقية ؟؟؟).إذ أنهم ما كانوا يستأثرون لأنفسهم يما كانوا ينهبونه من الأغنياء البخلاء( و ما هي المقاييس التي كانوا يتخذونها في الحكم عليهم بالبخل من غيره؟؟).بل كانوا يعطونه طواعية و اختيارا( لأنهم لم يشقوا فيه و لم يتعبوا عليه بل كان رزقا ساقه الله إليهم ) للفقراء و المعدمين الذين حكم عليهم المجتمع القبلي بالعوز و الفاقة و الحرمان(سؤال يطرح نفسه بإلحاح هنا هو إذا ما كان المجتمع القبلي يشكومن كل هذه السلبيات و النقائص فلماذا بقي صامدا لحد الآن؟؟؟؟).و يتوج منذر الجابوري تهليله بالصعاليك معلنا أنهم امتازوا بنظرات إنسانية متقدمة إذ كانوا يعمدون إلى تلك المآتي لإغاثة المعوزين (أيام العرب و أثرها في الشعر الجاهلي ، منذر الجابوري،ص 16)
نلك هي البنية الرئيسية و الهندسة الاجتماعية للقبيلة العربية عموما و لقريش خصوصا، كما ترسمها لنا السير و الأخبار. و يتبين من خلالها أن المادة الرئيسية التي تتشكل منها التركيبة الاجتماعية للقبائل العربية هي طبقة الفقراء الطويلة العريضة  المتذمرة و الساخطة ، و التي تمتد لتشمل العبيد و الموالي و الصعاليك  و الخلعاء و الطرداء و المحرومين و أبناء السبيل.و هؤلاء للتذكير هم الذين جمعهم قصي أول أمره ، و أجهز بهم على بني خزاعة و كنانة و بكر ، ثم أدخلهم الحرم و اقتطع لهم الأرباع و أسكنهم الأبطح و سمّاهم قريشا و وعدهم بالسيادة على كل العرب. و ها هو ذا عبد الدار يتجاسر عليهم و يتجاوزهم  و يستن القواعد و القوانين ليضيق عليهم و يحد من نفوذهم و ينال من مكانتهم السياسية و الاجتماعية في البنية المختلة التي تعرضها علينا السير و الأخبار.
أما هاشم بن عبد مناف فيقدمه لنا ابن الكلبي على أنه هو صاحب الإيلاف و منظمه و الساهر على تنفيذ بنوده. و هو السفير بين قصي و أهل الشام الذين كانت تعنيهم الأوضاع الأمنية بالحجاز إما لسبب الاتجار أو لحماية الحدود. فهاشم كان هو المتعهد لهم بالأمن و الضامن عندهم للأمان. إذ لا يعقل أن تكون تجارة البخور و الجلود و السمن و الزبيب و الحمير الحجازية بحاجة إلى أمان من قيصر الروم أي إلى معاهدة على أعلى مستوى حسب مصطلحاتنا المعاصرة تسمح لها بأن تدخل أسواق الروم . أما إذا كانت هناك فعلا من تجارة فعلية بين بيزنطة و مكة، فإن التجار الروم هم الأولى بأخذ الأمان في هذه الحال و تجارتهم أولى بالتأمين و الحراسة.لأنهم مقدمون على أرض تحكمها قواعد الغدر و السطو و شريعة الخلاء، أسيادها الذؤبان و رجالها العداءون..و الروم من جهة أخرى ليسوا في حاجة اقتصادية لتجارة مكة إذ ليس لقريش من مواد حيوية تحتاجها الروم الشرقية في حياتها اليومية أو حركتها الاقتصادية.و لكن بالعكس ، فأهل مكة و ورش مكة  هم من يحتاج منتجات بيزنطة المختلفة و المتنوعة و رؤوس الأموال الرومية.فإذا كان هناك من شيء اسمه الأمان فالأحرى أن يكون قد أعطي للروم و أهل الشام و ليس العكس كما توحي لنا به السير. و أمان (معاهدة يعني) بهذا الحجم المهول و بهذه الأهمية الخطيرة، كما يصور الإخباريون، لو أن البيزنطيين أخذوه من أي جهة أو أعطوه إليها لكانوا كتبوه و أشهروه و ذكروه في مقالاتهم و أخبارهم ، و الحال أن هذا الأمان لا تجد له أثرا في كتابات الإغريق و الرومان التي على العكس، تحدثت بإسهاب عن عرب اليمن السعيد الذين قاموا بمدّهم بالطيوب في العصور السالفة، وقدمت لنا وصفا عن مدنهم و قبائلهم و نظمهم السياسية و قوافلهم التجارية. كما كتبوا عن الحبشة و أدوليس في القرن السادس،لما كانت الأوضاع السياسية و الاقتصادية في الجزيرة العربية تجذب انتباههم، و مع ذلك لم يرد أي ذكر لقريش و لا لنشاطها التجاري الخطير و لا لأمان قيصر لهاشم لا عند الإغريق و اللاتين و لا عند السوريين و الآراميين و الأقباط و كل الكتابات التي تم تأليفها خارج بلاد العرب قبل الفتوحات.
