الجمعة، 18 نوفمبر 2011

النضر بن الحارث الصحابي الجليل






تنسب الى وزير الدعاية النازية بول جوزيف جوبلز تلك المقولة الشهيرة ( كلما سمعت كلمة مثقف اتحسس مسدسي ).
وعلى منوال ذلك لانشك ان محمدآ بن عبد الله كان يتحسس سيفه كلما سمع اسم النضر بن الحارث كبير مثقفي قريش آنذاك.. فالحقد الذي حمله الديماغوجي المتعطش للسلطة والتسلط على المثقف العقلاني كان ذا جذوة لا تنطفئ...فقد كان للنضر بثقافته ومعارفه القدح المعلى في افشال الدعوة المحمدية في مرحلتها المكية ولذا لم يتردد في سفك دمه دون رحمة بمجرد ان ظفر به.

شخصيتان متعارضتان

النضر بن الحارث بن كلدة كان مثقف عصره في قريش طاف بلاد الروم والفرس ونجران وتعلم علومها وعرف اساطيرها وقصصها وتاريخها..يقول ابن هشام في سيرته انه () قد قدم الحيرة ، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس ، وأحاديث رستم واسبنديار ) (...ويقول المستشرق البريطاني الكبير ديفيد صمويل مرجليوث في كتابه ( محمد ونهوض الاسلام )..انه اشترى كتب اليونان والفرس وعرب الحيرة واطلع عليها.. 
وجاء في كتاب ( المنمق من تاريخ قريش ) لمحمد بن حبيب بن امية بن عمرو البغدادي انه كان ضمن آخرين من زنادقة قريش (( تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة ))...وكل هذه النتف الاخبارية تشكل في مجموعها في نهاية المطاف لوحة مقربة لهذا المثقف المكي الذي الم بعلوم عصره وقصص الاقدمين واساطيرهم من مصادرها ومنابعها الاصلية وافسد بها على محمد مزاعم النبوة في طورها المكي...... 

وفي المقابل، هناك محمد الديماغوجي البليغ المفوه وذو النزعة السياسية الطامح الى السلطة المطلقة والتسلط على رقاب العرب والعجم...
تمعّنوا في هذه العبارة التي قالها محمد لعمه ابي طالب عندما ذهب اليه بعض من ملأ قريش يطلب منه ان يلجم ابن اخيه ويضع حدآ لتسفييه لآلهتهم قال كما جاء في " سيرة ابن هشام و" الطبقات الكبرى لابن سعد " وغيرهما (( يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب ويملكون رقاب العجم )) ... 
والكلمة التي كان يريدها محمد هي كلمة ( لا اله الا الله محمد رسول الله ) اي انهم لو سلموا بقيادته وآمنوا بنبوته فسيجعل الجزيرة العربية كلها بالاضافة الى بلاد العجم.خاضعة لهم.... 
اهذا كلام نبي لو سلمنا جدلآ بوجود شئ اسمه نبوة ام هو كلام رجل ذي نزعة سياسية يحلم بالسلطة... 

وفي الواقع ان المستشرق البريطاني النابه مارجليوث هو اول من صنف محمد في خانة السياسيين بل ويراه سياسيآ بارعآ في اختيار الشخص المناسب من اتباعه للمهمة المناسبة ويعرف كيف يقتنص الفرص ويدرك نقاط ضعف العرب وما الى ذلك من الصفات الجديرة بسياسي بينما يراه مفتقرآ الى كل الصفات الجديرة بنبي وخاصة على الجانب الاخلاقي..... 
ونستطيع ان نقول ان محمدآ كان ديماغوجيآ من الطراز الاول وكانت الديماغوجية طريقه للوصول الى مراميه السياسية في تأسيس دولة يجلس على سدتها بادعاء النبوة واستثارة الغرائز الدنيا بالزعم بان من يؤمن به تنتظره جنات عدن فيها حور عين وغلمان مخلدون وانهار من الخمور والعسل وقطوف دانية من الاعناب والرومان ولحم طير مما يشتهون...ومستخدمآ في نفس الوقت اسلوب الترهيب والتخويف والترويع ضد الذين ينكرون نبوته متوعدآ اياهم باله سادي شوّاء يشوي المنكرين ويعيد جلودهم ليشويهم من جديد وهكذا دواليك الى ابد الابدين....ولتأكيد نبوته اخذ يأتي بأيات تتضمن اخبار الاولين وقصصهم على اعتبار انها موحى بها من الله... وهي قصص واساطير منها ما هي من الاسرائيليات.. ومنها ما هي من بلاد الفرس والروم وبلاد الرافدين كقصة الطوفان ومنها ما هي من اليمن...وهي قصص واساطير وصلت اليه مشوشة فلذا زاد في بعضها من خياله الواسع واعاد تركيب بعضها وغيّر في بعضها اسماء الشخوص او حرفها وذلك بالاضافة الى خلط في الازمان والشخوص كمخاطبة مريم ( العذراء ) باخت هارون ..... 

يقول المستشرق البريطاني كانون ادوارد سيل في كتابه ( التطور التاريخي للقرآن ) ان محمدآ حتى قدومه الى يثرب لم يكن يعرف الفرق بين اليهودية والمسيحية وكان يظن ان تعاليمهما متطابقة.....والحالة هذي، كان من الطبيعي ان يحدث الصدام الفكري بين الدعي الذي يروى تلك الاساطير للمكيين بسجع كسجع الكهان ويزعم انها من وحي الله اليه عن طريق الملك المزعوم جبريل وبين المثقف المكي الذي يعرف حقيقة تلك الاساطير ومصادرها ويعمل على تنوير قومه بالقول انها ليست سوى قصص الاقدمين.

شوكة في حلق محمد

لعل الفشل الكامل الذي انتهى اليه محمد في مكة التي فر منها مهزومآ يعود الى النضر بن الحارث الذي تصدى لخرافاته واساطيره التي اراد ان يضلل بها المكيين بزعم انها من وحي الله...فهو اول من قال للقرشيين ان ما يقوله محمد ما هي الا اساطير الاولين .. 
وقد رد عليه محمد بآية يقول فيها ( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ )...يقول ابن هشام في سيرته (( فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فذكَّر فيه بالله ، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله ، خلفه في مجلسه إذا قام ، ثم قال ‏‏:‏‏ أنا والله يا معشر قريش ، أحسن حديثا منه ، فهلم إليّ ، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار ، ثم يقول ‏‏:‏‏ بماذا محمد أحسن حديثا مني ‏‏؟‏‏ ‏‏.‏‏)) انتهى.... 

ويقول مارجليوث في كتابه ( محمد ونهوض الاسلام ) ان النضر بن الحارث كان يقول للمكيين اذا كانت تلك القصص التي يرويها محمد معيارآ للنبوة فانه ايضآ يستطيع ان يدعي النبوة مثلما ما يفعل لانه يستطيع ان يروى افضل منها....ويرى مارجليوث ان محمدآ بعد عجزه الاتيان باية معجزة من المعجزات التي طلبها منه المكيون قام واعلن ان القرآن نفسه هو المعجزة وتحدى المكيين بان يأتوا بعشر سور مثلها او حتى بسورة واحدة مؤكدآ انهم لن يستطيعوا وان استعانوا بالجن ..وهنا انبرى له النضر بن الحارث... 
يقول مارجليوث " في كتابه المذكور آنفآ "
One man, Al-Nadir Ibn
Harith, accepted the challenge to produce anything
as good, and either versified or put into rhyme the
tales of the Persian kings which Firdausi some four
centuries later rendered immortal or perhaps those
of the kings of Hirah. These " surahs " he read out
at seances similar to those in which the Prophet pub
lished the Koran. The effect of this criticism must
have been very damaging ; for when the Prophet at
the battle of Badr got the man into his power, he
executed him at once, while he allowed the other
prisoners to be ransomed.." 

ما يمكن ترجمته كالآتي : 
(( رجل واحد هو النضر بن الحارث قبل التحدي معلنآ انه يستطيع ان ينظم شعرآ او سجعآ اي شئ بما هو احسن، اكان عن قصص ملوك الفرس التي احياها وخلدها الفردوسي بعد ذلك باربعة قرون ، او ربما عن قصص ملوك الحيرة. ان تلك السور التي كان يتلوها في المجالس كانت شبيهة بسور القرآن. ان تأثير ذلك النقد لابد انه كان مدمرآ جدآ ولذا فان النبي اعدمه على الفور عندما وقع في قبضته في غزوة بدر دون بقية الاسرى الذين اطلق سراحهم مقابل فدية. )) انتهى... 

وحول هذا التحدي الذي قبله النضر بن الحارث يقول ابن هشام (( هو الذي قال فيما بلغني ‏‏:‏‏" سأنزل مثل ما أنزل الله "‏‏.)) .....وقد رد محمد على النضر بآية منه تقول (( وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين )) .. 
وفي تفسير هذه الآية يقول القرطبي (( قوله تعالى وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين نزلت في النضر بن الحارث ، كان خرج إلى الحيرة في التجارة فاشترى أحاديث كليلة ودمنة ، وكسرى وقيصر ; فلما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار من مضى قال النضر : لو شئت لقلت مثل هذا . وكان هذا وقاحة وكذبا . وقيل : إنهم توهموا أنهم يأتون بمثله ، كما توهمت سحرة موسى ، ثم راموا ذلك فعجزوا عنه وقالوا عنادا : إن هذا إلا أساطير الأولين .)) انتهى....وجاء في تفسير البغوي (( وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ( 31 ) ) " وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا " يعني النضر بن الحارث ، " قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا " [ ص: 351 ] وذلك أنه كان يختلف تاجرا إلى فارس والحيرة فيسمع أخبار رستم واسفنديار ، وأحاديث العجم ويمر باليهود والنصارى فيراهم يقرءون التوراة والإنجيل ويركعون ويسجدون ، فجاء إلى مكة فوجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ويقرأ القرآن فقال النضر : قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا " إن هذا إلا أساطير الأولين " أخبار الأمم الماضية وأسماؤهم وما سطر الأولون في كتبهم . والأساطير : جمع أسطورة ، وهي المكتوبة ، من قولهم سطرت أي كتبت .)) انتهى..... 

ولعل اكبر شاهد على الخطر الماحق الذي شكله النضر على محمد ودعوته وقرآنه بسجعه وخرافاته هو ان يتيم بني هاشم خصص ثماني آيات في الرد على النضر كما يشير الي ذلك ابن هشام في سيرته..ومن المؤسف ان جميع ما كتبه او قاله النضر في معارضة قرآن محمد شعرآ ونثرآ قد اندثركما اندثرت اشعار الهجاء التي قيلت في محمد من مختلف الشعراء كشعر حسان بن ثابت قبل اسلامه ...فمن يردد مثل ذلك الشعر او يسجله كان مصيره الموت..ولعلنا نذكر كيف ان عمر بن الخطاب وهو امير للمؤمنين امسك باذن حسان بن ثابت وهو ينشد الشعر في ( مسجد الرسول ) بيثرب وقال له " ارغاء كرغاء البعير "..هذا ما حدث لمن لقب بشاعر الرسول بعد ان استنفذ اغراضه بالطبع... فالى اي مصير كان سينتهي غيره لو تجرأ وردد اشعار الهجاء في محمد او ما قاله وسطره النضر بن الحارث... 

وهكذا لم يبق في التاريخ العربي الاسلامي الا الاشعار والقصص والسير التي تبجل محمدآ وتؤلهه وتنسب اليه اساطير ومعجزات لم يجترحها وتسجل له انتصارات فكرية لم يتمكن من تحقيقها على المكيين وذلك في اكبر عملية تزييف للتاريخ.وكما قيل فان المنتصر هو الذي يكتب التاريخ وقد انتصر محمد بالسيف.

سقوط محمد في الامتحان

يعد الامتحان الذي اعده له المكيون نقطة مفصلية في الدعوة المحمدية في الحقبة المكية من جهة الفرصة التي اتيحت له لتأكيد نبوته المزعومة من خلال اختبار بسيط...يقول ابن هشام ان القرشيين بعثوا النضر بن الحارث ومعه عقبة بن أبي معيط الى يهود يثرب لانهم اهل كتاب وعندهم علم الانبياء ليسألا عن امر محمد فاقترح اليهود على النضر ان يسألوه ثلاثة اسئلة ان اجاب عليها فهو نبي والا فهو متقول.. 

السؤال الاول ( عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم ؛ فإنه قد كان لهم حديث عجب ) ..والثاني ( عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه ، وسلوه ما هي ‏‏؟‏‏) ..والثالث ( عن الروح ما هي )... 

وكما يقول ابن هشام ان النضر ومعه عقبة عادا الى مكة وقالا ( يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد )....ولكن المستشرق البريطاني مارجليوث ينوه في كتابه ( محمد ونهوض الاسلام ) الى انه على قناعة بان اليهود لم يقترحوا هذه الاسئلة لان السؤال الاول يتعلق بالنائمين السبعة ( اهل الكهف في الادبيات الاسلامية ) بينما يتعلق السؤال الثاني بالاسكندر الكبير.... 

واذا صحت شكوك مارجليوث فهل ترى ان النضر بن الحارث هو واضع تلك الاسئلة وخاصة انه لم يكن في حاجة الى الاستعانة باليهود فهو قد اطلع على التوراة والانجيل واساطير الفرس والروم وقصصهم واخبارهم وعلومهم بالاضافة الى انه كان شاعرآ وناثرآ؟.... 
مهما يكن من امر، فان عواقب هذه الاسئلة كانت مدمرة لمحمد الذي طلب من المكيين ان يمهلوه لليوم التالي حتى يأتيهم بالاجوبة ... 

جاء اليوم التالي وذهب دون ان يفي محمد بوعده...واخذت الايام تمضي وهو عاجز عن الخروج من عجزه....وحزن للاقاويل التي ملأت مكة بانه مجرد متقول وكان اكثر ما احزنه كما تقول كتب السيرة قول امرأة من قريش (( ابطأ عنه شيطانه )) ..يقول مارجليوث ان ذلك التأخير الطويل عزز لدى المكيين ما كانوا يظنونه بان ملقنآ يلقن محمدآ تلك الاساطير والقصص...وتشير ( السيرة الحلبية ) الى ان الاقاويل كانت تحوم حول يهودي من اليمامة اسمه ( الرحمن ) بانه الملقن.. 

..بعد خمسة عشر يومآ كانت كافية ليتصل بمن هم في مقدورهم ان يعينوه، ظهر محمد بآيات تتضمن اجاباته عن الاسئلة التي طرحت له، وقبل تناولها يحسن بنا ان نقف لنرى الاعذار الواهية التي قدمها تبريرآ لذلك التأخير... وهما عذران ساذجان.. 
الاول: لانه لم يقل ( ان شاء الله ) حين وعد المكيين بالرد في اليوم التالي..وجاء هذا التبرير في شكل آية في سورة الكهف ( وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا (23))... 
والثاني: حديث له رواه ابوهريرة يقول فيه ان جبريل اخبره بان سبب انقطاعه في تلك الايام لوجود كلب او بالاحرى جرو للحسن والحسين في بيته وان الملائكة لاتدخل بيتآ فيه كلب..... 

