الأحد، 22 يوليو 2012

مجنون الطيز


رعى الله زمانا كان الطيز فيه مقاما محمودا مقدسا لا يأتيه إلا المطهرون، و لا ينزل بساحته إلا المتقون الورعون العارفون بالله حق معرفته ، النازلون عند أوامره المدبرون عن نواهيه. و إنه لمن شدة تعظيمهم للإمام مالك، مبيح نكح الأدبار و خادم رسول الله،فقد كان أهل المغرب يعظمون الطيز أيما تعظيم، و بالخصوص الطيز السليمَ الخالي من الحفر ، جيّد البرملة والاحدوداب ، اللواحة للبشر. هذا النوع من الطيز الذي تحلم به كل مؤمنة بالله، كانت له عندهم مكانة لا تسموها مكانة، و في قلوبهم منزلة لا تفوقها منزلة، لدرجة أنهم جعلوا له من الأسماء الحسنى تسعا و تسعين اسما و مائتهم الزك . و قد أخرج منها شيخ النار أبو قثم ما ينيف عن العشرين، أولها الكعر و الخصر و الطرّ،و الصرة و المخوصرة ، زينة الصوت، الكلتة الهامدة ، اليعفوره و النيارة، للا مولاتي ، الفرتالة ، الترمة و الزعكة ، المبرملة ، الدواحة، كدية الرحمان ،كدية الزليق، الظريفة دي قفا.،الردف والفلحة ، الرويضة، المهزوزة، الفياحة. و منه كذلك أم الخدود و ذات الجنب. فليرحم الله ذلك الزمان الذي كان يعطى فيه كل ذي حق حقه و ينزل كل ذي منزلة منزله.أما اليوم فكم من حرمة انتهكت و كم من مقدسة أهينت و منهم الطيز بطبيعة الحال،الذي نال منه الدهر و أبلاه، و أخنى عليه و أفناه، حتى أضحى يرتدي البلودجين الخشن و الزي العسكري و يقتعد مقاعد الربابنة و الملاحين عوض الأسرة و المضاجع .فأصبح طيزا كسائر الأطياز.لا يهم أن كان مكتنزا لحما أم ضامرا مهزولا ، محدودبا جيد البرملة أم مقعرا عديم الجنبات، منتفخ الكلكل أم مسطح الربوات.لا يهم...طيز و كفى...لا يجوز فيه المذكر و لا المؤنث...فبئسا له من زمن تساوت فيه حتى الأطياز... أما اليوم و مع بصيص النهضة الإسلامية المباركة أصبحنا نرى أن الطيز بدأت تعود إليه بعض من عافيته و قداسته حتى غدا التهافت عليه يشتد و الاعتناء بمظهره يمتد، فأصبحت له طقوس تحابيه و صلوات تربيه و أدوات تبرزه و دعوات تزكيه. و غدا يتلفع الحرير الهندي الأملس الذي لا يبخل بعرض أساريره الجليلة و الكشف عن تضاريسه الرهيبة، و لا بالإفصاح عن أسراره الخلابة الزاهية. و بالرغم من كل ذلك فلا زال يطلع علينا بين الفينة و الأخرى من ينغص على الطيز المسكين هدوءه و يكدر عليه صفوه.فقد أثار مؤخرا استهداف أحدهم لأرداف النساء بواسطة آلة حادة، موجة من الهلع في صفوف نساء و فتيات مدينة تزنيت إحدى حواضر جنوب المغرب، بعدما تكررت اعتداءاته على الفتيات بمختلف أحياء المدينة.حيث بلغ عدد ضحاياه لحد الساعة ست فتيات نقلن جميعهن إلى المستشفى لتلقي العلاجات الضرورية و غادرنه إلا واحدة تعتبر حالتها خطيرة.و استنادا إلى مصادر متعددة فإن الجاني الذي يعتقد أنه في الثلاثينات من عمره، يمتطي دراجة هوائية و يفاجئ ضحاياه من الخلف مستهدفا مؤخراتهن بآلته الحادة إلى درجة أن بعضهن لا يعلمن بالاعتداء عليهن حتى يبتعد عنهن بعدة أمتار، و حسب نفس المصادر فإن الجاني يختار أماكن و تواقيت تنفيذ عملياته الغادرة بعناية. فيختار ضحاياه في زوايا شبه مظلمة.و لا يميز بين الأطياز المتبرجة و لا الأطياز المحتجبة بقدر ما يحرص على أن يكون الطيز بضا في عمر الزهور لا يتجاوز العشرينات من العمر و في زاوية نائية نوعا ما عن البشر. و تؤكد المعطيات المسربة من الجهات المختصة في البحث عن الجاني أنه ليس له أي انتماء لأي من التيارات المتطرفة.كما أنه لا يعرف له أي انتماء سياسي مشيرة إلى أن الهدف من قيامه بهذه العمليات المثيرة يتلخص في احتمالين اثنين لا ثالث لهما، فإما أنه سادي يتلذذ بتعذيب الفتيات بهذه الطريقة، أو أنه يعاني من عقدة نفسية تجاه أرداف النساء.
فاللهم رب هذا الشهر الفضيل الطف بأطيازنا ، و احفظهم اللهم بحفظك الكريم من كل مختان معتد أثيم
شيخ النار أبو قثم