فهاشم هو من أعطى الأمان لأهل الشام، لأنه  بكل بساطة هو المتحكم في قراصنة الصحراء و قطاع الطرق و النائب عنهم و المتحدث باسمهم ، بموجب الإيلافات التي عقدها معهم.فلو أن هذه العهود أبرمت مع شيوخ القبائل البدوية العدوة كما يوحي تعليق العلامة جواد علي ، فإن سؤالا هنا يطرح نفسه ، وهو: ما موقع الغساسنة من الإيلاف؟ فالسير تخطت الغساسنة و أخرجتهم من مسرح الأخبار، و حصرت الإيلاف في قريش و القبائل العدوة، أما الغساسنة الدولة التجارية التي تملك أرض الشام متجر قريش و تمتد حدودها الجنوبية لغاية يثرب فغيبت ذكرها السير و مسحت اسمها الأخبار حتى لتكاد لا تجد للغساسنة ذكرا منذ قصي إلى غاية خيانات الفتوحات التي سنتحدث عنها بإسهاب في حينها و كأن ما يحدث بين الروم و أهل قريش لا يهم بني غسان !!! و الواقع أن الغساسنة قوم تجار و صناع و مزارعون مهرة تشهد لهم  الآثار و كتابات الإغريق و الرومان و معاملاتهم التجارية مع الأقوام في مصر و بيزنطة و أرض ما بين النهرين. و الأدهى و الأمر أنهم كانوا يتاجرون فيما يتاجرون في الزبيب و الجلود المدبوغة و العطور و البخور ، نفس البضائع التي تدعي قريش المتاجرة فيها!!! فأ ليس من غير المعقول ألا يتخوف الغساسنة من أي توسع تجاري لغيرهم على حسابهم؟؟؟ فالمصادر الإسلامية لا تحدثنا عن أي رد فعل للغساسنة  اتجاه الاجتياح التجاري المكي المزعوم لأرضهم و التضييق على تجارتهم. كما أن كتب الإغريق و اللاتين لا تحدثنا عن أي مضايقة أو منافسة خضعت لها تجارة بني غسان.فما موقع الغساسنة من الإيلاف و الأمان؟و إذا ما افترضنا أن هذه المعاهدات إنما تمت مع الغساسنة بين قريش وملوك الشام وليس  قياصرة الروم، باعتبار أنه لا يوجد لدينا أي دليل مادي يؤكد لنا أن العرب و خصوصا قريشا و بالأخص هاشما بن عبد مناف قد وصلوا إلى أنقرة أو القسطنطينية، فيبقى السؤال المشكلة هو هل يعقل أن تبرم غسان معاهدات لاستيراد نفس المنتوجات التي تنتجها داخليا بوفرة و تسهر على تصديرها لكل البلدان؟؟ و إذا ما حصل و عقد مثل هذا الأمان أ لن يكون له تأثير سلبي على الحركية الاقتصادية الداخلية في غسان خصوصا و أن السير تخبرنا عن أمواج متلاطمة من قوافل الزبيب و السمن و الطيوب التي تتدفق على الشام من مكة...؟
لندع أمر التجارة قليلا ، و التساؤلات المشروعة المنبثقة عنها فإننا سنفرد لذلك بابا خاصا به. و لنعد الآن لهاشم و بني عبد الدار لنقول بأن إيلافات هاشم قد تمت كلها في حياة قصي.ذلك أن هاشما الذي يرجح النسابون و الإخباريون أنه عاش ما بين عشرين و خمس و عشرين سنة (البلاذري ـ أنساب ـ 1/63) تثبت الأخبار أنه توفي بعد جده قصي بسبع عشرة سنة، و  بالضبط سنة سبع و تسعين و أربعمائة للميلاد.فإذا حذفنا سبع عشرة سنة من خمسة و عشرين التي يرجح أن هاشما عاشها فستبقى لدينا ثمان سنوات. فهل يعقل أن يكون قصي قد أرسل لقيصر الروم طفلا سفيرا عمره ثمان سنين ليعقد معه معاهدات الأمان؟ثم قصة زواجه من سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجية التي أخرجها ابن سعد في طبقاته هل حدثت في هذا العهد هي الأخرى؟ و هل يعقل أن ينجز فتى توفي في ريعان شبابه كل تلك المآثر و الأعمال التي تنسبها السير إلى هاشم؟؟.و من جهة أخرى نجد السير تؤكد على أن عبد المطلب بن هاشم قد عاش مائة و ثمان سنين ، و أنه توفي لما بلغ الرسول ثمانية أعوام.فإذا كانت السير تتفق على أن الرسول قد ازداد عام الفيل الموافق لسنة 570م، فإن عبد المطلب سيكون قد توفي سنة 578م . و عليه فإذا حذفنا من تاريخ وفاته هذا ، تلك المائة و الثمانية سنين التي عاشها فإننا سنحصل على تاريخ ميلاده الذي لا تسعفنا به السير و الذي سيكون هو سنة 470م.و عليه فسيكون الفارق بين تاريخ ازدياد عبد المطلب الابن و تاريخ وفاة هاشم الأب هو 29 سنة، بينما السير تقول أن هاشما لم يعش إلا خمسا و عشرين سنة على أبعد تقدير.فهل هذا يعني أن عبد المطلب قد ازداد قبل أبيه بأربعة سنين؟؟؟؟. لقد عاش هاشم أكثر من خمس و عشرين سنة أبرم الاتفاقات في عهد أبيه و بمجرد وفاة قصي و وصايته بمقاليد الزعامة لعبد الدار و إقدام عبد الدار على مسألة الأحابيش ثار هاشم و إخوته بنو عبد مناف في وجه عبد الدار و " أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيديهم من الحجابة و اللواء و الرفادة و السقاية و الندوة و رأوا أنهم أحق به منهم لشرفهم عليهم و فضلهم في قومهم (طبقات ابن سعد الجزء الثاني ذكر هاشم بن عبد مناف) فكان حلف المطيبين مع هاشم و لعقة الدم مع عبد الدار .