اما في ما يتعلق بالاجابات فقد جاءت لتفضح عجز اله محمد وجهله... 
في السؤال المتعلق باهل الكهف يشير مارجليوث الى ان محمدآ اخطأ في عدد " النائمين " ثم يقول في نهاية الآية الله اعلم بعددهم.....وبالفعل انظروا الى الآية التي يزعم ان الهه قد بعث بها اليه ( سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22))..فاله محمد لا يعرف العدد الصحيح اهم ثلاثة ام خمسة او سبعة...يا للهول اله محمد مرتبك لا يعرف العدد الصحيح...والمضحك انه يقول لمحمد في نفس الآية ( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ )..حسنآ، اذا كان هو اعلم بعدتهم فلماذا لايخبر بعددهم مباشرة بلا لف او دوران؟....لماذا هذا الارتباك والجهل: ربما ثلاثة او خمسة او سبعة.....وهذا يعني ان محمدآ بعد خمسة عشر يومآ لم يأت بالاجابة الحاسمة وان من اعانه على الاجابة قد زوده بمعلومات مشوشة.... 
ولسوء حظ محمد انه مات دون ان يدري ان قصة اهل الكهف قصة خيالية الفها رجل دين مسيحي بيزنطي في القرن السادس الميلادي كقصة تعليمية وعظية وانتشرت في اجزاء واسعة من اوربا ومن هناك جاءت الى الشرق الادني مع التجار وغيرهم... 
من المثير للسخرية ان يروي اله محمد في قرآنه قصة خيالية كتبها رجل الدين المسيحي جيرجيوري ذاتاور كما لو كانت قصة حقيقية تاريخية من قصص الامم السابقة دون ان يشير الى انها من نسج الخيال... 

ونأتي الى اجابة محمد عن سؤال القرشيين له عمن يكون الرجل الطوّاف الذي بلغ مشارق الارض ومغاربها...كانت الاجابة عنها اكثر ضبابية ورخاوة من الاجابة الاولى...تقول آية اله محمد 
( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ...الخ..)
...وهنا عجز محمد ايضآ ان يأتي بالاسم الحقيقي لصاحب اسطورة ذي القرنين وجعل صحابته وكاتبي سيرته ومفسري قرآنه يتخبطون ايما تخبط
قال ابن اسحق (‏‏ أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر ، اسمه مرزُبان بن مرذبة اليوناني ، من ولد يونان بن يافث بن نوح ‏‏.‏‏) وقال ابن هشام ( اسمه الإسكندر ، وهو الذي بنى الإسكندرية فنسبت إليه ) ..ويقول ابن هشام في سيرته ان عليآ بن ابي طالب عندما سئل عمن يكون ذو القرنين قال ( كان عبدا ناصحا لله فناصحه دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات فأحياه الله فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات فسمي ذا القرنين )...
وجاء في الخطط المقريزية ان ذا القرنين هو (( الصعب بن ذي مرائد بن الحارث الرائش بن الهمال ذي سدد بن عاد ذي منح بن عار الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود " عليه السلام " بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح "عليه السلام"، وأنه ملك من ملوك حمير ملوك اليمن وهم العرب العاربة...)) .. 
اليس كل هذا التخبط دليلآ على ان تلك الآية المحمدية لم تجئ بأية فائدة تذكر وفشلت في الاجابة عن السؤال الذي طرح عليه وحتى اقرب الناس الى محمد وهو علي بن ابي طالب فشل في ان يقول لسائله من هو ذو القرنين وهرطق بكلام لا يدخل العقل... 

اما السؤال الثالث وهو ( ما هي الروح ؟ ) فقد تهرب منه اله محمد بقوله ( قل الروح من امر ربي )..اليس محمد هو من زعم ان اله قال ( قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدادا ) فكيف عجز هذا الاله رغم كلماته التي لا تنفذ عن ان يعرّف الناس بماهية الروح بعدة كلمات منه...امر يدعو للعجب... 

وهكذا كان سقوط محمد في الامتحان مدويآ...فبعد خمسة عشر يوما من الغياب خلافآ لوعده اتى القرشيين باجوبة ركيكة عجز فيها ان يعطي الرقم الحقيقي لفتية اهل الكهف وفشل في ان يحدد شخصية ذي القرنين وماهية الروح ...وهل كانت هذه الاجوبة التي تركت اصحابه واتباعه في حيرة وتخبط بوسعها ان تقنع القرشيين وخاصة النضر بن الحارث الشخصية المثقفة الواسعة الاطلاع بمستوى عصره؟ ..ولذا ازداد المكيون اقتناعآ بكذب محمد وادعائه النبوة واتصال الوحي به وظلوا على ثقة بانه مسحور او مجنون...وكان من الطبيعي ان يفر الى يثرب نتيجة لفشله ويتحول هناك الى قاطع طريق يرتزق من الغزوات والسلب والنهب والسبي ويفرض دينه بوضع السيف على رقاب الناس...ولعلنا لسنا في حاجة الى ايراد شواهد عن التزييف الذي يملأ كتب التاريخ والسير الاسلامية عن انتصارات محمد الفكرية الوهمية على القرشيين وافحامه لهم واستكبارهم بعد ما عرفوا الحقيقة وما الى ذلك من الترهات...وهل افصح محمد عن حقيقة ؟!!

المثقف المكي في قبضة السياف

في معركة بدر التي يصفها المسلمون بالكبرى والتي نشبت نتيجة قطع محمد الطريق على قافلة ابي سفيان القادمة من الشام وقع النضر بن الحارث في الاسر ضمن سبعين من المكيين...امر محمد باطلاق سراح الاسرى مقابل فدية مالية واشترط على الاسير الفقير ان تكون فديته تعليم عشرة من اليثربيين الكتابة.واستثني النضر وعقبة بن ابي معيط وامر بقتلهما...وعقبة بن ابي معيط هو الذي كان ذهب مع النضر الي يهود يثرب للنظر في امر امتحان محمد كما جاء في كتب السيرة المحمدية ...ورد في ( السيرة الحلبية ) ان النضر قال بعد اسره للاسير الذي بجانبه (( محمد والله لقاتلي فانه نظر اليّ بعينين فيهما الموت )) ولكم ان تتخيلوا من هذا القول كمية الحقد الذي كان يختزنه محمد ضد النضر...وعندما امر عليآ بن ابي طالب ( السفاح الذي كان يوكل اليه مهمات القتل ) بقتل النضر قال له المقداد ( ان النضر اسيري ) لانه هو الذي كان اسره محاولآ الحؤول دون قتله فاسكته محمد بقوله (( انه كان يقول في كتاب الله ما يقول ))..... 

افرغ (( نبي الرحمة ! )) حقده المسموم وقتله بدم بارد ولم ينس ابدآ دور النضر في فشله وذلك بفضحه لاساطيره وخرافاته التي زعم انها اخبار الامم السابقة التي اوحيت اليه ...ولم ينس ذلك الامتحان المهين الذي كشف بالدليل مزاعم نبوته الكاذبة....وكان يوم قتل النضر بن الحارث هو يوم انتصار السيف والاستبداد والجهل على العقل والمعرفة والثقافة...وكان بداية انتصار جاهلية الاسلام....وما يزال ذلك السيف مسلطآ منذ الف واربعمائة سنة على كل من يفكر تفكيرآ حرآ ويقول مثل النضر بن الحارث ( تلك اساطير الاولين )...ان العصر الذي عاش فيه محمد كان عصر الفروسية في اوربا وكان من اخلاقيات الفرسان ان الواحد منهم اذا ما ظفر بخصمه ووقع في قبضته لا يقتله...فاين محمد من اخلاقيات فرسان ذلك الزمان او من فرسان عصرنا الراهن من امثال نلسون مانديلا الذي عفا عن جلاديه الذين سجنوه حوالي ربع قرن بعد ان جاء الى السلطة....نبي مزعوم فشل في ان يكون باخلاقيات الفرسان ناهيكم عن اخلاقيات الانبياء المفترضة..اذا صح ان هناك انبياء! 
أحمد القاضي


  