السبت، 14 يوليو 2012

الإسرائيليات و القرآن





هذا مبحث قديم جديد، تناوله عديد الباحثين الأجانب منذ القرن التاسع عشر(1) وحتّى يومنا هذا، وهو اقتباس القرآن من التراث اليهوديّ(2) وهذه "الشبهة" في الحقيقة موجودة منذ وُجد القرآن نفسه الذي وثّقها أكثر من مرّة: (حتّى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلاّ أساطير الأوّلين) (الأنعام، 25) (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأوّلين) (الأنفال، 31) الخ.. فالآيات عديدة، وهؤلاء المجادلون ربّما يقصدون بقولهم "أساطير الأوّلين" معنى "خرافات الأوّلين" وربّما يقصدون كتابات وحكايات وقصص الأوّلين، (قصص ليست غريبة على أسماعهم إنّما هي مألوفة، وهي متداولة فيما بينهم، والقرآن بالنسبة لهم لا يختلف عمّا تقدّم..)(3) فمعنى كلمة "أساطير"(4) يحمل مدلولين حسب الآيات التي ترد فيها، إمّا مدلول الخرافة، أي خرافات الأوّلين، وإمّا مدلول الكتابة، أي كتابات الأوّلين ويكون الجذر سطر يسطر أي كتب يكتب، وهو ما نراه في قوله : (والقلم وما يسطرون) (القلم، 1) أو قوله: (وكتاب مسطور) (الطور، 2) بيد أنّ لفظة أساطير صارت لا تعني لاحقا إلاّ الخرافة والأسطورة بمعناها المتداول اليوم، فيقول الرازي مثلا: (قد والله تعجّبنا من قولكم إنّ القرآن معجز، وهو مملوء من التناقض، وهو أساطير الأوّلين)(5) بمعنى خرافات الأوّلين.

قد يقول قائل: لا إشكال في أن نجد في القرآن ما قالته الكتب المقدّسة السابقة، فالمصدر واحد والرسالة الإلهيّة واحدة، والقرآن مصدّق لما بين يديه من التوراة والإنجيل فمن الطبيعيّ أن يروي قصصهما نفسها بل ويصحّح بعضها أيضا، فما وافق القرآن منها فهو حقّ وما لم يوافق فهو محرّف. وهذا كلام جانب الصواب وإليكم التفصيل.