و لما كادت الحرب أن تنشب "تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف الرفادة و السقاية (نفس المصدر السابق و نفس الصفحة). فالظاهر مما أخرجه ابن سعد عن ابن الكلبي و عن عبد الله بن نوفل بن الحارث و غيرهما أن هاشما كان يطمع في الرفادة و السقاية أكثر من أي وظيفة أخرى من وظائف الزعامة. و السبب في ذلك هو اتصالها المباشر بالإيلاف مع الصعاليك.تقول السير بأن الرفادة هي إطعام الحاج و المعتمر لغاية رحيله عن مكة. و نحن نسأل أي حاج هذا الذي يحتاج إلى كل هذا الطعام الذي يهيأ بمكة حسب الأخبار؟؟فالحاج يفترض فيه أنه قادم إلى مكة قصد التبرك و التصدق و الاستبضاع من أسواق مكة، و كل هذه الأمور تتطلب من  الحاج أن يكون معه مال لينفق منه على نفسه و على سفره.كما أننا من جهة أخرى نعلم أن أهل قريشا كانوا يفرضون على الزائر حقا يدعونه حق قريش و من جملة ما كانوا يأخذونه من الغريب القادم إليهم ثيابه أو بعض بذنته التي ينحر(الاشتقاق 172 ـ المصنف 2/21) فمن هم الحجاج الذين كانت تطعمهم مكة على حسابها إذن؟؟؟ ثم من جهة أخرى إذا كان أهل مكة ينفقون على الحجاج سنويا كل هذه الأموال التي تجمع باسم الرفادة لأنهم معدمون و فقراء محرومون فما الجدوى إذا من موسم الحج و ما الجدوى من مثل هؤلاء الزوار و ما الجدوى من السكن بمكة إذا؟؟؟ ثم من جهة أخرى مع من كان يتاجر هؤلاء المكيون أيام موسم الحج؟ و بمن كانت تعمر أسواق عكاظ و مجنة و ذي المجاز؟؟؟.فمن جهة تعلمك السير أن الأسواق تزدهر في موسم الحج و من جهة أخرى تقدم لك أفواج الفقراء و المعدمين متجهة لتأكل السخينة في مكة.و ذاك ديدن المصادر العربية في كل وقت و حين . أما الحجاج ، فكما هو حالهم اليوم كانوا يحملون أموالهم و زادهم و أقواتهم التي يتصدقون منها على متسولي القروش ناكري الجميل. و ما كانوا أبدا بحاجة لسخينة و لا عصيد قريش.إنما الرفادة كانت حقا معلوما للصعاليك و الخلعاء في أموال قريش.
و إلى حلقة أخرى في القريب العاجل

أبو نبي الصعاليك

الأحد، 11 يوليو 2010

مملكة الصعاليك و قبائلها







القبائـــــــــــــل العربية وأديانهـــــــــا قبل أن يبيدها  ألإسلام


 والعرب في أصلها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

1- العرب البائدة: وهم القدامى، مثل: عاد و ثمود و طسم و جديس و عملاق ..
2- العرب العاربة "القحطانية" : وهم المنحدرون من صلب يعرب بن يشجب بن قحطان .
3- العرب المستعربة "العدنانية":
والعرب العاربة مهدها اليمن، وقد تشعبت قبائلها وبطونها، فاشتهرت منها قبيلتان:
الأولى: حمير، وأشهر بطونها: زيد الجمهور ، و قضاعة ، و السكاسك .
والثانية: كهلان ، وأشهر بطونها: همدان، وأنمار، وطيء ، ومذحج ، وكندة ، ولخم ، وجذام ، والأزد ، والأوس، والخزرج ، وأولاد جفنة ملوك الشام.
ونتيجة الظروف الاقتصادية ، والصراع بين حمير وكهلان ، هاجرت بطون كهلان من اليمن قبيل سيل العرم ، وانقسموا إلى أربعة أقسام :
1- الأزد: وسيدهم عمران بن عمرو ، وسكنوا الحجاز ، وعُمان ، وتهامة.
2- لخم وجذام: وفيهم نصر بن ربيعة أبو الملوك المناذرة بالحيرة.
3- بنوطيء: نزلوا بالجبلين أجا وسلمى في الشمال.
4- كندة: نزلوا البحرين ، ثم حضرموت ، ثم نجد ، التي كوَّنوا بها حكومة كبيرة.

أما بالنسبة للعرب المستعربة ،
وقد تفرقت بُطون "معد" من ولده نزار، الذي كان له أربعة أولاد، تشعبت منهم أربع قبائل عظيمة: إياد وأنمار وربيعة ومضر، والأخيران هما اللذان كثرت بطونهما، واتسعت أفخاذهما، فكان من ربيعة : أسد ، و عنزة ، و عبد القيس ، وابنا وائل - بكر و تغلب -، و حنيفة وغيرها.
وكان من مضر : شعبتين عظيمتين : قيس عيلان ، و إياس .
فكان من قيس عيلان : بنو سليم ، وبنو هوازن ، وبنو غطفان التي منها : عبس وذبيان وأشجع.
وكان من إياس : تميم بن مرة ، و هذيل بن مدركة ، وبنو أسد بن خزيمة ، و كنانة بن خزيمة التي منها قريش، وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة .
وانقسمت قريش إلى قبائل شتى، أشهرها : جمح ، وسهم ، وعدي ، ومخزوم ، وتيم ، وزهرة، وبطون قصي بن كلاب ، وهي: عبد الدار ، و أسد بن عبدالعزى ، و عبد مناف .
وكان من عبد مناف أربع فصائل : عبد شمس ، و نوفل ، و المطلب ، و هاشم ، وهو الجد الثاني لنبينا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم
ولما تكاثر أولاد عدنان تفرقوا ، وانتشروا في بلاد العرب متتبعين سبل العيش ، فتوزعوا في البحرين ، واليمامة ، والعراق ، وخيبر ، والطائف ، وبقي بتهامة بطون كنانة ، وأقام بمكة بطون قريش.

القبائل العربية اليهودية
قبيلة حمير, قبيلة بني كنانة وقبيلة بني الحارث بن كعب وقبيلة كندة و بعض من قبيلة قضاعة
ذكر ياقوت الحموي في معجمه وكذلك أبن حزم الأندلسي الظاهري في جمهرة أنساب العرب وأيضاً ابن قتيبة في حديثه عن أديان العرب في الجاهلية: أن " اليهودية كانت في حمير و بني كنانة و بني الحارث بن كعب و كندة و بعض قضاعة."