الأربعاء، 9 نوفمبر 2011

و السماء رفعها و وضع الميزان



القرآن كتاب سياسة همجية  استبدادية ديكتاتورية  تعتمد الحق الإلهي في التمكن من رقاب العباد و تفرض شرعيتها على الأرض و الأنام بواسطة قوانين تستنزلها و تستقطرها من السماء. لغته الوعد و الوعيد و الجنة و النار و الجزاء و الثواب، و أسلوبه الخطابة و الصعصة و الجعجعة، و منطقه البهت و الكذب و النفاق و التعويم و الاستغباء.و أي علاقة مفتراة له بالعقل و الفكر إنما هي من باب الحشو السياسي و اللغط البيزنطي الذي لا فائدة منه. فليس القرآن كتاب علوم و لا يمكن له أن يكون. إذ لا سياسة في العلوم و لا أغراض اعتبارية فيها، و لا حقيقة مطلقة في العلوم و لا جنة و لا نار فيها. و أي كلام لا يعتمد المنطق العقلي و الفرز و التصنيف و البرهنة و الدليل، و الجبر و الهندسة و الحساب،  و التجزيء و التعميم، و الملاحظة و الفرضية و الشك و اليقين و التجريب؛ فهو ليس بعلم. أمّا و أنّ القرآن لأنه يتكلم عن الإنسان و الكون  فهو كتاب علوم أو مرجعا نقيس عليه مدى صدقية هذا العلم أو ذاك، فهذا لغط سياسي متعمّد و تنويم عقلي ممنهج  قاعدته اللعب على أوتار الكلمات الرنانة و المزايدة العقلية الفارغة.فالقرآن لا يتحدث عن الظواهر الطبيعية و الاجتماعية على سبيل الدراسة  و التحليل كي يستخلص قوانينها العلمية و يحدد خواصها و مميزاتها و يتبين سبل استغلالها؛ إنما يورد القرآن بعضا من هذه الظواهر في إطار ضرب الأمثال التي لا تستغني عنها الخطب الارتجالية؛ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها، و يضرب الله الأمثال للناسلعلهم يتذكرون، و ضرب الله مثلا. فظاهرة الرياح ،مثلاـ لا يقدمها لنا القرآن على أنها كتل هوائية تتحرك في مسارات معينة بين ضغطين جويين متعاكسين و متقابلين، أحدهما مرتفع و الثاني منخفض؛ إنما هو يقدمها لنا على أساس أنها عصى خلقها الله بقدرته و علمه؛ فهي في يده دائما أو في عُهدة ملَكه إسرافيل، يلقّح بها النبات تارة، و يسيّر بها السفن في البحار تارة، و يهشّ بها في تارات أخرى على الحشرات البشرية التي ترفض الانصياع له  و الانقياد لأوامره  و الاتفاق مع رأيه و الإيمان به و تخصيصه دون غيره بفروض الطاعة و الولاء.و أما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال و ثمانية أيام  حسوما ، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فهل ترى لهم من باقية؟( و يجدر بالذكر هنا أن آخر ما أدخل الرهبة و أنزل الإيمان في قلب أمير المؤمنين عمر و بدّد الشكوك  و ثبّت اليقين في عقله هو سورة الحاقة هذه، فلمّا سمعها أسلم و حسن إسلامه رضي الله عنه و أرضاه).كذلك  هي ظاهرة الزلازل، فهذه الأخرى مخلوق كالرياح خلقه الله و يذكره صاحب القرآن قصد التعجيز و التخويف و الوعيد. و لا ننسى الرعد و البرق و المرض و الظلمة و النور ، كل أولئك مخلوقات خلقها الله و يذكرها صاحب القرآن على أساس أنها أسلحة فتاكة يقاوم بها الله الذين يخالفونه في الرأي و يعارضون سياسته العنجهية الفاشلة التي لم تفلح في القضاء على الطبقية  و العبودية و التمييز، و لا على الفقر و الجهل و الفساد. و مثل ما يفعله صاحب القرآن بالظواهر الطبيعية الفيزيائية حين يذكرها ، فإنه يفعله بالظواهر الاجتماعية حين يستشهد بها. فالفقر مثلا و الطبقية و الفساد مخلوقات بيد الله يسلطها على من يشاء من البشر سواء أ أذنبوا أم لم يكونوا مذنبين. وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا. و عليه فليبيا و تونس و سوريا و اليمن قرى أراد بها رب صاحب القرآن الهلاك فأمر مترفيها فاستبدوا فيها باسمه و عثوا الفساد حتى أحرق البوعزيزي نفسه فدمرها صعاليك الله تدميرا. و لقد سمعت مؤخرا أخد سفهاء الإخوان المصريين يقول بأنه ليس الشعب المصري من أسقط النظام بل هو الله من أسقط النظام و كان يقولها و ابتسامة الذئب تعلو وجهه 
أما جملتنا الأدبية الفنية الرائعة، و السماء رفعها و وضع الميزان ، فهي الجملة السابعة من الخطبة الرتيبة  الارتجالية الخامسة و الخمسين من القرآن، و التي كان جديرا بمصنفه تسميتها سورة أو خطبة فبأي آلاء ربكما تكذبان عوض الرحمن. فهذه الخطبة حسب  صاحب القرآن موجهة للجن و الإنس، و به يثبت عدم علميتها منذ الانطلاق.فلا جنّ يؤمن به العلم و لا ملائكة و لا شياطين ..و مجرد مخاطبة الجن  هذا  لغو لا طائل بعده و كلام فارغ لا مصداقية له في العقل و لا في الواقع. ففي هذه الخطبة يتجرأ الله على عباده جنّا و إنسا ، يدعوهم للاعتراف بولائه عليهم  و أحقيته باستعبادهم متحديا إياهم بأسلحته الفتاكة و مثبطا من هممهم بعجزهم عن الرقيّ في آفاق السماء ، الشيء الذي أضحوا يقومون به اليوم رغم أنفه و أنف خطبه (فالإنس استطاعوا أن ينفذوا من أقطار السماوات و الأرض، و هاهم يخططون لاستعمار الكواكب و النجوم و لن يستطيع شواظ النار و النحاس أن يحولا دون ذلك) ،ثم يتوعدهم فيها بحميمه و سعيره و جهنمه و يعدهم بحوره و ولدانه و فاكهته و خمره.و ذلك دأب كل خطب القرآن. أما السماء التي أوردها في هذه المقابلة البديعة مع الميزان فهي ليست السماء العلمية التي فسّرتها الفيزياء الحديثة بل هي سقف عجيب مرفوع بدون عمد يغطي المعمور أو البسيطة المدحوة المنقوصة الأطراف التابثة بواسطة الجبال.هذا السقف يُطوى طي السجل و يُكشط و يُمزّق فيظهر كوردة حمراء تتلظى كزيت متوهجة.و هو مرتفع الحرارة من شدة الشهب التي يُنتجها و له جسم و هيئة و هيكل و مكوّن من مواد لا يعلمها إلا الله و الراسخون في العلم؛ و إنا لمسنا السماء فوجدناها قد ملئت حرسا شديدا و شهبا..تسكن فوقه عوالم الشياطين و الملائكة و الأرواح و حتى الأنبياء الذين قضوا نحبهم ، و من تحته تسبح الشمس و القمر و الطير تسيّرهم عصى الله و يمسكهم الرحمن في أفلاكهم بقدرته و حسبانه. إذا أذِن الله و طلعت الشمس كسا بزرقته أديمَ السماء مخلوقٌ اسمه النور؛ و إذا أفَلَت حلَّ محلَّه مخلوقٌ جديدٌ اسمه الظلمة.كما تتوفر هذه السماء على جبال من برَد يسلّطه الله على الحشرات البشرية فيصيب به من يشاء من عباده و يصرفه عمّن يشاء...هذه السماء... سماء القرآن ، و كما يظهر للعيان ليست بالسماء العلمية ...و هذه النظرة السطحية للكون  و الإنسان ليست بالنظرة العلمية، و لا داعي لاستلهام أي وصف لها فهي لا تستحق أن توصف إلا بالنظرة الإسلامية.أما الميزان الوارد في جملتنا فهو الآخر ليس تلك الأدوات العلمية التي نقيس بها الأوزان و الحرارة و الضغط و ما إلى ذلك مما يخضع للوزن و القياس. إنما الميزان في جملتنا هذه كناية عن العدل.و إنما رمز إليه بالميزان لكون الخطاب القرآني عموما يفترض فيه أنه موجه لقوم تجار ، لذلك فهو يستعير مفاهيم التجارة و أدوات التجار ليعبر بها عن مفاهيم أرقى و قيم أعلا منها.
  ياأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم
في هذه الفقرة من خطبة الصف يختصر صاحب القرآن العلاقة بين الله و الناس في عملية ربح و خسارة تجارية بخسة تكون فيها جنة عدن بالذات و مغفرة الذنوب التي يستوجب عقاب مرتكبيها هما ثمن الإيمان بالله.
و إذا عدنا إلى ميزان جملتنا فإن الميزان قبل ظهور الإسلام ، كان رمزا للعدل و العدالة، كان في أثينا و روما و الإسكندرية و في حواضر بيزنطة يعلق فوق منصات المحاكم .فليس عجيبا أن يكني القرآن عن العدل بالميزان و لكن العجيب هو أن يكني به عن القوانين الطبيعية التي وضعت للاستمرار و ليس للفناء. ـ و كأن الفناء ليس قانونا طبيعيا بل هو خارج عنها ـ. كما أن المفسرين و المحدثين و أصحاب التأويل قد أجمعوا على أن الميزان في هذه الجملة إنما هو العدل.فهذا ابن كثير في تفسيره لسورة الرحمن يقول: وقوله تعالى: {والسماء رفعها ووضع الميزان} يعني العدل كما قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).انتهى.فالكتاب هو القانون و الميزان هو العدل الذي يخضع لذلك الكتاب. و بنفس ما يقول ابن كثير يقول القرطبي ،فليس ميزان جملتنا عنده هو الآخر سوى العدل، يقول القرطبي : وقوله: والسّماءَ رَفَعَها يقول تعالى ذكره: والسماء رفعها فوق الأرض.
وقوله: وَوَضَعَ المِيزَانَ يقول: ووضع العدل بين خلقه في الأرض
و إلى حدّ الآن نرى أن لا علمية في هذه الجملة فلا هي  بنظرية و لا مفهوم و لا بمبرهنة و لا قانون؛ إنما هي جملة بلاغية  حكيمة تمتاز بتقابل فني بديع بين خبرين متضادين خبر الرفعة و الضعة أو الوضع، و مفهومين متعارضين عُبّر عنهما بكلمتين متباينتين إحداهما على صيغة المذكر و هي الميزان و الأخرى مونثة هي السماء، إحداهما منيعة حصينة من صنع الخالق كما يدّعي و الأخرى وضيعة هينة من وضع الإنسان.و لقد تستحق هذه الجملة لقب آية هذه الخطبة في البلاغة و الجمال لِما اشتملت عليه هي و سابقتها من فنون البديع و البيان و الاستعارة و المقابلة و الكناية. ففي جملة مفيدة واحدة مؤلفة من أربع أو خمس كلمات تتراءى لك جميع فنون البلاغة مجتمعة في تناسق أخاذ يذهب بالألباب و يعطل العقول و يُفْغِر الأفواه.ففي حين نجد علماء المسلمين و فقهاءهم و محدثيهم يفسرون هذه الآية مؤولين الميزان بالعدل إلا أنهم لا يتطرقون إلى سرّ و الحكمة من مقابلة رفع السماء بخفض الميزان، فالوضع في لسان العرب هو ضد الرفعة، و ضد الرفعة هو الخفض كقوله: و الجهل يخفض أمة و يذلّها و العلم يرفعها أجل مقام. و قبل الخوض في سر هذا التقابل البديع لا بدّ من استحضار الجملة البليغة التي تسبق جملتنا، حيث يقول صاحب القرآن و النجم و الشجر يسجدان.فرغم أن الخبر في هذه الجملة واحد هو فعل السجود فإن المقابلة بين النجم المتوهج بكبريائه المتبختر في عليائه الوحيد في أبهته و عظمته، وبين الشجر الذليل الحقير الخانع الثابت الذي إذا مالت الريح مال حيث تميل تبقى مقابلة غاية في البلاغة و البيان. و رغم أن القرطبي و ابن كثير قد سبرا غور هذه المقابلة العجيبة  قطعا للطريق على التفكير و التأمل فجعلا من النجم ذاك النبات الطبيعي ذا الساق الواحدة الذي يغطي الأرض في فصل الشتاء.إلا أن النجم يبقى في جميع الحضارات التي  اصطبغ الإسلام بأخلاقها و فنونها و آدابها رمزا لكبار القوم و عليتهم و أصحاب الشوكة فيهم و ذوي الفضل عليهم. فلا عجب أن تكون الجملة موجهة لأعيان مكة و زعمائها زمن الرسول و لغيرهم من الزعماء و الملوك و الأعيان في كل زمان و كل مكان.فما دمنا نتحدث في السياسة و ما دمنا أمام لوحة فنية مدهشة آية في الرونق و الجمال؛ و ما دمنا أمام خطبة آية  في الاستهتار و الاستغفال فكل الحواجز العقلية تتهاوى و كل قوانين المنطق تسقط، ليسود الهمز و الإيهام  و الوقع على وتر المعنى الرنان و اللعب بالكلمات الطنانة.و تلك هي سمة السياسة العربية الإسلامية التي لا زلنا   لليوم مع كل الأسف نجر ذيولها. و أية حركة أو انتفاضة شعبية لم تثر على هذه المبادئ البدائية  و تلك الثوابت الصدئة لن يكتب لها أن تحدث أي تغيير، و هي بالتالي ستكون غير أهل بتسميتها ثورة.لأن الثورة بكل بساطة هي كل ما غيّر عالما قديما بعالم جديد و ما غيّر نمطا قديما من العيش و التفكير بنمط من العيش و التفكير جديد، و ليست الثورة قطع الطرق و سفك الدماء و سلب الناس أموالهم و متاعهم و الذهاب بقوم و الإتيان بآخرين ....و لقد كان لمكة رجالاتها و نجومها إبان نشوء الإسلام،مثل الوليد بن المغيرة و أمية بن خلف و أبي لهب و أبي الحكم و عقبة بن أبي معيط.كل هؤلاء كانوا سادة نجوما في قومهم و كلهم كان معارضا لدودا لدعوة صاحب القرآن.و كلنا يعلم ماذا كان مصير كل نجم منهم  فلا عجب إذا في أن تكون الجملة تعنيهم و تبلغ في وصفهم نفاقا و تملقا غاية النجوم التي يتوجّب عليها السجود و الخنوع و تقديم فروض البيعة و الطاعة  حتى تهتدي بهديهم الرعية التي يرمز إليها صاحب القرآن بالشجر. و عودا إلى جملتنا فإن السماء التي كما أتينا على تعريفها القرآني سابقا ليست إلا بناء ماديا مثل السقوف التي يبنيها سائر البشر إلا أن هذا السقف يتميز عن سائر السقوف بأنه صنع الله الذي منّ به على الأرض كلها و جميع من عليها من شجر و حجر و جبال و وديان و هوام و بشر.فهو الذي يغطي عالم الله و يحجبه عن أنهار و بحار و نيران و أفاعي المجهول الدامس التي تتربص به من كل جانب، و من هنا يستمد هذا البناء مكانته المرموقة و يستحق بالتالي عند صاحب القرآن الرفعة والقيمة العليا.أما العدل فيقول القرطبي وقوله: وَوَضَعَ المِيزَانَ يقول: ووضع العدل بين خلقه في الأرض.انتهى.فما معنى هذا الوضع إذا، الذي يستحق مقابلة رفعة السماء في هذه الجملة؟ هل هو اليسر كما يذهب إليه معظم المفسرين و المؤولين إذ يقولون وضع العدل بين الناس أي جعله يسيرا في متناول الجميع. فالعدل كما نعلم هو أعلا قيمة في الوجود،منه و عنه تتفرع كل القيم و المثل العليا.فلا مُلك بدون العدل و لا مساواة و لا تساكن و لا تعايش بدون العدل و لا إيمان و لا تقوى و لا هدى بدون عدل و لا أمن و لا أمان و لا عهد و لا دين بدون العدل و لا شرف و لا كرامة و لا عزة و لا عيش بدون العدل. فالعدل هو أس القيم و جذرها التربيعي فكيف له أن يكون دون السماء قيمة و أهمية عند الله و عند صاحب القرآن؟؟  و كيف له أن يجعله يسيرا هينا في متناول الكبير و الصغير ،العاقل و السفيه ، الحالم و المغرور ؟ الجواب بكل بساطة هو أن العدل ليس من صنع الله بل هو قواعد فكرية تميز الحدود بين الحق و الباطل وبين الصدق و الكذب وضعها العقل الإنساني الضعيف ليحكم بها على الأحداث و الأشياء من حوله.و هذا العدل مثل الميزان أداة عقلية ما فتئت تتقدم و تتطور بتقدم و تطور العقل و تراكم تجاربه و كثرة معارفه وتنوع أدواته الفكرية و تشعبها.و لذلك فهو ممقوت من طرف الله و من طرف صاحب القرآن.و كل ما هو عقلي إنساني محض هو مستهجن في الخطاب القرآني مبخوس الحق منزوع القيمة، حتى و لو كان العدلَ الحق الذي يستوي في ظله الأسود و الأبيض و ذو المحتد و مجهول النسب و العربي و الأعجمي. ذلك العدل الذي كان يسود مكة و أفرز نجوما مثل الذين ذكرناهم و مثل من لم نجد لذكرهم متسعا، كأمية بن أبي الصلت و عمرا ابن نفيل و غيرهما من أئمة السياسة و الدين. فالسماء رفيعة لأن الله هو من صنعها و العدل ذليل وضيع حقير لأنه من صنع الإنسان و يستمد الشرعية من عقله دون سواه  فهو لا يخضع لسلطة و لا يصطبغ بلون و لا يتمذهب بدين و لا يتحيز لملة، متجرد عن الأهواء و الأغراض الشخصية بعيد عن الأفكار المسبقة يكره التحيز و التمييز و الاصطفاء و يذم الانتهاز والمحسوبية و الوصولية و الريع.و لأن كل ذلك لا يتلاءم و مزاج حاكم مستبد من طينة الله و لا يناسب نظاما ديكتاتوريا تسلطيا مثل نظام القرآن فإن العدل العقلي  بات عند الله و عند صاحب القرآن وضيعا حقيرا.
و تبعا لهذه النتيجة فإن الحكم أي حكم أصبح لا يكون عدلا إلا إذا خضع لمسطرة مرجعية القرآن و وافق أحكامه و ضوابطه. و في العرف القرآني يعتبر اغتصاب الأطفال و النساء عدلا، و يعتبر قتل الآخر و المخالف عدلا، و يعتبر سلب الكافر و سبيه و نهب أرضه و متاعه عدلا. و من هنا تتضح الحكمة السياسية من وراء ازدراء العدل و مقاربته بالسماء و تفضيلها عليه في جرة قلم عجيبة مدهشة للذين في نفوسهم نزغ من الله فزادهم الله مكرا و نفاقا و الذين سدّت عقولهم بأبواب أحكمت أقفالها و الذين من سذاجتهم يصدقون بيوم الدين و يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة.
تلك هي سياسة صاحب القرآن ، قمع المحكوم و ازدراؤه و الحط من قيمته و هدم معنوياته و سلبه حقوقه المادية و المعنوية و النيل من أنفته و عزته و كرامته و الحط من قدره و إنسانيته، و التي  يلخّص خطوطها الطويلة و العريضة و يجمعها بين دفتي ما يصطلح عليه بالقرآن. و لتكلأ عين الرحمة ذاك الشيخ الشيعي الذي قال " القرآن كتاب همج لا يليق قياس العلوم به و لا يجوز قياسه على العلوم