وذكر كتاب تاريخ اليعقوبي (1) أن بني النضير فخذ من جذام تهودوا و نزلوا جبل يقال له نضير فسموا به، و أن بني قريظة أيضا فخذ من جذام تهودوا و نزلوا بجبل يسمى قريظة فنسبوا إليه. أما صاعد البغدادي الأندلسي، صاحب المصنفات، والذي كان من المقربين من محمد بن أبي عامر المعروف بالمنصور، فقد ذكر صاعد مجموعة من القبائل التي تسربت إليها اليهودية مثل حمير و بني كنانة و بني الحارث بن كعب و كندة. و ذكرت مصادر أخرى أن اليهودية وجدت في بعض الأوس من قبائل الأنصار، و بني نمي
===========
المـــراجع
(1) تاريخ اليعقوبي، مجلدان، أحمد بن أبي يعقوب المتوفى سنة (284 ه ـ 897 م). هذا الكتاب هو من أقدم النصوص التاريخية في عصر الإسلام و أكثرها اعتباراً حيث يبتدأ من زمن هبوط آدم و يستمر إلى ظهور الإسلام و ينتهي بالحوادث الواقعة عام (259 ه ـ 872 م)
موسوعة تاريخ أقباط مصر 

الخميس، 1 يوليو 2010

مملكة الصعاليك ـ حلم يتبخر


توفي قصي أول من أقام ملكا بمكة أطاع له به قومه.
توفي قصي الغساني أو زيد القرشي
فتوفي الله
فأيهما تختار
فقصي إله و زيد صنم.
توفي الإله
و الملك تبخر
فقصي رأى حلما من ورق
ما لبث أن عرج في الآفاق
و احترق
توفي قصي لكن بعد أن وصى لبكره بجميع السلطات التي أوحي إليه بها، بعد أن كان قد وزعها في بنيه، و خصّ كلا منهم بمهمة من مهام تسيير شؤون مكة.
توفي قصي المرتزق الذي كان في إطار مهمته تأمين تجارة الروم الشرقية عبر الطريق الصحراوي المخترق لجبال الحجاز، و لهذا الغرض بُعث به من بني عذرة إلى مكة أكبر موقع بالجزيرة تلتقي عنده الطرق الصحراوية  و تتقاطع فيه. فلما وضع يده على مكة، سار يتتبع الطرق التي تتفرع عنها شمالا و جنوبا،شرقا و غربا.فعمل ،هو وأبناؤه، على التودّد إلى الصعاليك و الخلعاء الذين يعبثون بأمنها و يسطون على سابلتها.فكانوا يستدعونهم إلى مكة و يستضيفونهم فيها و يحمونهم بحماها و يقتطعون لهم الأراضي فيها، و يسكنونهم البطاح حول بيت مال العرب . فأضحت مكة العارية المفتوحة على كل الجهات، بهذه السياسة الحكيمة، في غنى عن بناء الأسوار و اتخاذ الآطام لحماية نفسها من الغارات.إذ غدت ، بهذه الطريقة، تحمي نفسها بواسطة أولئك الذين يفترض فيهم أن يغيروا عليها.و تلك لعمري ،أخبث وسيلة للدفاع عن النفس.أن تتخذ عدوك ذرعا لك تتقي به دونه،  و تدود بواسطته عن نفسك و حوزتك . فتلك أقل ما يقال عنها أنها من أكبر علامات مكر قريش و دهاء قصي...و حماية مكة في الحقيقة لا تتطلب بناء الأسوار و الأبراج ، لأن سلاسل الجبال المحيطة بها تشكل حاجزا طبيعيا منيعا ،يحيط بها من كل الجهات ،إلا من أربعة منافذ تخترقها الطريقان المارتان بمكة و المتقاطعتان وسطها.لذا كان أمن مكة ينحصر في التحكم في تلك المنافذ الموصلة إليها ، و التي لم تكن أبوابا يمكن التحكم في فتحها و إغلاقها و إنما هي طرق معاش أهل مكة التي لا زراعة فيها و لا صناعة غير التمعش على ما يتبرك به الحاج و يتبرع به التاجر و تأتيهم به تلك الطرق. لذا فإن أمن مكة كان يقتضي من القائمين عليه، تأمين كل شبر من الطرق الموصلة إليها و المتفرعة عنها. و وضْع اليد على الصعاليك الذين يهددون أمن تلك الطرق و احتواؤهم إنما يعني تسخيرهم  أنفسهم في تحقيق ذلك الأمن و حراسة تلك الطرق و ضمان السير فيها، لمن تختاره قريش، فردا كان أو جماعة ، حاجا كان أو تاجرا..فلا صغيرة و لا كبيرة تحدث على الطريق و لا دابة و لا طير يسير عليها إلا و يصل خبره إلى قريش ، و يسجل عندها. و هذه هي نفس السياسة التي سوف ينتهجها العرب في توسعهم و استعمارهم للمالك و الأقطار من حولهم.ففي إطار احتلالهم للبلدان ، كان العرب يبدءون بالاستيلاء على المسالك و المفاوز و الفجاج ، فيفرضون الحصار على الأهالي، ثم يستقطبون صعاليكهم و مجرميهم و قطاعهم ، و بعد أن يؤطروهم بدينهم الإسلامي و يعمّدوهم في بحر إجرامهم ، يشرّعون لهم الإغارة على أقوامهم و سبي أهاليهم و قتلهم و الإتيان بالغنائم للعرب.فالعرب لم يحموا يوما أنفسهم بأيديهم و لم ينشروا يوما دينا بسواعدهم.إنما كانوا يفعلون ذلك بمكرهم و نفاقهم و بهتهم.حتى مكة مصدر عيشهم و حصن عزتهم و فخرهم و الكعبة بيت مالهم لما استقصدهما أبرهة بفيلته قالوا له إنما للبيت رب يحميه.ثم يدّعون أن الله في علاه تدخل و أرسل من ثكنته السماوية الفانتوم ترمي الفيلة بالصواريخ. ثم من بعد هذا تراهم في كتابهم يعيبون على اليهود أبناء أعمامهم قولهم لموسى الصعلوك أذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.
توفي قصي الذي نكر جميل بني خزاعة إذ آثروه على أنفسهم و أصهروه إليهم و أنكحوه أشرف بيوتاتهم، و رضوا به عليهم شيخا و زعيما.فأخرجهم من مكة شر إخراج و أجلاهم عنها و نفاهم في الأرض جميعا، بعد أن سلب متاعهم و رمّل نساءهم و قتل كبارهم و سبى صغارهم.و جاء من بعدهم بصعاليكه ليقتطع لهم الحرم رباعا ، فأصبحوا هم حماته الحقيقيون بدل الأصنام و الأرواح و الآلهة الوهميين.و أصبحت لهم العزة و المناعة التي وعدهم بها ، فأصبحوا يغيرون و لا يغار عليهم يسبون و لا يُسبون، و يجيرون كل من آوى إليهم من ذوي السوابق و طلاب الطوائل و المجرمين و اللصوص و قطاع الطرق و الذؤبان  و الشياطين.فغدت قبائل العرب جميعها تهاب قريش، و أضحت الطرق التي تسري في الجزيرة العربية كلها في ملكية قريش و حوزتها و تحت تصرفها.و أصبح صعاليك الأمس لا يهددون أمن الطرق بل يعملون على تيسير الحركة فيها، و تأمينها من الغرباء و الخلطاء و منتهزي الفرص و الصعاليك الجدد الذين ما فتئت قبائل العرب تفرّخهم بازدياد. فكانوا يغيرون على الأفراد إلا الحاج الساذج و المعتمر الغبي، و على القوافل التجارية عدا قوافل قريش.هكذا غدا كل قرشي ، في عين العرب، صعلوكا ، و كل صعلوك أينما كان قرشيا ، و أصبحت الأرض كلها للصعاليك يفعلون فيها ما يشاءون مقابل حماية مال و قوافل قريش.
هكذا قام قصي بمأموريته أحسن قيام وبأقل التكاليف و في أقل وقت ممكن.فبعث بحفيده هاشم سفيرا إلى الروم ليبلغهم بنجاح المهمة و يطمئنهم على حسن سير الأمور.و في طريقه إليهم أخذ لهم الإيلاف من القبائل التي سيطرت عليها قريش مقابل خراج يدفع لتلك القبائل و حمل بضائعها.فكان هاشم صاحب الإيلاف و العقود و الحبال المشرف على التجارة الداخلية و الخارجية، ما أعطاه مكانة بين جميع أفراد آل قصي.و كان إلى ذلك محبا للصعاليك منادما لهم يصحبونه في حلّه و ترحاله و كان مشجعا لسياسة احتوائهم. فلما توفي قضي و أوصى بمقاليد الزعامة لعبد الدار ،تجرد هاشم من كل سلطاته. و تفرغ لتجارته مستفيدا مما بين يديه من الحبال و الإيلاف. و الظاهر أن عبد الدار الذي لم يكن كما تشير إليه السير و أهل الأخبار ضعيف الإرادة ، الفقير بين إخوته ، و الذي لم يستفد من فترة حكم أبيه، و أن إخوته كانوا أحسن منه حالا و أكثر مالا لذا أوصى إليه قصي بكل الوظائف، كان له رأي في أمر تسيير مكة غير ما نهجه أبوه.فعبد الدار كان تلميذ أبيه في السياسة و تدبير شؤون الحكم، و كان ساعده الأيمن في تسيير أمور مكة من حجابة و رفادة و دار الندوة و نظام المدينة و أمن السابلة. فالظاهر أن موقعه القريب من الحكم خول له الإطلاع أكثر من إخوته على خفايا الأمور و بواطن الأشياء ما كوّن لدبه اعتقادا و قناعات لا تتوافق بالأساس مع سياسة أبيه و خصوصا في مسألة احتواء الصعاليك.ففي حين نجد قصي ينطلق من الأرضية المتاحة و المواد المتيسرة،كان عبد الدار يتشوف إلى تخطي فكرة اعتماد الصعاليك  في أمر تأمين مكة إلى إنشاء قوات نظامية تكون مهمتها الدود عن مكة و حماية مصالحها و توفير أمنها.فكان أن استغنى عن الصعاليك و ترفّع عنهم و أحطّ من قدرهم و أهمل جانبهم؛و هم على ما هم عليه من الخطورة و الأهمية؛فهم جند قصي و فاتحوا مكة لمتسولي الظواهر و متسكعي المنتجعات و متسولي القروش.