أبو النبي الأمي

الجمعة، 12 أغسطس 2011

أبطال مهزلة بدر الكبرى


هديتي إلى الطيب ابن الطيبين البابلي العظيم بمناسبة شهر الجوع الكريم
قال ابن الراوندي :
إنّ الملائكة الذين أنزلهم الله تعالى في يوم بدر لنصرة النبي بزعمكم.كانوا مغلولي الشوكة قليلي البطشة على كثرة عددهم و اجتماع أيديهم و أيدي المسلمين، فلم يقدروا أن يقتلوا زيادة على سبعين رجلا. أين كانت الملائكة يوم أحد؟ لما توارى النبي ما بين القتلى فزعا و ما بالهم لم ينصروه في ذلك المقام؟ (من تاريخ الإلحاد 93)
فعلا، إنها أكبر مهزلة أن تجتمع يد الله و أيدي المسلمين و أيدي الملائكة فلا يقتلون إلا سبعين و لا يأسرون إلا سبعين في الوقت الذي تتحفنا فيه السير بأن عنثرة بن شداد كان  لوحده يقتل مئة عن اليمين بضربة واحدة، و مئة عن الشمال؛ مما يفيد أن يد عنثرة كانت أقوى و أشد بطشا من يد الله و ملائكته و مستحمَريه جميعا. إنها فعلا لأكبر مهزلة.
فقد أجمعت السير على أن يوم بدر كان يوما مشهودا في تاريخ البشرية، فيه أعلنت حالة الطوارئ لأول مرة في السماء و استنفر الله أجناده و جواسيسه، و تواصلت الاتصالات بالأرض التي أدنت لربها و حقّّت، وساد الوجوم و شاهت الوجوه إلى أن قضى الله أمرا كان مفعولا. فماذا جرى يا ترى في ذلك اليوم الرهيب؟ و من الذي انتصر و من الذي انهزم؟ و ما محل الملائكة من الإعراب؟و هل استدعى وجودهم تواجد الشياطين؟ و من هم أبطال هذه المسرحية الهزلية الحقيقين في ضوء قوله: (فأنزل اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُواْ السّفْلَىَ وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:40] ؟فمن هم هؤلاء الجنود الربانيون الذين لا يعلمهم إلا هو؟ هل هم ملائكة أم شياطين ؟ أم هم خليط من هؤلاء و أولئك؟ هذا ما سنحاول استجلاءه في هذه الأسطر إن كنتم من الصابرين.
إن التنقيب الجدي عن هؤلاء الجند الأبطال الذين صنعوا ذاك النصر الموهوم ليقتضي منا العودة إلى ما قبل الهجرة ، و بالظبط إلى بيعة العقبة الثانية حيث نجد العباس عم النبي و ابن خالته يفاوض، وهو الكافر، الأوس و الخزرج باسم محمد.فهذا الموقف لا بد و أن يسترعي الانتباه و يضع على الملاحظ الكثير من علامات الاستفهام ، منها مثلا كيف للعباس الكافر المشرك أن يقوم بهذه المبادرة دون سائر أعمام النبي الذين لا يقلون كفرا عنه ؟و كيف لمحمد أن يقبل من كافر به أن يفاوض باسمه؟. و الحق الحق أن العباس كانت له صحبة قديمة و كبيرة مع النبي.فإلى جانب أواصر القرابة التي تجمع بين الإثنين، فإنهما قد تربيا في نفس المنزل عند عبد المطلب، و تعلما كليهما على يد نفس الكاهن القس ورقة و في نفس الصومعة بحراء. ثم باشرا كليهما التجارة إلى اليمن و الشام قبل و بعد الرحلتين المشهورتين بالراهب بحيرا و خوارقه.و لا بد أن يكون للعباس يد في زواج محمد و لو أن السير تضرب عن ذلك صفحا. أما بعد نزول الوحي فإن العباس سيعتزل التجارة مثله في ذلك مثل محمد و سيصبح الملازم الأول له الذي لا يفارقه في حلّه و ترحاله.فالعباس إذن، لم يكن مسلما فحسب، إنما كان هو أول من آمن بمحمد، حتى قبل نزول الوحي.ففي السيرة الحلبية عن عكرمة مولى ابن العباس قال قال أبو رافع مولى رسول الله: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، و كان العباس أسلم و أسلمت زوجته و أسلمت أنا و كنا نكتم الإسلام، فلما جاء الخبر عن مصاب قريش ببدر سرّنا ذلك..إلى آخر الحديث(الحلبية 2/188 ، سيرة ابن هشام 2/646) وأمّا دحلان فقد أخرج في سيرته ما هو أدهى و أمرّ،قال: و كان العباس فيما قاله أهل العلم بالتاريخ قد أسلم قديما، و كان يكتم إسلامه، و كان يسرّه ما يفتح الله على المسلمين و كان النبي يطلعه على أسراره حين كان بمكة، و كان يحضر مع النبي حين كان يعرض نفسه على القبائل، و كان يحثهم و يحرضهم على ما قال،فهذا كله يدل على إسلامه، و كان النبي أمره بالمقام بمكة ليكتب له أسرار قريش و أخبارها، ثم قال: فكان العباس يخفي إسلامه بإذن من النبي، قال: و للنبي غرض في إخفاء إسلامه ليكون له عينا ينقل أخبار القوم ( سيرة دحلان:هامش السيرة الحلبية ، 1/402 ـ 403).فبمجرد ما انفضت بيعة العقبة و انتهى خبرها إلى أهل مكة الذين ثارت ثائرتهم و اشطط غضبهم و همّوا الانتقام من محمد و أجمعوا على الحيلولة دونه و دون الالتحاق بالخزرج،و بدأ الصحابة فعليا في الهجرة إلى المدينة، حتى استطاع العباس أن يجنّد أول جاسوس في الإسلام تذكره السير باسم حركي هو الشيخ النجدي الذي اخترق مجلس الملإ الأعلى في دار الندوة حيث اجتمعوا للمشورة في أمر محمد.قال ابن هشام في سيرته ، قال ابن اسحاق:فحدثني من لا أتهم من أصحابنا، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبير أبي الحجاج، و غيره ممن لا أتهم، عن عبد الله بن عباس قال: لمّا أجمعوا لذلك، و اتّعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله، غدوا في اليوم الذي اتّعدوا له، و كان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة، فاعترضهم إبليس لعنه الله في هيئة شيخ جليل،عليه بتلة،فوقف على باب الدار، فلمّا رأوه واقفا على بابها، قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتّعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، و عسى أن لا يعدمكم منه رأيا و نصحا. قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم لعنه الله.(سيرة ابن هشام 2/ 480). فكان الشيخ النجدي هذا هو أول إبليس سنقابله في هذا البحث.لقد استطاع هذا الشيخ حسب حديث ابن إسحاق الطويل أن ينخرط في الاجتماع أيما انخراط بذكاء و ألمعية متظاهرا بالعداوة لمحمد، و يتدخل بعدة اعتراضات و انتقادات دون أن يدلي بأي رأي من عنده، مفسحا المجال للمجتمعين في البحث في عدة خيارات إلى أن أجمعوا على رأي أبي الحكم (جهل) بن هشام الذي قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه،فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منّا بالعقل فعقلناه لهم. قال ابن إسحاق: فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي لا رأي غيره.فتفرق القوم على ذلك و هم مجمعون له.(نفس المصدر السابق). و بعد انفضاض المجلس انتقل الشيخ الإبليس توا إلى العباس الذي راح من فوره هو الآخر إلى محمد لينقل إليه ما جرى في دار الندوة مما جعل محمدا يعجّل في هجرته في نفس ذلك اليوم.إلا أن ابن اسحاق نجده يقول في هذا الصدد: فأتى جبريلُ عليه السلام رسولَ الله فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه.(نفس المصدر).فكان العباس هو جبريل عند الرواة في هذا الحديث الذي يحلو أن نسميه حديث الشيخ النجدي. و بعد أن أفلت محمد من أهل مكة و مكث في غاره ثلاث ليال بمعية أبي بكر و هم يبحثون عنه جعلوا فيه دية مائة ناقة لمن ألقى عليه القبض أو قتله. فلما ذاع الخبر إذ بسراقة بن مالك المدلجي أحد الطامعين في الدية يسترق خبر محمد فخرج في طلبه إلى أن عثر عليه فقال له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية لمن قتلك أو أسرك...قال و في رواية أنه لما لحق بهم، قال رسول الله: اللهم اصرعه، فصرع عن فرسه، فقال: يا نبي الله، مرني بما شئت، قال: تقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا.قال سراقة: فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، لأنه وقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم، أن سيظهر أمر رسول الله، قال ابن هشام قال ابن اسحاق و في السبعيات (اسم كتاب) قال سراقة: يا محمد، إني لأعلم أنه سيظهر أمرك في العالم و تملك رقاب الناس، فعاهدني إني إذا أتيتك يوم ملكك فأكرمني.فأمر عامر بن فهيرة( مولى أبي بكر)و قيل أمر أبا بكر فكتب لي في رقعة من أدم، و قيل في قطعة من عظم و قيل في خرقة.قال: و لما أراد الانصراف قال له رسول الله: كيف بك يا سراقة إذا تسوّرت بسواري كسرى!!قال: كسرى بن هرمز؟!،قال: نعم.و لمّا رجع سراقة صار يردّ عنهم الطلب، لا يلقى أحدا إلاّ ردّه،يقول سبرت الطريق فلم أر أحدا.و في لفظ قال لجماعة من قريش قد خرجوا يطلبون رسول الله: قد عرفتم بصري بالطريق، و قد سرت فلم أر شيئا فرجعوا.قال: فكان سراقة أول النهار جاهدا على رسول الله و آخر النهار سلحة أي سلاحا له.و في رواية: قال سراقة خرجت و أنا أحبّ الناس في تحصيلهما، و رجعت و أنا أحب الناس في أن لا يعلم بهما |أحد.(السيرة الحلبية 2/44 ـ 46).هذا هو حديث سراقة الطويل و الذي نستشف منه أن سراقة قد حصّل القوم و أنهم ساوموه و أرشوه و أعطوه ما أنساه المائة ناقة.فالكتاب الذي كتبوه له تقول الروايات بأنه كتاب أمن و في بعضها كتاب أمان.و نحن نشك في ذلك، لأن الذي كان في تلك اللحظة محتاجا للأمن و الأمان هو محمد المتسلل خيفة من قومه و ليس سراقة المغامر المسلح من رأسه إلى أخماص قدميه.إن الكتاب الذي كتبه ابن فهيرة أو ابن أبي قحافة يفترض فيه أن يكون متضمّنا لما هو أغلى من مائة ناقة، لقد كان كتاب وعد بعطاء جزيل جعل سراقة يضرب صفحا عن قريش و دية قريش.و دليلنا على ذلك ما تدل عليه قصة إسلامه، فإنه أسلم بعد فتح مكة، حيث قدم على الرسول و هو بالجعرانة (موضع بين الطائف و مكة) بعدما فرغ من حنين و الطائف. قال سراقة: خرجت و معي الكتاب لألقاه، فلقيته بالجعرانة، فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار، فجعلوا يقرعونني بالرماح، و يقولون: إليك ما تريد؟قال: فدنوت من رسول الله و هو على ناقته، فرفعت يدي بالكتاب، ثم قلت: يا رسول الله، هذا كتابي، و أنا سراقة، فقال رسول الله:مرحبا بك، يوم وفاء و بر، اُدنه، فدنوت منه و أسلمت(و نعم الإسلام).(الحلبية 2/45). هكذا يتضح أن الكتاب لم يكن كتاب أمن بقدر ما كان صكا مؤجل التنفيذ أو شيكا على بياض كما نقول اليوم و الدليل عليه قوله يوم وفاء و بر. ثم طلب سراقة من النبي أن يأمره بما ي.شاء و تفيدنا الروايات أن النبي أمره بأن يرد عنه الطلب أو قال له: تقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا. و نحن لا اعتراض لنا على هذا الأمر إنما نرى أنه ناقص فالرسول لم يأمر سراقة باعتراض عيون قريش فحسب، و إنما أمره كذلك بأن يلتحق بالعباس و أن يضع نفسه رهن إشارته. و ذاك ما كان.التحق سراقة بالعباس و هاجر محمد للمدينة و استقر بها و طاب له المقام.و لما أمن على نفسه و اطمأن لمقامه عند الأنصار بدأ يستفز قريشا الذين ما فتئوا يتحاشون حربه و يتهربون من أي مواجهة ضده، ليس خوفا منه أو من الأنصار و لكن ليقينهم التام بأن أي حرب ضده لن تعود نتائجها إلا لصالحه، سواء أ انتصروا عليه أم انهزموا أمامه.أما محمد فقد كان يتحرق لأي صدام مع قريش لإيمانه العميق بأن مشروعه لن يتم بدون حرب و أن الدولة لا تقوم بدون قوة و أن الطاعة و الانقياد لا يكونان بدون غلبة. فكانت الاتصالات مع العباس جارية على قدم و ساق و ما لبث هذا الأخير أن أعلمه بأمر قافلة أبي سفيان . قال ابن إسحاق - رحمه الله - بعد ذكره سرية عبد الله بن جحش: ثم إن رسول الله  سمع بأبي سفيان صخر بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة فيها أموال وتجارة، وفيها ثلاثون رجلا - أو أربعون - منهم: مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص. قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم بن شهاب، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا، عن ابن عباس، كل قد حدثني بعض الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر.
قالوا: لما سمع رسول الله  بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم وقال: «هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها»، فانتدب الناس فخفف بعضهم وثقل بعض، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله  يلقى حربا، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس من لقي من الركبان تخوفا على أموال الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك.
فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.( البداية والنهاية/الجزء الثالث/غزوة بدر العظمى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان).لكن العباس لم ينتظر وصول ضمضم إنما بادر قبل ذلك إلى تحريض قريش و حثها على الخروج إلى حماية عيرها إذ بث فيهم رؤيا ادعاها لأخته عاتكة بنت عبد المطلب  قال ابن اسحاق :فحدثني من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس و يزيد بن رومان قالا: وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم إلى مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة فاكتم عليّ ما أحدثك، قال لها: وما رأيت؟
قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له، حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلا صوته: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه.
ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: إلا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث.
ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها فلقة.