حدث هذا في الوقت الذي أصبحت فيه مكة ورشا كبيرا للتشييد و البناء، فكانت المنازل و الدور و الأحياء تقام في كل مكان، و السلع و البضائع و الأدوات تستقدم من كل حدب و صوب . فحدث أن تعاظمت التجارة الداخلية و اتسعت الأسواق، و ازداد العملة و الصنعة و البناءون، و ارتفعت المنازل و القصور، و كبرت ثروات التجار و تزايدت أعداد الأغنياء ، و نمت رؤوس أموالهم، و كبرت بهم أرباح شركة هاشم العابرة للقارات ، الذي بقيت بين يديه الإيلافات و الحبال و العهود، فالتجأ إليه كل ذي رأس مال يسهم به في تجاراته الرابحة و المضمونة بحبل وصاله للصعاليك. و حدث أن كبرت الثروات و كثر السادات و تعددت أسماؤهم و تجاراتهم و سهومهم ، و شمخت منازلهم و توسعت عماراتهم فأصبح لديهم الخدم و الحشم و العبيد و الموالي و المأجورون،فاتخذوا منهم حراسا لمنازلهم و مضاربهم و نواطير لأحيائهم . و راحوا يطالبون دار الندوة بضرورة توفير الأمن لأموالهم التي يستودعونها بيت مال الكعبة.فالغرباء و الخلطاء و عابرو السب لتزايدت أعدادهم، و الصعاليك لا يؤمن جانبهم.هذا ما دفع بعبد الدار، و هو الخبير بشؤون تسيير أمور المدينة و المسئول عن أمن البيت و الأموال إلى اتخاذ قراره الحاسم بإنشاء جهاز أمني توكل إليه مهمة حراسة البيت و أمن المدينة.يقول حسين مروة "فإن إقامة شرطة لحراسة البيت كان يعني أمرا غير ما يتبادر إلى الأذهان من رعاية قداستها فحسب، بل هو حماية أموال القرشيين الذين استغلوا هذه القداسة ليودعوا الكعبة خزائن أموالهم، أما إقامة شرطة لحماية منازلهم فكان يعني حمايتها من غضبة الفئات الناقمة في المدينة أي في مكة و لنقمة الحجاج الفقراء.(النزعة المادية في الفلسفة العربية 1/231).فكلف عبد الدار في هذا الإطار أخاه عبد مناف بن قصي باتخاذ القرارات اللازمة لهذا الغرض..فأخذ المهمة عبد مناف بكل حزم و استدعى إليه عمرو بن هلال بن معيط الكناني و تدارسا الأمر مليا فانتهيا إلى تأسيس قوات نظامية سموها بالأحابيش،يقول في شأنها الأستاذ لامانس أنها قوات عسكرية ألفت من العبيد و السود المستوردين من إفريقية و من عرب مرتزقة كونتها مكة للدفاع عن نفسها. و هذا التفسير لا يروق بطبيعة الحال لأهل السير و الأخبار القدماء منهم و المحدثون.ذلك أن مشكل السير عندنا أنها لا تؤرخ شأنها شأن كل السير لأناس أخيار ، إنما هي تؤرخ لعتاة الأشرار.فيجد أهل الأخبار أنفسهم أمام مأزق تقديم الشرّير خيّرا و الخيّر شرّيرا، و مأزق آخر أعظم منه و أخطر ، مأزق تفصيل التاريخ على مقاس القرآن.فعوض أن يفسروا النصوص على ضوء أحداث التاريخ الواقعية تجدهم يجهدون أنفسهم في تطويع الأحداث حتى تتناسب مع نصوص القرآن.فيبخّرون الواقع ليحولوه خيالا و يحوكون المخاريق ليفرضوها واقعا.فقريش ، كما مر بنا ، تعني مرة التجمع و مرة تعني دابة في البحر و في ثالثة رأيناها تعني الكسب و التجارة و ادخار الأموال .و كذلك الحال عندما تسأل أهل الأخبار و السير عن الأحابيش، فإنك لا تظفر منهم بجواب يشفي لك الغليل.و لكنهم لا يقبلون منك أن يكون الأحابيش عبيدا سودا من أفريقية كان أهل مكة يوكلون إليهم حمايتهم و حماية أراضيهم و ممتلكاتهم و بالتالي العيش تحت رحمتهم.إذ مكة حسب رأيهم لا تعيش إلا تحت رحمة رب العالمين.فتورد السير و الأخبار في هذا الباب أن من أهل مكة جماعة عرفت بالأحابيش ، و أنهم من حلفاء قريش ، و هم بنو المصطلق و الحياء بن سعد بن عمرو، و بنو الهون ابن خزيمة، اجتمعوا بذنب حبشي و هو جبل أسفل مكة.فتحالفوا بالله إنا ليد على غيرنا ما سجا ليل و أوضح نهار، و ما أرسى حبشي مكانه.و قيل إنما سموا بذلك لاجتماعهم ، و التحابش :هو التجمع في كلام العرب (العمدة 2/194، اللسان 6/278، حبش).و ذكر أنهم اجتمعوا عند حبشي فحالفوا قريشا. و قيل أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في الحرب التي نشبت بينهم و بين قريش قبل الإسلام. فقال إبليس لقريش إني جار لكم من بني ليث فواقعوا دما، سموا بذلك لاسودادهم،قال:
ليث و دِيل و كعب التي ظأرت
جمع الأحابيش لمّا احمرت الحدق
فلما سميت تلك الأحياء بالأحابيش من قِبَل تجمّعها صار التحبيش في الكلام كالتجميع (اللسان6/678)
من خلال هذه القراءة لمعنى الأحابيش يتبين للمرء مدى الجهد العظيم الذي يبذله أهل الأخبار للتستر و التضليل على معنى الأحابيش .فهم تارة عرب تجمعوا حول جبل حبشي فتسموا به و تحالفوا مع قريش .و هم تارة أخرى أحياء بدون هوية من القارة تحالفوا ضد قريش مع شياطين (صعاليك) بني ليث.و حتى تصبح الأسطورة واقعا و الخرافة حقيقة فترى بأم عينيك الديك حمارا،فإنهم أرجعوا سوادهم إلى أنهم عادوا قريشا وتحالفوا ضدها و واقعوا دما فسموا بالأحابيش.فهم إذا ليسوا سودا عبيدا لأنهم استقدموا من إفريقية إنما حصل لهم السواد و العبودية نتيجة تحالفهم ضد قريش
و عندما أراد الدكتور جواد علي تبرير تذبذب أهل الأخبار في شأن الأحابيش و الرد على مقولة لامانس قال بأن تسمية بني الحارث بن عبد مناة من كنانة و من أيدها من بني المصطلق و بني الهون بالأحابيش قد تكون وردت إليهم من أجل خضوعهم لحكم الحبش، و ذلك بزمن طويل.ذلك أن ذاك الساحل من الجزيرة العربية الذي ذكر بطليموس أن الحبشة كانت تحتله ، إنما هو حسب رأي جواد علي ساحل تهامة و منازل كنانة.و يضيف بأن الحبش قد بقوا فيه طويلا و اختلطوا بسكانه، فيجوز أن تكون لفظة الأحابيش قد لحقت بعض كنانة من خضوعهم للحبش حتى صارت اللفظة لقبا لهم، أو علما لكنانة و من حالفها. و يجوز أن تكون قد لحقتهم و لحقت الآخرين معهم لتميزهم عن بقية كنانة و من انضم إليهم ممن سكن خارج تهامة. أو لتزوّج قسم منهم من نساء حبشيات حتى ظهرت السمرة على سحنهم..و يستطرد قائلا: فليس من اللازم إذا أن يكون الأحابيش كلهم من حبش إفريقية، بل كانوا عربا و قوما من العبيد و المرتزقة ممن امتلكهم أهل مكة (المصنف 4/32 ـ 33) .هكذا لف جواد كل هذا اللف ليصل في الأخير إلى أن الأحابيش عبيد و مرتزقة كما قال لامانس ، و أضاف إليهم قبائل عربية كانت قريش تستعبدهم و تستغلهم في أبشع الأعمال ، و هم قبائل كنانة و بني خزاعة المنهزمتين و اللتين أصبحتا عنوان كل شر مستطير لدى أصحاب السير و أهل الأخبار.
و كما اختلفوا في أمر تسميتهم و أصلهم ، فقد اختلفوا في أسباب تجمعهم و تحالفهم.فقد أورد محمد بن حبيب أن عبد مناف و عمرو بن هلال بن معيط الكناني عقدا حلف الأحابيش( المحبر 246) إلا أن اليعقوبي في إطار وصفه للأحابيش يذكر : أنه لمّا كبر عبد مناف بن قصي جاءته خزاعة و بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة يسألونه الحلف ليعزوا به.فعقد بينهم الحلف الذي يقال له حلف الأحابيش ( تاريخ اليعقوبي 1/212).فبمقتضى الرواية الأولى نجد أن عبد مناف ممثل قريش قد اجتمع بعمرو قائد الأحابيش فتعاقدا على التحالف بين قريش و جماعة الأحابيش.بينما الرواية الثانية تفيد بأن الأحابيش جماعة منفلتة عن السلطة اجتمعوا فيما بينهم و كونوا حلفهم ثم عرضوه على قريش لينال منهم المصداقية ويحظى عندهم بالقبول ، فيضفوا عليه صبغة الشرعية و القانونية.و هذا ما لا يقبله عقل و لا يوافق نظام مكة و قريش.
إلا أن هذه السير تتفق في شيء و هو كون هؤلاء الأحابيش قوات عسكرية عملت لصالح قريش في العديد من الملاحم و الوقائع.فقد ورد في المحبر عن محمد بن حبيب أن المطلب بن عبد مناف بن قصي قاد بني عبد مناف و أحلافها من الأحابيش ـ و هم من ذكرت ـ يوم ذات نكيف، لحرب بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. (المحبر 246). و ذكر الطبري أنهم قد ساهموا في الدفاع عن مكة عام الفتح، و كانوا قد تجمعوا مع بني بكر و بني الحارث بن عبد مناة و من كان من الأحابيش أسفل مكة،كما أمرتهم قريش بذلك، فأمر رسول الله خالد بن الوليد أن يسير عليهم، فقاتلهم حتى هزموا، و لم يكن بمكة قتال غير ذلك (الطبري 3/56،فتح مكة). و مع ذلك نجد جواد علي الذي لا يستبعد أن يكون الأحابيش من الساحل الإفريقي المقابل لجزيرة العرب جاؤوا إليها بالفتوح و بالنخاسة و أقاموا في تهامة إلى مكة، و عاشوا عيشة أعرابية متبدية و تخلقوا بأخلاق عربية حتى صاروا أعرابا.. نجده يتلكأ في مسألة الاعتراف للأحابيش بهذا الدور المتفق عليه بين سائر أهل الأخبار فيقول بأنهم ، أي الأحابيش، و إن ساهموا في تلك الحروب إلا أنهم لم يلعبوا دورا خطيرا فيها.لماذا؟ هل لم يكونوا مدربين بما فيه الكفاية؟ هل كانت تنقصهم الكفاءات القتالية؟ هل كانت تعوزهم المهارات و الأدوات القتالية؟؟ أم أنهم كانوا جبناء رعديدون كلما استعرت وهيج الحروب ولوا الأدبار كما العرب يفعلون؟؟ فيتدخل جواد علي مجيبا لا ليس هذا و لا ذاك ، إنما "لم يكن الأحباش وحدهم قد ساعدوا أهل مكة في حروبهم مع غيرهم فقد ساعدهم أيضا طوائف الأعراب ، أي البدو الفقراء الذين كانوا يقاتلون و يؤدون مختلف الخدمات في سبيل الحصول على خبز يعيشون عليه (المصنف 4/35 ـ 36).فلله درك يا جواد! و لله درك يا سير! لم يرضكم أن يكون العبيد الأحباش قوام قوات قريش و فضلتم أن يكون قوامها الجياع و المعدمون؟؟!فكيف ستكون حال قوات تقاتل على ملئ بطونها؟؟ أيّ ولاء و أيّ لحمة و أيّ عصبية ستؤلف بين أفراد هذه القوات؟ و كيف سيكون حال أمة قوامها الجياع و المحرومون؟؟؟
أما الرأي عندنا فهو كما أوردناه و هو أن قريشا كانت في حاجة ماسة إلى قوات تسهر على حفظ الأمن و تحرس بيت المال و تحمي التخوم و الطرقات.فاقتضت سياسة عبد الدار إنشاء قوات مسلحة لهذا الغرض.فأوكل المهمة لعبد مناف الذي أسس جهازا عسكريا تحت رئاسة القائد عمرو بن هلال بن معيط بن كنانة. و قسمه إلى ثلاثة ألوية ، لواء مختص بحراسة الكعبة بيت المال، قوامه عبيد أحباش غلاظ شداد لا يعصون دار الندوة ما أمرتهم و يفعلون ما يؤمرون ، لا يدينون بولاء لأحد غير ولائهم لبني عبد الدار أصحاب الحجابة قبل و بعد الإسلام. و لواء ثان أوكلت إليه مأمورية حراسة أحياء مكة و تنظيم طرقاتها و تأمين سابلتها و حماية أسواقها. أما اللواء الثالث فذاك أكبر لواء يمكن أن نطلق عليه اسم القوات المسلحة التي ستأخذ على عاتقها مسؤولية أمن الطرق و التخوم و الدفاع عن المصالح العليا لقريش.