قال العباس: والله إن هذه لرؤيا، وأنت فاكتميها لا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة - وكان له صديقا - فذكرها له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لابنه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش في أنديتها(نفس المصدر السابق).فالعباس إذن،نراه تعمد إفشاء هذه الرؤيا و ذلك قبل مجيء رسول أبي سفيان بثلاثة أيام ليشحذ همم أهل مكة و يوغل صدورهم و يهيئهم نفسيا لاستقبال الخبر. و لما جاء ضمضم كانت حمية أهل مكة متقدة متوهجة فما أن سمعوا حديث العير حتى هاجت هائجتهم و ثارت أعصابهم و أجمعوا جمعهم على الخروج، فتذاكروا الأمر بينهم قال صاحب البداية و النهاية في المصدر السابق: قال ابن إسحاق: (فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أن أبا لهب ابن عبد المطلب بعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه قد أفلس بها). و كان بينهم مترددون و رافضون للحرب كأمية بن خلف، إلا أن تحريض أبي الحكم نجح في تعبئة القوم،و كان من بين ما احتج به القوم الرافضون ماكان بين قريش و كنانة من ثأر و ذحول و دماء لأن القبيلتين كانتا في حالة حرب .فلما تجهزت قريش و أرادت الخروج تذكروا ما بينهم و بين كنانة من دماء فكاد ذلك أن يصرفهم عن الخروج خوفا من كنانة أن يأتوهم من خلفهم أو أن يخلفوهم على ديارهم. هنا تدخل سراقة و بدأ دوره الحاسم.يقول صاحب الحلبية: فجاء إليهم سراقة و كان من أشراف بني كنانة، و قال لهم أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه(الحلبية 2/ 146) و يستطرد صاحب الحلبية قائلا : إلا أن الرواة يقولون : جاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجي ـ ثم يضيفون فقال سراقة لقريش و لم يقولوا فقال إبليس لقريش ليثبتوا أن سراقة هو القائل الحقيقي و أن إبليس كان موضع شك عندهم. و ماذا قال قريش ـ قال لا تخافواأنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، و وعدهم أن بني كنانة مقبلون لنصرهم، و حسّن إليهم الأمر و قربه لهم و هوّنه عليهم( نفس المصدر السابق). و الظاهر أن الرواة معذورون لقولهم أن إبليس قد جاء في صورة سراقة لأنهم لا يمكنهم أن يناقضوا ما قاله محمد في الآيتين 47 و 48 من سورة الأنفال: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (يصف قريشا عند خروجهم لبدر)وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ . وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. فإبليس الذي زين لهم أعمالهم نجده في الآية يقول ما قاله سراقه في مكة ما يدل على أن محمدا كان يعرف بما جرى في مكة ، و لرفع الإشكال عمد الرواة إلى الجمع بين الإثنين فقالوا إن إبليس تقمص شخصية سراقة.هكذا يصبح سراقة الذي أنقذ محمدا من الأسر أو القتل شيطانا مريدا على لسان محمد نفسه. ثم خرج القوم و فيهم سراقة و معه بنو كنانة الذين ستصفهم الروايات بجند الشيطان ـ قال صاحب  البداية و النهاية في الفصل السابق ذكره:فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة وجاء إبليس في جند الشياطين ومعه ذريته وهم في صورة رجال من بني مدلج والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم ـ . و فيهم العباس بنفسه و ماله ـ فقد ذكروا أن الذين كانوا يطعمون جيش قريش لما خرجوا إلى بدر كانوا اثني عشر رجلا، و ذكروا منهم العباس بن عبد المطلب( الحلبية 2/152 ـ 153) و جاء في الحلبية كذلك أن العباس خرج لبدر  و معه عشرون أوقية من ذهب ليطعم بها المشركين فأخذت منه في الحرب، فكلّم النبي أن يحسب العشربن أوقية من فدائه، فأبى و قال:أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا نتركه لك(الحلبية 2/198).و كان في من خرجوا مع القوم شخصية أخرى كان لها باع كبير في ما آلت إليه نتيجة الحرب ألا و هو الصحابي الجليل حكيم بن حزام قرين رسول الله و صديقه الحميم قبل البعثة و ابن أخ زوجته خديجة، لم يسلم أو لم يظهر إسلامه هو الآخر إلا بعد فتح مكة و كان يقول: لا و الذي أنجاني يوم بدر و أحد ـ فقد ذكر ابن اسحاق أنه
لما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله  فيهم حكيم بن حزام
فقال رسول الله : «دعوهم»، فما شرب منه رجل يومئذٍ إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل، ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني يوم بدر(البداية و النهاية ،ج3،  باب: غزوة بدر العظمى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان).و كان حكيم رجلا ثريا تاجرا آلت إليه الرفادة في قومه فكان يطعم الحجاج من ماله الخاص وذكر من بين المطعمين يوم بدر.و كان صديقا مقربا بطبيعة الحال من العباس و من أصحابهما في صومعة حراء فلا يستبعد أن يكون هو الآخر مؤمنا بمحمد من قبل أن يأتي الوحي و لا يستبعد أن يكون مشاركا للعباس في التجسس مطلعا على مأموريته الاستخباراتية و ذاك ما ستدلنا على أحداث موقعة بدر.
و في هذه الأثناء كان محمد يجوب الطرقات مع أصحابه مدعيا اقتفاء أثر قافلة أبي سفيان في حين تفيدنا الروايات أنه كان علم تام بكل حركاتها و سكناتها،قال أبو هريرة:بعث رسول الله(ص) عشرة عينا في غزوة بدر يتجسسون له ( البخاري شرح فتح الباري 8/382) و عن أنس بن مالك قال بعث رسول الله بسيسا عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان(مسند أحمد 3/136 ، سنن أبي داود2/27) و أما الطبري فيورد في تاريخه أنه: عندما دنا أبو سفيان بالقافلة قادما من الشام، و أراد أن يعرف الرسول أين وصلت القافلة، بعث قبل أن يخرج من المدينة طلحة بن عبيد الله و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، إلى طريق الشام يتجسسان الأخبار عن العير ثم رجعا إلى المدينة فقدما يوم وقعة بدر فاستقبلا رسول الله بتربان و هو منحدر من بدر يريد المدينة المنورة بعد انتهاء الغزوة و لم يحضرا القتال فأسهم لكل منهما( تاريخ الطبري2/296).و عليه فهذه الروايات تفيدنا بأن محمدا كان  على إلمام تام بالقافلة و أنه كان يتتبع حركات العير أولا بأول إلى أن انتهت الحرب. و إنما كان يجوب بأصحابه الطرقات قصد اقتناص فرصة اقناعهم بالحرب.لأن القوم لم تكن لهم رغبة في حرب بقدر ما كان غرضهم النهب. فالأنصار لم يتفقوا معه في العقبة على حرب إلا من اعتدى عليه في ديارهم، كما أن أصحابه المهاجرين لم يكونوا على استعداد لمحاربة أهلهم من قريش. و قد روى ابن أبي حاتم في تفسيره وابن مردويه - واللفظ له - من طريق عبد الله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم عن أبي عمران أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول
قال رسول الله  ونحن بالمدينة: «إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يغنمناها؟».
فقلنا: نعم!
فخرج وخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا: «ما ترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟».
فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم ولكنا أردنا العير
ثم قال: «ما ترون في قتال القوم؟».
فقلنا مثل ذلك.
فقام المقداد بن عمرو فقال: إنا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون(البداية و النهاية). آنذاك اطمأن محمد و اتجه توا إلى ماء بدر حيث تقتضي خطته حصر قريش. أما أبو سفيان لما تيقن أنه في مأمن من محمد فقد بعث إلى قريش يطمئنهم على عيرهم و أموالهم و يطالبهم بالرجوع، فما كان من قبيلة بني زهرة إلا عادوا جميعهم. قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا.
فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرا وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا فامضوا.
وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي - وكان حليفا لبني زهرة - وهم بالجحفة: يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بها جبنها وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة لا ما يقول هذا(  يعني به أبا الحكم).
قال: فرجعوا فلم يشهدها زهري واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعا ولم يكن بقي بطن من قريش إلا وقد نفر منهم ناس إلا بني عدي لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد(البداية و النهاية). فكانت هذه أول ضرية قصمت ظهر جيش قريش الذين كان عددهم عند خروجهم من مكة يناهز الألف رجل. و لما التقى الجمعان و اصطف الفريقان يتناوشان و يستطلعان بعضهما البعض بادر حكيم بن حزام إلى بث الفرقة بين القوم و فت عضدهم و النيل من شوكتهم بأن مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟
قال: وما ذاك يا حكيم؟
قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي.
قال: قد فعلت.
أنت عليَّ بذلك، إنما هو حليفي فعليَّ عقله وما أصيب من ماله.
فأت ابن الحنطلية - يعني: أبا جهل - فإني لا أخشى أن يسجر أمر الناس غيره(البداية و النهاية ،ج3،  باب: غزوة بدر العظمى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان).لكن أبا الحكم استطاع بدهائه  أن يعيد عتبة إلى الصف و يدفع به إلى مبارزة أصحاب محمد فيقتل هو و ابنه و أخوه على يد عبيدة بن الحارث و حمزة بن عبد المطلب و علي بن أبي طالب. و كان محمد على رأس الصف و هو من أذن لهؤلاء الثلاثة بمبارزة أمية بن خلف.و مما يجذر ذكره هنا هو أن محمدا قد قال ، - وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم وهو على جمل له أحمر- حسب ما أورده الرواة عن ابن اسحاق «إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر» إن يطيعوه يرشدوا.( نفس الباب من نفس المصدر) ما يدل على أن محمدا قد علم بما دار بين عتبة و حكيم بن حزام و أن الأخير قد قام بمأموريته أحسن قيام.
 ثم أمر الرسول بحفنة تراب فرمى بها في وجوه جيش قريش الذين كان من بينهم سراقة و جنده.فما كان من سراقة إلا أن ولى هو و قومه هاربين و تركوا أهل مكة لوحدهم في الميدان، فخرت عزيمتهم و وهن أمرهم فحمل عليهم جند محمد يقتلون من قتل و يأسرون من أسر.فإذا كانت الروايات لا تسعفنا بعدد أفراد قيبلة بني زهرة الذين انسحبوا قبل المعركة و لا بعدد جند سراقة، فإن عدد القتلى و الأسرى الضئيل يفيد بأنهم كانوا يشكلون معظم جيش قريش. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ  (الأنفال 7) .....
فلما اصطف الناس قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره.
ورفع رسول الله  يديه فقال: «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا».
فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم، فما  من المشركين من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين.
وأقبل جبريل إلى إبليس فلما رآه - وكانت يده في يد رجل من المشركين - انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا وشيعته.
فقال الرجل: يا سراقة أما زعمت أنك لنا جار؟
قال: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ  (الأنفال: 48) وذلك حين رأى الملائكة رواه البيهقي في (الدلائل).
وقال الطبراني حدثنا مسعدة بن سعد العطار، ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا عبد العزيز بن عمران، ثنا هشام بن سعد، عن عبد ربه ابن سعيد بن قيس الأنصاري، عن رفاعة بن رافع.
قال: لما رأى إبليس  ما فعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص إليه، فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظن أنه سراقة بن مالك، فوكز في صدر الحارث ثم خرج هاربا حتى ألقى نفسه في البحر ورفع يديه فقال: اللهم إني أسألك نظرتك إياي وخاف أن يخلص القتل إليه.
وأقبل أبو جهل فقال لما رأى الهزيمة محذقة بهم: يا معشر الناس لا يهولنكم خذلان سراقة بن مالك فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهولنكم قتل شيبة وعتبة والوليد فإنهم قد عجلوا، فواللات والعزى لا نرجع حتى نفرقهم بالجبال، فلا ألفين رجلا منكم قتل رجل ولكن خذوهم أخذا حتى تعرفوهم سوء صنيعهم من مفارقتهم إياكم ورغبتهم عن اللات والعزى(نفس الباب من نفس المصدر السابق) . لكن القوم كانت قد خرت قواهم و ضعفت عزيمتهم فكانت الهزيمة مقرونة بفرار سراقة و جنده المتزامنة مع رمي الحصى أو التراب من طرف محمد و كان ذلك مما تقتضيه الخطة المتفق عليها بين العباس و سراقة مع محمد،. قال الأموي:
وأمر رسول الله  فأخذ كفا من الحصى بيده ثم خرج فاستقبل القوم
فقال: «شاهت الوجوه»
ثم نفحهم بها ثم قال لأصحابه: «احملوا فلم تكن إلا الهزيمة» فقتل الله من قتل من صناديدهم، وأسر من أسر منهم.
وقال زياد عن ابن إسحاق ثم أن رسول الله  أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا، ثم قال: «شاهت الوجوه»، ثم نفحهم بها وأمر أصحابه فقال: «شدوا».
فكانت الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم.
وقال السدي الكبير: قال رسول الله  لعلي يوم بدر: «أعطني حصباء من الأرض» فناوله حصباء عليها تراب فرمى به وجوه القوم فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء، ثم ردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم وأنزل الله في ذلك: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى  (الأنفال 17).
هكذا تمت وقعة بدر بمكيدة مدبرة بين محمد من جهة و العباس بن عبد المطلب و سراقة بن مالك و حكيم بن حزام من جهة أخرى.و قد صدقت تسمية الرواة لهذه الحرب بالوقعة لأنها في الحقيقة كانت فخا نصبه محمد و أبطال بدر الثلاثة المذكورون.ثم إن سراقة بعد رجوع قريش إلى مكة أنكر فعلته التي فعلها في بدر، ففي السيرة الحلبية: و ذكر السيهيلي أنه يروى أن من بقي من قريش و هرب إلى مكة وجدوا سراقة بمكة، فقالوا، يا سراقة خرقت الصف و أوقعت فينا الهزيمة، فقال: و الله ما علمت شيئا من أمركم،ما شعرت و ما علمت، فما صدقوه حتى أسلموا و سمعوا ما أنزل الله فعلموا أنه إبليس(الحلبية 2/146).و أورد الزمخشري في الكشاف قصة سراقة هذه و ذكر رجوع قريش من بدرإلى مكة و قال: فلما بلغوا مكة قالوا،هزم الناسَ سراقةُ، فبلغ ذلك سراقة فقال:  و الله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم، قال فلما أسلمواعلموا أنه الشيطان(الكشاف، تفسير الآية 47 من سورة الأنفال).و أما العباس فقد أسر في هذه الوقعة و فدى نفسه بعد أن أمر الرسول أصحابه ألا يقتلوا أحدا من بني هاشم و ألا يقتلوا العباس و ابن البختري. و أما سراقة فقد أخذ جزاءه أضعافا مضاعفة عند إسلامه بعد الفتح كما سبق ذكره، و بقي أمر وعد الرسول له بأساور كسرى.فاعلم إنه لما فتح سعد بن أبي وقاص مدينة طيسفون، المسماة عند العرب بالمدائن، وكان ذلك في خلافة عمر بن الخطاب سنة 61 هجرية، أرسلت الغنائم التي اغتنمها جيش المسلمين إلى المدينة، و كان فيها مال كثير من مال كسرى، و من جملة ذلك سوارا كسرى، و تاجه، و منطقته، و بساطه الكبير، و كان ستين ذراعا في ستين ذراعا منظوما باللؤلؤ و الجواهر الملونة على ألوان أزهار الربيع، كان يبسط لكسرى في إيوانه و يشرب عليه إذا عدمت الزهور. و أرسلت مع الغنائم السبايا أيضا و هنّ بنات كسرى، و كنّ ثلاثا و عليهن من الحلي و الحلل و الجواهر ما يقصر اللسان عن وصفه. و أمر عمر بن الخطاب بالمال الذي جيء به من أموال كسرى فصبّ في صحن المسجد، و أخذ يفرقه على المسلمين. و عند ذلك دعا  سراقة و قال له: ارفع يديك و ألبسه السوارين، و قال له: الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول أنا رب الناس، و ألبسهما سراقة بن مالك( الحلبية 2/45)
هذه هي حكاية أبطال مسرحية بدر الكبرى، العباس و سراقة و حكيم بن حزام، أوردناها لك بكل تفصيل كما استخلصناها من خلال غربلة روايات المحدثين و أصحاب السير و الأخبار، على أن نختمها كما و طأنا لها بقول آخر لابن الراوندي الكبير الذي يظهر من خلال كلامه هذا أنه كان على فهم كبير لأمر الملائكة و الشياطين و علاقتهم بسراقة و علاقته بهم.قال ابن الراوندي:
إنّ المخاريق شتى و إن فيها ما يبعد الوصول إلى معرفته و يدق على المعارف لدقته، و إن أورد أخبارها عن شرذمة قليلة يجوز عليها المواطأة و الكذب كقولهم بتسبيح الحصى و كلام الذئب و شاة أم معبد و حديث سراقة ، و كلام ضلع الشاة المسمومة ، فهذه كلها مما تنكره العقول . ( من تاريخ الإلحاد 90)
أبو نبي العرب

الخميس، 21 يوليو 2011

بين دجال و سكير


بين دجّــال و سكران

حدثنا بعض المتكلمين، قال بعض البساتين، و ذلك عند ناجِمِ النهار، و أنا خارج الدينار(1)، و قد منع البرَّ جانبُه(2)، و صرّت (3) جناديه (4)، و اسمألَّ (5) التُّبَّع (6)، و خبَّ الآلُ و لمع، و إذا برجل في ظلّ غاطية (7)، و بين يديه باطية (8)، و هو مُلتخُّ (9) من السكر، يترنّم بأنواع الشعر، فاحتملتُ منه أشدَّ الغيظ، خوفا من حمّارة (10) القيظ، و سلّمت و جلست، فأمهلَني حتى أنَسْتُ، و اغترف غُرفةً في الكأسِ، كأنها مقياس، و تمثّل بقول الأخطل،
فأحبِبْ بها مقتولةً حين تُقتلُ
ثم صفقها حتى أدهقها (11)، و قال دونكها . فقلت أنا رجل من أصحاب الكلام و ممّن له نظر في الدين و قد حُظِرَ علينا هذا الشرابُ.فقال ما تقول في هذه الكأس ، فأجال(12) الخمرَ و الماءَ فيها و قال، أ ثابتان معا، أم بطُلَ أحدهما، أم دخل في الآخر؟!، فلا يجوز أن يبطُلَ أحدهما لأنّ هاهنا خمراً و ماءً و لا يدخل كل واحد منهما في صاحبه فيصير داخلا في نفسه و إنّما هما ثابتان و بالاختلاط وقع التغيير و الاستحالة. و لا كَوْنَ و لا فسادَ إلا باستحالة. و الطبيعة اثنتان:اِحداهما مستعلية على الكون و الفساد، و الأخرى معرّضة الأجزاء لذلك، و الإنسان مركّب منها و هو يحْيى بالنفس النامية و ينتقل بالنفس المتحرّكة و يعلم بالنفس المميّزَة. و النفسُ في الأجسام بمنزلة الصورة في الهيولى(13)، و هي المحرّكة للأجسام،  و هذه الخمرة مُحرّكةٌ للنّفْسِ، و هي قِبْسُ لكلّ قنْسٍ(14)
جُهْميَّةُ الأوصافِ إلآّ أنَهم ........قد لقَّّبوها جوهَرَ الأشياء
ثُمّ شرِب كأسه، و عاود وسواسه؛ فقال، و الحركةُ أوّلُ كوْنٍ طبيعيّ، و لها معنيان: الشوق و الفعل. و أخذ في بسط ذلك و نشره، و شرحه و فَسْرِهِ، و الكلام في المعاني الكيفية، و الأسماء القاطاغورسيائية (نسبة إلى بيتاغور)، ثم قال ما أحسن قولَ الفاضلِ أرسطوطاليس أنه لمّا لم يكن للإنسان أن يبقى بشخصه اشتاق إلى أن يبقى بصورته و ذكر ما يقتضيه هذا القولُ، ثمّ لم يقنع بالكناية و الالباس حتى أنشد قول أبي نواس:
باح لساني بمًضمَرِ السِّرِّ...........و ذاك أنّي أقول بالدّهر
و ليس بعد الممات مُنْبَعَثٌ.......و إنما الموت بيضة العقر
فراعني ما انتهى إليه من مذهبه، و ساءني ما رأيت من سوء مُنقلبه، و قد استولت منه الخمر على العقل، فقلت، يا هذا إياك و الضلال، و الأخذَ في زخارف المحال !، و ما الذي تنكر له أمر المعاد، و يـَبعثُك على فساد الاعتقاد و الالحاد، أم أجّلَ المصيرُ إلى البِلى، و تفرُّقُ الأجزاء في الثرى، أوَ ليس الحيّةُ لا تنبُتْ إلاّ بعد العفن و الاضمحلال، و البيضةُ لا تفرخ إلاّ بعد الفساد و الانفعال، و تلوتُ عليه: و آية لهم الارض الميتة أحييناها و أخرجنا منها حبا فمنه يأكلون إلى قوله ..و القمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. فاعترض مبادرا، و قال : ما معنى قوله، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، و في كل محاق، يقع الادراك و اللحاقُ، ثمّ في الكسوفِ الشمسيُّ، يكون الادراك الحقيقيُّ.قلت هيهات و أنّى لهم التناوُسُ من مكان بعيد.حفِظْتَ شيْئا و غابتْ عنك أشياءُ.إنما الشمس لا تدرك القمر بفلكها و إنما هو بسرعة سيره يدركها و ذلك بمشاهدة الناظرين( و قَُطع دابرُ القومِ الذين ظلموا و قيل الحمد لله رب العالمين).فقال: على رسلك، فما معنى قوله: و لا الليل سابق النهارَ. و ما الدليل على اختصاص النهار بالسبق.قلت المراد أنه لا يذهب أحدهما بمعنى صاحبه و لا يزول......فكأنه قال لا الليل سابق النهار و لا النهار سابق الليل، و نابت اِحدى الجملتين  عن الأخرى. و هذا مذهب من مذاهب العرب في كلامهم الذي نزل به القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. أمّا أن السبق من النهار واقع فلأن الله لما خلق الشمس أوجد النهار بوجودها و لم يكن الزمان قبلها يسمى ليلا،فلمّا وقع الانحياز و التميُّزُ بها كان النهار و الليل. و استحقّ النهار السبق لأن الدليل منه،قال الله سبحانه و تعالى: أ لم تر إلى ربك كيف مدّ الظّلّ و لو شاء   لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا..فقال دعني من خرافات المتكلمين و أقاويل المشرعين و لم يزل يعَنّيني كفره، حتى مال به سكره.........
ابن ناقيا
ملاحظة
كلما أراد المتكلمون أن ينشروا حكمة أو يقولوا شيئا معقولا ساقوهما على لسان السكارى أو الحمقى؟؟فهل هذا يعني أنه لا يقول الحكمة و المعقول إلا السكران أو الأحمق؟؟ و إذا كان السكران أو الأحمق حكيما عاقلا في عرف المتكلمين و فقهاء الدين فهل كل حكيم هو بالضرورة سكران أحمق؟؟؟و إذا كان الأمر كذلك فهل يكون تحريم الله الخمر من باب إطال الحكمة؟ و ما دامت هناك علاقة بينهما و أن أحدهما يزول بزوال صاحبه فهل يمكن إرجاع غباء العرب و فقد الحكمة عندهم إلى امتناعهم عن شرب الخمر و انتفائها من أرضهم؟ بمعنى أن أرضا لا خمر فيها إذا لا حكمة؟؟؟أمّا إذا أقررنا مع المقرّين بعبقرية الرسول و حكمته و سلّمنا مع المسلّمين بأن الرسول كان عاقلا عبقريا لا ينطق إلا الحكمة فهل هذا يعني أن الرسول هو الآخر كان سكيرا عربيدا كلما أخذ منه الخمر مأخذه نطق كالهذيان و جاء بأفانين البديع و حُلل البيان؟؟؟؟

1 ـ لعلّه اسم بلد
2 ـ يعني به توسط النهار و اشتداد حرارته
3 ـ صوّتت
4 ـ ضرب من الجراد
5 ـ قصُر و ارتفع
6 ـ الظّـلّ
7 ـ كرْم
8 ـ قدح
9 ـ مختلط العقل
10 ـ شدّة
11 ـ يعني ملأها عن آخرها
12 ـ فأفرغ
13 ـ هي رأس الطبائع عند الفلاسفة
14 ـ يعني أصل الأصول

الأحد، 13 فبراير 2011

القرآن وسجع الكهّان


القرآن وسجع الكهّان
كريم عبيد
العدد 35 - كانون الثاني 2011
من المفيد أولاً الوقوف على بعض المصطلحات التي ارتبطت بالكهنة، وكان الخلط واضحاً في ما بينها في أذهان العرب، رغم معرفتهم الفطرية بمعنى كلّ من هذه الكلمات. وهذا إن دلّ على شيء، فإنما على احتواء الكاهن في الجاهلية على كلّ هذه المعاني.
السجع: سَجَعَ يَسْجَعُ سَجْعاً: استوى واستقام وأَشبه بعضه بعضاً، والسجع: الكلام المقفّى، والجمع أَسجاع وأَساجيعُ؛ وكلام مُسَجَّع. وسَجَعَ يَسْجَعُ سَجْعاً وسَجَّعَ تسْجيعاً: تَكلَّم بكلام له فواصلُ كفواصلِ الشِّعْر من غير وزن، وصاحبُه سَجَّاعةٌ وهو من الاستواءِ والاستقامةِ والاشتباهِ كأَن كل كلمة تشبه صاحبتها...
الكُهَّان: جمع الكاهن: معروف. كَهَنَ له يَكْهَنُ ويكهُنُ وكَهُنَ كَهانةً وتكَهَّنَ تكَهُّناً وتكهيناً، الأخير نادر: قَضى له بالغيب. الأَزهري: قَلَّما يقال إِلا تكَهَّنَ الرجلُ. غيره: كَهَن كِهانةً مثل كَتب يكتُب كِتابة إذا تكَهَّنَ، وكَهُن كَهانة إذا صار كاهِناً. ورجل كاهِنٌ من قوم كَهَنةٍ وكُهَّان، وحِرفته الكِهانةُ. وفي الحديث: نهى عن حُلْوان الكاهن؛ قال: الكاهِنُ الذي يتعاطى الخبرَ عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدَّعي معرفة الأسرار... وسجع الكهَّان: جاء مصطلحاً مركَّباً تركيباً إضافياً: المضاف مفرداً نكرة، المضاف إليه جمعاً معرفة... وكأن من وضع هذا المصطلح رأى أن السجع واحد عند مجموع الكهان.
العرّاف: الكاهن؛ قال عُرْوة بن حِزام:
«فقلت لعَرَّافِ اليَمامة: داوِني
فإنك إن أبرأتني، لطبيبُ»
أراد بالعرَّاف المُنجِّم أو الحازِيَ الذي يدَّعي علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه.
الحكيم: العالم بالأمور والمتقن، ومن هنا سُمِّي أحد الكهنة بمحكّم اليمامة، وقد يكون شاعراً أو قائداً أو شيخ قبيلة.
المتنبِّئ: من يدّعي النبوة... وهو من أقرب هذه المصطلحات إلى الكهانة(1).
فكان يقال للكاهن تكهَّن وعرف وحكم وتنبّأ، ومنها جاء الخلط بين الكاهن والعرّاف والحكيم والمتنبّئ.
إذاً فالسجع أسلوب يعتمد على التقطيع المتتالي للكلام، تقطيعاً يتناسب مع المعنى غالباً، حاول الكهَّان من خلاله التأثير في السامع، وإضفاء مسحة من القداسة والغموض على أقوالهم، وذلك من خلال أمور عديدة:
1- المعاني المقتضبة التي تتكوَّن غالباً من مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل، أو سؤال قطعي، أو وصف لبعض الأحداث... إلخ، أو التغييب المعنوي الظاهر، وتعميق المعنى الباطن في تلافيف الكلام. ومن ذلك قول الكاهن شق بن صعب يصف يوم القيامة: «يوم تجزى فيه الولايات، يدعى فيه من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات».
أو قول الكاهن سطيح في وصف يوم النشور: «يوم يُجمَع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون».
2- القوالب المتقابلة والمتناظرة التي تعتمد على شدّة الوقع والجرس، النهايات الحادّة، التي تنوب في النثر عن القافية في الشعر، وتشكِّل استراحة سمعية للمتلقّي، وتُغلق المعنى بقسوة، ليبدأ بعدها معنى جديد آخر، يُناظر الأول أو يعاسكه، وهذا ما يفتح المعنى على احتمالات دلالية مختلفة، توحي بغموض ما، يقتضيه المعنى الديني أو الروحي المراد إيصاله، وأكثرها يتضمَّن معنى القسم أو الشرط أو الاستفهام... ومن ذلك قول الكاهنة زبراء: «واللوحِ الخافق، والليل الفاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأود ختلا، ويرقّ أنياباً عُملا، وإن صخر الطوا لينذر ثقلا، لا تجدون عنه معلا» (2).
ومن ذلك أيضاً نصّ من النصوص المتميّزة لسجع الكهَّان، والتي لا تبتعد عن الأسلوب القرآني قيد أنملة، وهو ما سُمِّي بـ«سورة الكِبْر»: «وأما من استكبر. وبآياتنا كذّب وأنكر. سنُذيقه العذاب الأصغر. ثم نُذيقه العذاب الأكبر. وما أدراك ما الأكبر. جحيمٌ مسَعَّر. وحميمٌ مُسجَّر. وما هو منها مُحرَّر. يوم عن آياتنا أدبر. وقال ما لنا من مآبٍ يُذكَر. إن هي إلا أرضٌ تجمع. وعظامٌ تهجع. وقبورٌ تبلع. كلا سيُنحَر. ثم كلا سيُنحَر. و ما له من مفر. ظن أن لن يقدر عليه رب البشر...».
3- التركيز على الأفكار، وهذا ما يُعطي الكلام بُعداً معرفياً أو لغوياً، يرفعه من مرتبة الكلام العادي المباشر إلى نوع من الإنشاد الديني، متوسِّلاً لذلك تضمين كلّ المخزون الروحي والمعرفي والثقافي والاجتماعي والسياسي، الذي يميّز الكاهن عن غيره، ولا سيما الشاعر. حيث تكون غاية الشعر التأثير في نفس المتلقّي، وإثارة أحاسيسه، وتفجير وجدانه بالدرجة الأولى، بينما السجع يعمل على إثارة الأفكار، والتأثير في عقل المتلقّي، ودفعه إلى التفكير الما ورائي، واستحضار خبرات سابقة، يجمعها القول المركَّز، والتعبير المقتضب، في حكمة، أو مثل سائر، أو فكرة مقدَّسة، أو موعظة، وبالتالي تقديم منظومة أخلاقية روحية دينية، ترسم عالماً ميتافيزيقياً، يحتاجه الإنسان بالفطرة. ومن ذلك نصّ من النصوص السجعيّة المتميّزة لقس بن ساعدة الأيادي، يقول فيه: «اسمعوا وعوا. إن من عاش مات. ومن مات فات. وكل ما هو آتٍ آت. ليلٌ داج. ونهار ساج. وسماء ذات أبراج. إن في الأرض لعبرا. وإن في السماء لخبرا. أقسم قس قسماً حتما. لئن كان في الأرض رضا ليكونن بعدُ سخطا. بل إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم. بل هو المعبود الواحد. ليس بمولود ولا والد. أعاد وأبدى. وإليه المآب غدا» (3).
لقد عمل الكهَّان على إعادة السحر إلى الكلمة، عبر شفهية أخّاذة، ولا سيما بعدما استأثر الشعر بكلّ سحر... فانفردوا في سجعهم، بأبعاد روحية دينية، قلَّما حفل الشعر بها، إلا عند من كان كاهناً وشاعراً في الآن نفسه كأمية بن أبي الصلت، الذي أكثر من المعاني الدينية في شعره.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا اعتمد الكهَّان في الجاهلية في كتاباتهم أسلوب السجع؟! والجواب يكمن في طبيعة هذا النوع من الكتابة والأهداف التي يصبو إليها أصحابه.
فالمتلقّي عموماً (عرب شبه الجزيرة العربية) من أصحاب البلاغة، واللغة وتصاريفها، وأساليب القول، والتفنُّن في الكلام، غير أنه لم يكن يتكلَّف الكلام تكلُّفاً، بل كان يقول ما يدور في خاطره، تقوده فطرته وإحساسه بالوجود، معتدّاً بما سمعه، من أخبار وأشعار، هذَّبت له فطرته وأطلقت العنان لطاقاته الكامنة. فالسجع كان يمرّ مرور الكرام في كلام العرب، وإن مرَّ فإنه أبعد ما يكون عن التكلُّف. بينما نجد أن الكهَّان اتَّخذوه أسلوباً راسخاً لهم، وخطاباً قادراً على حمل المعنى من جهة، والعمل على إيهام المتلقّي بعمق ما يحمله هذا الخطاب من جهة أخرى.

الإسلام وضياع سجع الكهَّان
النصوص التي وصلتنا من سجع الكهَّان قليلة نسبياً، قياساً إلى عدد الكهَّان الذين ذكرتهم كتب التاريخ والأدب، حيث يزيد عددهم على خمسين كاهناً نذكر منهم: ورقة بن نوفل، وقس بن ساعدة الأيادي، وشقّ بن أنمار بن نزار، وأكثم بن صيفي، وأميّة بن أبي الصلت، وسطيح بن مازن بن غسان، ومسلمة بن حبيب، وربيعة بن ربيعة، وعرَّاف اليمامة رباح بن عجلة، وعرَّاف نجد الأبلق الأسدي، وزيد بن عمرو بن نفيل، والمأمور الحارثي، والكاهن الخزاعي، وعلاف بن شهاب التميمي، وزهير بن أبي سلمى (الشاعر)، وزبراء كاهنة بني رئام، وكاهنة سهم، والكاهنة سجاح التميمية، وسويد بن عامر المصطلقي، ووكيع بن سلمة بن زهير الأيادي، وأبو قيس صرمة بن أبي أنيس، وعامر بن الضرب العدواني، المتلمِّس بن أمية الكناني، وخالد بن سنان العبسي...(4). وأسباب قلّة نصوص سجعهم كثيرة:
1- ضياع معظم هذه النصوص واندثارها بموت أصحابها، سيما أنها لم تُدوَّن، وإنما تناقلتها الناس شفهياً.
2- عدم إقبال الناس عليها، لأنها تخالف الكثير من المعتقدات الدينية السائدة آنذاك، لأن هذه النصوص، كما اعتقد الناس آنذاك، تحمل لعناتٍ لمن تحلّ عليه، كما أن نظرتهم إلى الكهَّان، على أنهم طبقة متميّزة، جعلتهم يتعاملون معهم باحترام وخوف بالغَين، واعتقاداً منهم بأنّ لأصحابها قدراتٍ سحريةً غامضة، فقد كان هؤلاء الكهَّان المرجع الأول في كلّ ما يعترض القبيلة من إشكاليات على أرض الواقع، وفي ما يتعلّق بالأمور الروحية، لذا كان زعماء القبائل وشيوخها يتحصّنون بكهَّانهم، ويُخيفون أعداءهم بهم.
3- محاربة الإسلام لسجع الكهان، وشنّ حملات الإبادة الفكرية، والجسدية على كهنة الجاهلية، واعتبارهم أعداء حقيقيين للدعوة الفتية آنذاك، إلا من انطوى تحت لواء الإسلام. فالحروب التي شُنَّت ضدّ محكِّم اليمامة ومسلمة بن حبيب وكهنة اليمن، والنهايات التي انتهى بها هؤلاء معروفة في كتب التاريخ والسيرة. وهذا شاهد على التصفية الجسدية ضدّ الرأي الآخر، الذي وَجَدَ له مريدين وأتباعاً كثراً في جزيرة العرب (كادت الدعوة الإسلامية، بعد موت الرسول، تنهار بسبب ارتداد الناس عن الإسلام، واتِّباعهم لمسلمة وقد تبعه ثلثا سكان شبه الجزيرة آنذاك، ولذا قامت حروب أبي بكر التي اشتهرت بـ«حروب الردَّة»).
أما التصفية الفكرية فهي أكثر من أن تُحصى، في القرآن أو في الحديث النبوي، فقد ورد في الحديث: إن الشياطين كانت تسترقُ السمعَ في الجاهلية وتُلقيه إلى الكهَنة، فتزيدُ فيه ما تزيدُ وتقبله الكفّار منهم. وقوله أيضاً في الحديث: من أتى عَرَّافاً أو كاهناً فقد كفر بما أُنزل على محمد...(5).
هذا على الرغم من أنّ كهنة العرب كانوا من الحكماء، وكلّ ما عُرف عنهم، ونقلته إلينا كتب التاريخ، أنّ أكثرهم اعتزل عبادة الأصنام، وابتعد عن المحرَّمات التي حرَّمها الإسلام في ما بعد: الخمر والميسر والأزلام... إلخ.
الحملة التي شنـّها الإسلام ضدّ الكهَّان، هي حملة لقتل الفكر المعارض الذي ساد في أجزاء لا يُستهان بها من جزيرة العرب، ولاقتلاع الجذر التي انبثق منه القرآن. وهذه الجريمة ضدّ بدايات الفكر الروحي عند العرب، ظهرت نتائجها مجدداً بعد موت الرسول على شكل حروب أهلية (الجمل وصفّين) بين حاشية الرسول، وتطوّرت هذه الحروب الأهلية السياسية لتأخذ بُعداً فكرياً دينياً راسخاً في بنية الإسلام (شيعة وسنّة) بدءاً بالعصر الأموي وصولاً إلى العصر الحديث.
لم يشأ الإسلام أن يعترف بالآخر النقيض، في الداخل والخارج. فغيَّب ومحا ودمَّر وأحرق كلّ معارضة ممكنة، وربط ذلك كلّه ببُعد إلهي خارق؛ مثله في ذلك مثل كلّ الإمبراطوريات القديمة. لكنه لم يتوقَّف عند ذلك، بل اعتمد كتَّابه وفقهاؤه على أدهى حيلة عرفها التاريخ، وهي ما عُرف بعصر التدوين، الذي أغلق باب الثقافة الشفهية، ليس بثقافة كتابية بديلة، وإنما بثقافة شفهية مكتوبة، محدَّدة بدقّة ضمن قواعد النحو والفقه والشعر، مؤسطرة في حدود الإلهي الذي لا يُخترق (القرآن) وصورته الإنسانية المقدَّسة (الحديث). ولذا كانت كلّ دعوة خارج إطار المسموح به إسلامياً، تُعتبر إلحاداً وكفراً.