إلا أن هناك بين خبايا و سراديب السير شيئا ما يتستر، فهذه رواية شاذة شاردة تلقي بظلالها و تفرض نفسها على كل قارئ بحاث،و لئن صحت هذه الرواية فستكون قد حكمت على كل هذه الأفكار و الآراء بعدم الصواب،فقد أكد ابن سعد في طيات طبقاته أن" الأمر الثابت أن هاشما كان يفد على ملك أو إمبراطور الروم فيكرمه و يحبوه، بل بلغ تقديره إياه أنه كتب إلى النجاشي أن يدخل قريشا في أرضه (الطبقات الكبرى ً 57 ، قريش بين القبيلة و الدولة 52). و يخرج في رواية أخرى عن محمد بن الأسلمي أن "هاشما كان رجلا شهما شريفا ، وهو الذي أخذ الحلف لقريش من قيصر لأن تختلف آمنة، و أما من على الطريق فألفهم على أن تحمل قريش بضائعهم و لا كراء على أهل الطريق.فكتب له القيصر كتابا و كتب إلى النجاشي أن يدخل قريشا أرضه (الطبقات الجزء الثاني) أما لو صحت هذه الرواية فإن إدخال النجاشي قريشا أرضه تعني أن تخضع قريش لحكم الحبشة.و لا يتم الخضوع لحكم إلا بتواجد قوات تمثله.و عليه فإن الأحابيش قد تكون مظهرا من مظاهر تواجد تلك القوة و الخضوع لذلك السلطان.و هذا ما تأباه السير و تحول دونه الأخبار.و الثابت أكثر أن الأحابيش كانوا قوة منظمة ثابتة مستقرة تستنفر وقت الحاجة إليها. فكان لها قواد معروفون دأبت السير على تسميتهم بسادة الأحابيش نذكر منهم ابن الدغنة و هو ربيعة بن رفيع بن حيان بن ثعلبة السليمي الذي أجار أبا بكر و شهد معركة حنين(تاج العروس 9/200،دغن)،و الحليس بن يزيد، يذكره محمد بن حبيب و يذكر أنه من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، و أنه كان من رؤساء حرب الفجار(المحبر 169 و ما بعدها) و منهم حليس بن علقمة الحارثي سيد الأحابيش و رئيسهم يوم أحد و هو من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة (تاج العروس ن4/130 ، حلس) و نذكر كذلك الحليس بن زابان الذي ذكر الطبري أن الرسول لما رآه قال إن هذا من قوم يتألهون (الطبري 2/527). و الثابت كذلك أنهم كانوا ينزلون البطاح و يسكنون الحرم مع ساكنيه و يتسوقون  أسواقهم ، و يعيشون معيشتهم و يدينون بدياناتهم و ما ذلك إلا اعتراف ضمني بأحقيتهم و جزاء على حسن فعالهم ،إذ أنزلهم عبد مناف البطاح و اختط لقبائلهم و مجموعاتهم الأرباع فأقاموا عليها لهم المنازل و المصانع و المتاجر.فقد أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال :لما هلك قصي ين كلاب قام عبد مناف بن قصي على أمر قصي بعده. و أمر قريش إليه و اختط بمكة رباعا بعد الذي كان قصي قطع لقومه (الطبقات  ج2) .فإذا كان قوم قصي قد قطعت لهم أحياؤهم و مساكنهم فلمن سيخط عبد مناف الأرباع الآن؟؟؟هكذا نزلت بنو الهون و الحياء و بنو المصطلق و خزاعة، البطاح . و أصبحوا عنصرا مكونا للنسيج الاجتماعي لقريش. أخرج ابن حبيب أن الأحابيش الذين ذكرت أسماؤهم كانوا يحضرون مع من يحضر من طوائف العرب مثل قريش و هوازن و غطفان و أسلم سوق عكاظ فيبيعون و يشترون كما أنهم كانوا مثل قريش يقدسون أسافا و نائلة"(المحبر 317 ـ318).و يظهر أخيرا من الروايتين لأخيرتين أن الأحابيش كان منهم المتألهون و الوثنيون.
تلكم هي السياسة التي لم ترق للصعاليك و لم توافق أهواء الذين يأنفون من الانضباط للقوانين و القواعد و يرفضون الأوامر و النواهي.و التي من جهة أخرى قضت على المستقبل السياسي لبني عبد الدار كما سنرى لاحقا.تلكم هي السياسة التي اصطدمت برغبات الصعاليك الرعناء لمّا استهدفت التضييق عليهم داخل مكة و سلب مجالهم الحيوي خارجها. فكان أن تكتل هؤلاء الصعاليك و انتفضوا  و تظاهروا و ظهرت عليهم كل علامات السخط و الثورة ما استدعى بني عبد مناف بقيادة هاشم إلى اغتنام الفرصة و تأطير الحركة و تزعم الثورة و مطالبة بني عبد الدار بالتنازل عن الزعامة و هو ما سنفصل فيه القول في الجزء الثاني من هذا المقال
أبو قثم