القمع التاريخي - اغتيال اللغة
إن القمع التاريخي الذي لعبه الإسلام، مُمثَّلاً بالقرآن بوصفه خطاباً إلهياً، وقدَّم نفسه على أنه الأنموذج الأعلى للغة، شكَّل منعطفاً تاريخياً خطيراً، على مستوى الخطاب اللغوي العربي قبل الإسلام، ممثَّلاً بالشعر والنثر، ولا سيما أنه أعلن تحدّيه اللغوي في غير مكان من القرآن.
لقد اتخذ الرسول مهمة أساسية له؛ قلبَ النظام الرمزي السائد آنذاك واستبداله بنظام آخر. لقد أحدث تعارضاً جذرياً بين النظامَين من خلال إنجاز تسمية مزدوجة؛ سُمِّيتْ رسالته «الإسلام» وسُمِّي ما يقابلها «الجاهلية». أي القرآن مقابل الشعر الجاهلي، الذي شهد أكبر انهيار له بعد مجيء الإسلام. من المفيد أن نلاحظ تشديدَ الإسلام على طبيعته الكتابية (من كتاب)؛ فقد وردت كلمة «كتاب» في القرآن 254 مرّة، فيما لم ترد كلمة «الشعر» سوى مرّة واحدة. ومن الآن فصاعداً سيصبح القرآن - الكتاب هو الذي يحتوي العلم وليس الشعر.
إذاً لم يعد الأمر يتعلّق بتاتاً بالشعر = الفطنة والعلم. كما تمَّ تحويل العنف والقتل السائدَين، بشكل منهجي، نحو الخارج عبر الفتوحات.
وبالوقوف قليلاً على عقدة أوديب الشهيرة، كأحد الأمكنة الأساسية لتشييد القانون، نجد أنها تتضمَّن ميكانيزمَين أساسيَّين لتشييد القانون، هما المنع والتماهي. ويمكن تبسيط سيرورة أوديب كالآتي: في البداية تكون الأمّ هي موضوع رغبة الطفل، لكن هذه الرغبة تصطدم بواقع كون الأم مُلكاً للأب، تصطدم باستحالة تحقُّقها، أي بالقانون أو الممنوع، فيعيش الطفل تناقضاً وجدانياً إزاء الأب - ممثل القانون (يرغب في قتله لكنه يشعر بالذنب بسبب هذه الرغبة) لا يخرج منه إلا بقبول الخصاء، والتماهي مع شخصية الأب، أي باستبدال هُويَّته القديمة (الطبيعية) بهُويَّة جديدة ثقافية(6).
وبالرجوع إلى الدلالة اللغوية لكلمة «شعر» نجدها تعني الفطنة والعلم، لكنها تعني أيضاً القافية، هذا المصطلح المشتقّ من الجذر «قفا» كان يُطلق على الكلمة أو البيت أو القصيدة، على الضرب على القفا، وعلى تتبُّع الأثر. وإذا كانت الدلالة الثانية (ضرب القفا) تُعيدنا من جديد إلى الصلة بين الشعر والعنف، فإن الدلالة الأخيرة (تتبُّع الأثر) تشير إلى قربى بين الشعر والكهانة والعرافة: الكهانة والعرافة هما الآخران يدلّان على المعرفة، والقيافة ضرب من التنبُّؤ بالغيب يتمكَّن صاحبه من التعرُّف إلى الشيء انطلاقاً من مشاهدة أثره(7).
لقد كان الشعر يُنشَد، أي يُلقى بصوت مرتفع، وكان يعتمد على الإيقاع ونظام البيت والتشابه بين أواخر كلمات الأبيات. وإذا صحَّت أطروحة انحدار الشعر العربي من سجع الكهَّان(8)، فإن اعتماده الوزن والبحر والقافية يُثبت من جديد علاقته بالسحر. وهنا نلامس معتقداً كونياً في الأصل الخفي للموسيقى: فكلمة «charme»  الفرنسية، مثلاً، التي تعني «سحر»، تنحدر من الأصل اللاتيني «carmen»  الذي يعني «سجع»، وكلمة «incantation» (تعزيمة أو دعوة سحرية) مشتقّة من الجذر «cantare» الذي يعني أنشد أو غنَّى(9).
مما سبق، يمكن القول إن الشعر، وبالتالي سجع الكهَّان السابق للإسلام، كانا بمثابة طقس سحري شفهي يستمدَّان سلطتَيهما وسحرَيهما من أداتهما كلغة، وإيقاعَيهما وقافيتَيهما كموسيقى، وطريقة وسياق إلقائَيهما كإنشاد. لقد حرَّم الإسلام الغناء، واتخذ إزاء السحر موقفاً يتسم بالتعارض الوجداني، فأي موقف سيتخذه من الشعر ومن سجع الكهَّان؟
إن قراءة تعامل الإسلام مع الخطاب الأدبي قبله، كأحد أهم عناصر النظام الرمزي اللغوي، هذا النظام الذي يمكن تسميته بالأب السائد في ضوء هذه الدراسة، تُمكِّن من تبيُّن ثلاث فترات في هذا التعامل: فترة تعارُض وجداني، فترة خرق، ثم فترة تشريع قانون. من المستبعد العثور في التاريخ الإسلامي على إمكان فصل تاريخي بين هذه الفترات الثلاث. وبذلك فإن الفصل بينها لا يعدو مجرَّد استجابة لضرورة منهجية.
وباختصار، لقد تعامل الإسلام مع الخطاب الأدبي السابق له، في هذا المستوى، بين الرغبة في تنحية هذا الخطاب الجاهلي - قتل الأب، وبين الانصياع لسلطة هذا الخطاب، أي الاصطدام بالممنوع. هذا التعارض الوجداني وجد مخرجه في الخرق. وذلك سيتمُّ عبر مستويَين: مستوى المجتمع ومستوى الكتابة، وضمنها الشعر وسجع الكهَّان. في المجال الأول سيستبدل الإسلام القيم السائدة بقيم جديدة، أي محل الأب القديم سيُنصَّب الرسول كأب مثال على الناس. بموازاة ذلك، سيُحفظ النص القرآني ويُدوَّن، سيُبوَّأ مكانة النص الذي لا يُضاهيه شعر ولا نثر، وسيُعلن عن هويته كـ«جنس» خِطابي لا يتكرَّر ولا يُقلَّد: «قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله...» (10).
وإذا كانت كل محاولة لتقليد القرآن، واستبداله بنص «ديني» آخر، ستُقمَع بشدَّة عبر إتلاف هذه النصوص وقتل أصحابها (مثال مسلمة بن حبيب في المشرق، فإن الكتابة عامة، ستُطالب بالتماهي مع النص الديني بمكونَيه القرآن والحديث، وذلك إما بإعادة إنتاج قيمه وتمطيطها، وإما بالإسهام في فهم محتوى هذا النص وجماليته. يقول الحديث النبوي: «إن من الشعر لحكمة، فإذا التبس عليكم شيء من القرآن فالتمسوه في الشعر فإنه عربي» (11).
في إطار إعادة إنتاج قيم العقيدة سيُطالب الشعرُ بحصر دائرته في المديح النبوي والحكم والوعظ والإرشاد والزهد... إلخ. أما الإسهام في دراسة العقيدة، فسيضع الشعر في الأرشيف أو رفوف المكتبة قصد تسهيل الرجوع إليه أثناء تقعيد النحو والبلاغة ربّما حتى النقد. وبالتالي، استبعاد سجع الكهَّان من دائرة الاستشهاد من جهة، والعروبة من جهة أخرى.
التطبيق الصارم لهذا القانون سيجد مكانه الأنسب في الفقه والسياسة. لقد اتفقت المذاهب الفقهية الأربعة على تحريم إنشاد الشعر في المسجد إذا خالف الشرع، هذه المخالفة تتحدَّد عند الحنفيّة في الهجو والسخف أو وصف القدود والشعور والخصور، بشكل يترتَّب عليه ثوران شهوة المتلقّي، وعند الحنابلة والمالكية والشافعية في ما ليس بمدح للرسول أو ليس ثناء على الله، أو ليس بحَثٍّ على الخير، أو ليس بمواعظ وحكم(12). وكثيراً ما أقام الساسة الحدَّ على الشاعر بسبب خرقه بعض أحكام الإسلام، وإن على مستوى التخيُّل ليس إلا. والأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا المجال. لقد أُدخل سجع الكهَّان، كما نرى، في دائرة الظلّ، وأُخرج من كلّ ذكر يستحقّه، بوصفه أحد مراجع الحياة الجاهلية، وبقي الشعر مرجعاً من الدرجة الثانية، أي لتثبيت حكم قرآني، أو قاعدة نحوية، أو حكم بلاغي.
ومن الملاحظ أنّ الفقهاء ومؤرِّخي الأدب والنقّاد وكتّاب السير، لم يأتوا على ذكر سجع الكهان، إلا على هامش الحديث عن نثر الجاهلية، أو اتخاذه شاهداً على ضعف النصوص الدينية قبل الإسلام، وافتعالها وادّعاء أصحابها، أو من باب المقارنة بين النص القرآني وسجع الكهان، وتبيان سموّ الأول وانحطاط الثاني، أو تغييب هذا السجع نهائياً، وإسقاطه من دائرة الأدب الجاهلي، والتشكيك بنسبته إلى أصحابه... ولكن ما وصل منها، يمكن أن يقدّم لنا فكرة واضحة، عن هذا النثر الذي استبدّ في العصر الجاهلي، وكاد يسيطر على النظير المغيّب للشعر.
والوقوف على ما وصلنا من نصوص سجع الكهّان، يتوزّع، كما يبدو، على نموذجَين متمايزَين من النصوص:
نصّ ركيك؛ ضعيف على مستوى البنية أو اللغة أو المعنى أو الشكل أو في جميعها، لا اعتبار له إلا من ناحية تاريخية، أو بالأصح، موضعه في السياق التاريخي الذي نشأ فيه، فيُمكِّننا من الحكم عليه من جهة، وبالحكم على نقيضه من جهة أخرى.
ونصّ عالٍ يقدِّم أنموذجاً متميّزاً على مستويات مختلفة:
تاريخياً: حيث يقف النص شاهداً على عصر، حِيكتْ حوله عشرات الأساطير والأوهام.
دينياً: حيث تُمثِّل نصوص سجع الكهَّان نصوصاً دينية من المرتبة الأولى، كان الناس يتعاملون معها بكلّ قدسيّة.
أدبياً: حيث تكشف هذه النصوص عن بلاغة أسلوبية ولغوية عاليتَين، سوف نجدهما في ما بعد في القرآن والحديث.
نصّياً: حيث يُمثِّل سجع الكهَّان نصاً ممانعاً، ومنافساً أولياً، للنص القرآني في ما بعد، والذي جاء بديلاً كاملاً، ليس لسجع الكهَّان فحسب، بل للأدب الجاهلي كلّه، مع استثناءات بسيطة، نجدها هنا وهناك، تخضع للمعايير الأخلاقية الجديدة في الإسلام.
اجتماعياً: حيث تكشف أحياناً، عن حالة صراع اجتماعي، يأخذ شكلاً دينياً، أو اقتصادياً، وإقليمياً أحياناً.
ونجد في النوع الأول شكلاً عمل الإسلام على ترسيخه، وإظهاره على أنه الشكل الوحيد الذي عرفته الجاهلية من هذا السجع. ومن ذلك قول مسلمة: «يا ضفدع ابنة ضفدع نقّي ما تنقّين. أعلاكِ في الماء وأسفلكِ في الطين لا الشاربَ تمنعين ولا الماءَ تكدرين».
وقوله: «والليلِ الأطحم. والذئب الأدلم. والجذع الأزلم. ما انتهكت أسيد من محرم. والليل الدامس والذئب الهامس. ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس» (13).
إن مثل هذه الأسجاع لا تحمل بُعداً روحياً، أو دينياً، أخلاقياً، وقد أظهرتها كتب التاريخ الإسلامي، على أنها النماذج الوحيدة لمسلمة الذي لقَّبوه بالكذّاب، بينما نجد له نصوصاً تغافلتها كتب الفقهاء المسلمين ومن ذلك قوله: «إنا أعطيناك الجواهر. فصلِّ لربِّك وهاجر. إن مبغضك رجل فاجر».
وقوله: «إنا أعطيناك الكواثر. فصلِّ لربِّك وبادر. في الليالي الغوادر. واحذر أن تحرص أو تكاثر».
ولنقارن هذين النصَّين مع قول القرآن في «سورة الكوثر»: «إنَّا أعطيناك الكوثر. فَصَلِّ لربِّك وانحَرْ. إنَّ شَانِئَك هو الأبتر» (14).
من الثابت تاريخياً أن نصَّي مسلمة أسبق من نص السورة القرآنية المذكورة. ومن الواضح التطابق، ولا نقول التشابه، بينها وبين النصَّين المذكورَين: أسلوباً وتركيباً ومعنى، بل إنّ نص مسلمة الثاني يزيد في المعنى على النصّ القرآني.
ولننظر في قول مسلمة في ما سُمِّي بـ«سورة الشمس»:
«والشمس وضحاها. في ضوئها وجلاها. والليل إذا عداها. يطلبها ليغشاها. فأدركها حتى أتاها. وأطفأ نورها ومحاها» لنقارن هذا القول بـ«سورة الضحى» القرآنية: «والشمس وضحاها. والقمر إذا تلاها. والنهار إذا جلاها. والليلِ إذا يغشاها» (15). إن سورة مسلمة تكاد تكون الأصلَ لـ«سورة الضحى» بكل معطياتها. ومن جهة أخرى فإن سورة القرآن تتضمَّن خطأ فلكياً، هو أن القمر لا يتلو الشمس، فهو لا يأتي بعدها، كما يظهر للعيان. لقد وقع صاحب «سورة الضحى» في خدعة بصرية، فربط الشمس بالنهار، والقمر بالليل، مع العلم أن القمر قد يظهر في النهار.
لقد شكَّل مسلمة بن حبيب تهديداً واضحاً للإسلام، لذلك كانت الحملة ضدّه أقوى من أيِّ حملة شنَّها الإسلام على معارضيه في بداية الدعوة الإسلامية. وقد ادَّعى كثرٌ من فقهاء الإسلام أن مسلمة كان يقوم بتقليد القرآن. فإذا قبلنا جدلاً بهذا الكلام، فما الذي يمكن قوله مع عشرات النصوص الأخرى التي تُنسب إلى كهنة آخرين لا تختلف عن النصوص القرآنية على الإطلاق، تنبني على الأسلوب القرآني نفسه في الترغيب والترهيب والتذكير بكل ما ذكَّر به القرآن. ولذا اتُّهم الرسول عند إعلان دعوته بأنه كاهن أو ساحر أو شاعر، لقدرة هؤلاء على الإتيان بمثل نصوصه القرآنية. لقد عمد كتَّاب السيرة إلى استبعاد المحاورات الحقيقية التي دارت بين الرسول ومعارضيه الذين تطرَّقوا إلى ذكر الكثير من نصوص سجع الكهَّان التي عرفوها جيّداً في الجاهلية، وأبقى هؤلاء الكتَّاب على المحاورات المفتعلة بين قريش والرسول، في عجز العرب عن الإتيان بمثل ما جاء به.
لقد ادَّعى الكهَّان سابقاً، بأنهم يُوحى إليهم، وهذا ما فعله القرآن بالطريقة نفسها، لكن مع اختلاف بسيط؛ أن القرآن توسَّع كثيراً في فكرة الوحي، وتنوَّعت نصوصه وتعدَّدت مواضيعه، حتى كادت تشمل كل شيء في الحياة الجاهلية، أو الحياة الجديدة التي عرفها العصر الجاهلي، أو أن جزءاً كبيراً من القرآن - السور المكية خصوصاً - قد كتبه بعض كهَّان الجاهلية، ورقة بن نوفل مثلاً الذي كان أحد أشهر كهَّان الجاهلية، وعالماً تاريخياً ودينياً، وكان مجلسه الدائم في غار حراء الذي تردَّد إليه الرسول في فترة صباه، وتلقَّن على يدَيه هذه العلوم، وكان هذا المجلس بمثابة جامعة حقيقية في علوم الدين. وقد مات ورقة بن نوفل في ظروف غامضة واختفت أوراقه التي كان يكتبها على امتداد سنوات طويلة عاشها في هذا الغار.
إن المقارنة بين النصوص المكّية وبين سجع الكهَّان، سيقودنا مباشرة إلى وحدة الأسلوب والخطاب الأخلاقي والديني الذي طرحه كلّ منهما، بينما يكون الاختلاف الحقيقي في النصوص المدنيّة التي يضعف أسلوبها قياساً بالمكية، لما تحتويه من سرد ضعيف أحياناً، والأمثلة كثيرة في القرآن. وهذا أيضاً سيقودنا إلى الفكرة السابقة، وهي أن الخطاب القرآني في نصوصه المكّية، قد كُتب أو حُفظ في فترة سابقة للإسلام، لأنها لا تبتعد عن الجوّ المعرفي والروحي الذي قيلت فيه نصوص سجع الكهان:
فالخطاب الأخلاقي نفسه: التوحيد والترهيب والترغيب، العقاب والثواب، الحياة الدنيا والآخرة، والمحرَّمات والمحلَّلات. الإسلام غيَّب الكثير من النصوص التي اتَّخذ القرآن في ما بعد، أسلوبها  وصيغتها، وحلّ محلَّها، وإلى الأبد. بينما نجد أن كُتب الفقه والسيرة قد احتفلت بنصوص قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي من كهَّان الجاهلية، لسبب بسيط، أن نصوصهما اتخذت بُعداً أخلاقياً، أكثر منه روحياً.
والأسلوب اللغوي واحد في كلا الخطابَين (القرآن وسجع الكهَّان): السجع أولاً، والقسم بالنجوم والأمكنة والأزمنة وغيرها، والسؤال المنفي «ألمَ تر كيف فعل ربّك...»، الجُمل القصيرة المتتالية، التناظر المعنوي، القطع، الحوار المجتزأ، النهي... إلخ.
والكهَّان رأوا في أنفسهم شفعاء عند الله، وهم الوسيط الوحيد بين الخالق والمخلوق، أو بين الأرض والسماء. وقد اتَّخذت هذه الفكرة بُعداً آخر عند العرب، أي أنّ الأصنام حلَّت أحياناً محلّ الكهَّان في فكرة الشفاعة، وإذا وضعنا في الاعتبار أن تلك الأصنام كانت رموزاً للآلهة المعبودة في مختلف أنحاء الأرض (الشمس والقمر والزُّهرة: فكرة الآلهة الثلاثية... الآب والابن والروح القدس في المسيحية)، بينما جعل الرسول نفسه الشفيع الوحيد عند الله، وبالتالي ألغى كلّ الشفعاء والوسطاء الآخرين، ولعنهم، وحاربهم، وقضى عليهم أخيراً.
لقد عرف سجع الكهَّان كاهنات مشهورات لدى العرب، وكان لهنَّ دور فاعل في الأحداث يكاد يكون تبشيرياً ونبوياً، ونذكر منهنّ على سبيل المثال لا الحصر: الكاهنة زبراء، والكاهنة سجاح، وزرقاء اليمامة...  بينما ألغى الإسلام كلّ دور تبشيريّ للمرأة، بدءاً بمتابعة الطابع الذكوري النبوي على مرّ التاريخ، ومروراً بـ: إقصاء المرأة نهائياً عن الحكم والسياسة («ما أفلح قوم ولوا أمرهم لامرأة»)، رفض الإسلام فكرة استغلال المرأة واقعياً لكنه ربطها باستغلال كونيّ مقدّس، ترسيخ كلّ أفكار الخطيئة المتعلّقة بالمرأة تاريخياً: أسطورة آدم وحواء - الخطيئة، الحور العين، ترسيخ فكرة المحظيات والجواري بخطاب إلهيّ («وما ملكت أيمانكم...»، سورة النساء)، بعدما كانت عادة اجتماعية يمكن حلّها مع الزمن. وفي هذا إقصاء جسدي وروحي وإنساني.  الإسلام بهذا العمل ساعد على حلّ المشكلة آنياً، بما يتناسب مع عصر النبوّة، ولكن بسبب ارتباطها بالوحي جعل حلّها مستحيلاً مع الزمن.
ونذكر أخيراً في باب المقارنة مثلاً شديد الإيحاء والدلالة، وهو دعاء الحج عند الجاهليين (وهو من سجع الكهّان)، والمسلمين لاحقاً:
«لا همّ... لا همّ...» لبّيك اللهمّ لبّيك
لبَّيك يا ولي النعم لبَّيك
لا شريك لك لبَّيك
إن كان خيراً فهو منك ولك
إنّ الحمد والنعمة لك والملك
تملكنا ولا نملك
لا شريك لك لبَّيك
«فلا قضض ولا رمد
تقبل وربَّة الأثر».

إن الطقوس الدينية التي كانت تُمارس في الكعبة قبل الإسلام، تُصاحَب بالرقص والغناء. والغناء هنا كان يقوم على تلك الأسجاع التي احتواها الإسلام في ما بعد وضمّها إلى مخزونه الروحي، دون أن يعترف صراحة ببُعدها الوثني الأول، أو أنه قام بعملية إلغاء للأصل، وتثبيت «الأصل الجديد»! واعتبار الأصل الأول، على حدّ تعبير القرآن «مكاء وتصدية» بقوله: «وما كانت صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية» (16) أي: إلا غناء وصياحاً. ولنقارن بين الصلاتَين. إن الوقوف على كلا الدعائَين يُثبت الأصل وغناه اللغويّ والمعنويّ من جهة، ومن جهة أخرى يثبت بُعداً، عمل الإسلام بكلّ قوَّة على إلغائه، وهو البُعد الأنثوي - الشريك في هذا الدعاء. فربّة الأثر هي اللات (آلهة الشمس عند العرب). الإلغاء هنا جاء على مستوى اللغة، وبالتالي على مستوى الواقع، لما للغة من بُعد واقعي، لقد ألغى القرآن البُعد المجازي في الدعاء الأول، متغافلاً ثنائية العقل العربي آنذاك، وقد وشمه بالرؤية الذكورية الأحادية، فجاء الخطاب الإسلامي متخماً بالإنشاء دون المجاز.

دور البحث في إظهار الثقافة المغيّبة
أعلن الإسلام بداية تاريخ جديد، وهذا ما يستدعي محو كلّ تاريخ قديم، سيما المخالف منه، وكانت التوطئة الأولى في الداخل، موجّهة نحو المنافس الحقيقي فكرياً، سجع الكهَّان بكلّ رموزه، بينما بقي الشعر في منزلة بين المنزلتَين، ما خالف الشرع منه كُفِّر ولُعن، فأصبح امرؤ القيس حامل لواء الشعراء إلى جهنم، وأصبح الشعراء يتبعهم الغاوون وفي كلّ واد يهيمون... إلا من عمل صالحاً، أي من انطوى تحت لواء الإسلام. وفي حديث طريف عن ابن عباس أن الشيطان لما طُرد من الجنّة وأُنزل إلى الأرض سأل الله أن يجعل له قرآناً فأعطاه الشعر: «لما نزل إبليس إلى الأرض قال: يا رب أنزلتني وجعلتني رجيماً فاجعل لي بيتاً، قال: الحمّام، قال: فاجعل لي مجلساً، قال: الأسواق ومجامع الطرق، قال: فاجعل لي طعاماً، قال: ما لم يُذكر اسم الله عليه، قال: فاجعل لي شراباً، قال: كل مُسكر، قال: فاجعل لي مؤذناً، قال: المزامير، قال: فاجعل لي قرآناً، قال: الشعر وسجع الكهَّان، قال: فاجعل لي حديثاً، قال: الكذب، قال: فاجعل لي مصايد، قال: النساء» (17).
إن ما يهمّنا في هذا الحديث الطريف، ليس ما ذكره من محرَّمات، بل ما ذكره عن الشعر وسجع الكهَّان اللذين أصبحا قرآنَ الشيطان، واعتبار الأنثى من مصايد الشيطان، ومحوها إلى الأبد في الحضور الإنساني الفاعل. لقد أعادت الثقافة العربية تجديد نفسها في العصور اللاحقة لعصر الرسول، ولا سيما باحتفالها البالغ بالشعر والنثر المسجوع، الذي سيطر على النثر العربي عصوراً طويلة، وقدّم للمكتبة العربية كتباً لا يُستهان بها على الإطلاق، نذكر منها كتاباً مهماً في هذا المجال، وهو «الفصول والغايات» لأبي العلاء المعرّي، حيث اختلف المؤرّخون في تسميته، فمنهم من قال «الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ»، وهذا العنوان بعيد عن روح أبي العلاء الناقم على كلّ بُعد ديني مزيَّف، ومنهم من قال «الفصول والغايات في معارضة السور والآيات»، وهو الأقرب إلى روح أبي العلاء وروح الكتاب من جهة أخرى، فقد نحا المعرّي فيه منحى الكهَّان في الجاهلية تماماً... ونذكر مثالاً واحداً للتوضيح وهو:
«كم حيٍّ بلغ الدرك، وحَّد ربَّه أو أشرك، وجمع لنفسه فما أترك، وارتحل إلى الرمس فأرك. من بالشحّ أمرك، وعلى الدنيا أمرك، أخالقك الذي صوَّرك! كلا وعظمته لقد أنذرك، هتكت ستر التوبة فسترك، وجاهرت بالمعصية فأخَّرك، واستنصرت به فنصرك...» (18).
إن المتكوّن التاريخي، المتأسِّس في العمق الإسلامي، عمل على رفض الثنائية التي انوجد عليها الكون، وقامت عليها الحياة، فأبقى ما يتناسب مع بُعده الذكوري الأحادي، وأبعد ما تنافر أو خالف هذا البعد المؤسطر، الذي خُتم بوشم إلهي، وإلى الأبد.

الهوامش:
(1) ابن منظور، لسان العرب، مادة سجع، مادة كهن، مادة عرف، مادة حكم، مادة نبأ.
(2) الطبري، تاريخ الملوك والرسل، ج 2، ص 270 وما بعدها. هذه الأسجاع مأخوذة عن هذا الكتاب.
(3) الطبري، المرجع السابق.
(4) ابن كثير، البداية والنهاية ج 2، ص 220 وما بعدها.
ابن هشام، السيرة النبوية، ج 1، ص 200 وما بعدها.
السيد القمني، الحزب الهاشمي، فصل جذور الأيديولوجيا الحنفية.
الطبري، تاريخ الملوك والرسل، ج 2، ص 270 وما بعدها.
(5) ابن منظور، لسان العرب، مادة كهن.
(6) Sigmund Freud, Essais de psychanalyse, Payot, Paris, 1981, p 167 - 179, p 244 - 246.
(7) القزويني، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، تحقيق فاروق سعد، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1973، ص344 – 345.
(8)  Edmond Doutte, Magie et religion dans l’Afrique du nord, Alger, 1908, Maisonneuve Geuthner, Paris, 1984 - P 105.
(9) المرجع نفسه، ص 105 وما بعدها.
(10) القرآن، سورة الإسراء، الآية 17.
(11) ابن منظور، لسان العرب، مادة شعر.
(12) عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ، ص 289 - 290.
(13) الطبري، كتاب تاريخ الرسل والملوك، ج 2، ص 276. النصوص السجعية المنسوبة إلى مسلمة بن حبيب مأخوذة كلّها من هذا الكتاب.
(14) القرآن، سورة الكوثر.
(15) القرآن، سورة الضحى.
(16) ابن منظور، لسان العرب، مادة مكو.
(17) أبو حامد الغزالي، مكاشفة القلوب المقرب إلى حضرة علام الغيوب، تحقيق محمد رشيد القباني، دار إحياء العلوم، بيروت، 1987، ص 26 – 63. انظر أيضاً: القزويني، المرجع السابق، ص 388. انظر أيضاً: أحمد الثعلبي، قصص الأنبياء المُسمَّى «العرائس»، دار الرشاد الحديثة، بيروت، بدون تاريخ، ص 25.
(18) أبو العلاء المعرّي، الفصول والغابات، فصل غاياته ألف، ص 8.

«الغاوون»، العدد 35، 1 كانون الثاني