الإسرائيليّات التوراتيّة: (6

نقل القرآن عديد القصص التوراتيّة كخلق السماوات والأرض في ستّة أيّام وخلق آدم وبعض التشريعات وغير ذلك، بيد أنّ هذه القصص سرقتها التوراة من الحضارات المجاورة ويقول سهيل قاشا: (وقد توصّل العديد من العلماء إلى أنّ ما تضمّنته أسفار العهد القديم من قصص وأساطير وشرائع إنّما يرجع أصله إلى المدوّنات السومريّة والبابليّة والأشوريّة، وإنّ اليهود اقتبسوا منهم ما ينفعهم، وحذفوا بلا هوادة كلّ ما لم يلق استحسانهم)(7) فتدوين التوراة كان بين أواخر القرن الثامن والخامس قبل الميلاد(8) فلا نتعجّب أن نجد فيها قصصا أشوريّة مثل قصّة النبيّ موسى الذي ألقته أمّه في اليمّ وحمله الماء إلى من رعاه ثمّ صار قائدا وهي في الأصل قصّة الملك سرجون الأكادي الذي حكم بين سنوات 2279 و2334 قبل الميلاد(9) ولا نتعجّب حين نقرأ قصصا أو شرائع بابليّة إثر عودتهم من السبي البابلي مثل اقتباسهم من شريعة حمورابي المكتوبة حوالي سنة 1750 قبل الميلاد والموجودة اليوم في متحف اللوفربباريس، إذ نقرأ مثلا في المادة 196: (إذا فقأ سيّد عين ابن أحد الأشراف، فعليهم أن يفقؤوا عينه) وفي المادة 200: (إذا قلع سيّد سنّ سيّد من طبقته، فعليهم أن يقلعوا سنّه) (10) وهو ما نجده في سفر التثنية 19، 21: (نفس بنفس، عين بعين، سنّ بسنّ) وحرفيّا بالعبريّة: נפש בנפש עין בעין שן בשן = نفش بنفش عين بعين شن بشن، وهذا بدوره انتقل إلى القرآن : (وكتبنا عليهم فيها [أي في التوراة] أنّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسنّ) (المائدة، 45) ثمّ يقول القرآن في الآية نفسها: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) فهل يا ترى هذا ممّا أنزل الله أم ممّا شرّع حمورابي؟ ولا نتعجّب حين لا نجد دليلا أركيولوجيّا واحدا عن وجود موسى ولا عن عجائبه وآياته ويقول "ليو تاكسيل": (ولكنّ مؤرّخا مصريّا واحدا لم يقل أيّ كلمة عن هذه الكارثة المفجعة [أي غرق فرعون وجنده] التي لا مثيل لها في تاريخ الأعمال الوحشيّة السابقة، كما لم يتحدّث أيّ منهم عن الكوارث العشر الشهيرة التي حلّت بالمملكة المصريّة. ويحاول بعض اللاهوتيّين أن يتذرّع بأنّ الشعور الوطني المصري هو الذي منع المؤرّخين المصريّين [وقتها] عن تأريخ الأحداث المذكورة، ونحن نقول: فليكن الأمر هكذا فعلا! ولكن ماذا عن المؤرّخين الذين ينتسبون إلى جنسيّات أخرى؟ ما الذي منع هؤلاء من تدوين تلك الأحداث المأساويّة لو أنّهم سمعوا بها؟ وكيف أمكنهم ألاّ يسمعوا بها؟ (…) حتّى هيرودوت الذي درس تاريخ مصر دراسة جيّدة وساق كثيرا من أخبار شعبها، لم يقل كلمة واحدة عن الأحداث إيّاها) (11) والأبحاث الأركيولوجيّة الحديثة(12) زادت الطين بلّة ولم تستطع إثبات هذه الأحداث التوراتيّة-الإنجيليّة-القرآنيّة، كما أنّ قصّة استعباد فرعون لبني إسرائيل تنتمي إلى الخيال القصصي لا الوقائع التاريخيّة فالعبوديّة لم تكن موجودة في مصر(13) ناهيك عن قصّة سليمان والتي أطلق فيها كتبة التوراة العنان لخيالهم لتمجيد أصلهم وفصلهم ومن بعدهم القرآن فصار لسليمان جنود من الجنّ والإنس بينما لا يوجد ولو ذكر واحد يتيم(14) لهذه الشخصيّة عند مؤرّخي الحضارات المجاورة وهذا من العجب العجاب.

والراجح عندنا أنّ هذه الشخصيّات مزاعم يهوديّة متأخّرة انبثقتْ إثر السبي البابلي (وربّما قبله) لصناعة أبطال قوميّين وخاصّة موسى الذي تحدّى المملكة المصريّة بفضل "يهوه" واستطاع إخراج بني إسرائيل ليقودهم نحو الأرض المقدّسة، وبالمناسبة فأرض كنعان هذه كانت تحت الحماية المصريّة أصلا، فلا يكفي أنّ موسى تغلّب على فرعون الذي تبعه مع جنده في البحر بكلّ غباء بل زاد أن استولى اليهود من بعده على الأراضي الكنعانيّة في فلسطين التي تحت سلطة الفراعنة، وجعلوا أنفسهم شعب الله المختار والمفضّل وهذا انتقل بدوره إلى القرآن الذي يقول: (يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين) (البقرة، 122) فالله يفضّل شعبا على شعب وهو خالقهم جميعا، أمّا لماذا، فتلك حكمته. ولا يخفى على كلّ ذي رشد وعقل أنّ هذا يصبّ في مصلحة كتبة التوراة، وكتبة العهد القديم بصفة عامة، لإذكاء الروح القوميّة فيهم ومقاومة المحتلّ تحت رعاية الخالق الذي اختارهم، فنقل عنهم القرآن أساطيرهم وخرافاتهم ومزاعمهم والأمثلة كثيرة لا يتّسع المقام لها هنا مثل خلق الأرض والسماء في ستّة أيّام والتي يعلّق عليها معروف الرصافي قائلا: (أمّا الحقيقة فهي أنّ خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام خرافة مذكورة في التوراة، وبما أنّ التوراة عند محمّد كتاب مقدّس من كتب الله، أخذ ذلك منها وذكره في القرآن) (15)

الإسرائيليّات التلموديّة والمدراشيّة:

وإذ إنّ العهدين القديم والجديد مليئان بالأساطير فإنّ القرآن لم يصدّق فقط ما بين يديه منهما بل صدّق أيضا التلمود والمدراش وهما منجمان كبيران للأساطير والخرافات. ولفظة التلمود مشتقّة من جذر למד = لمد وتعني تعلّم وعرف ودرس، فتلمود تعني دراسة وهي قريبة من لفظة "تلميذ"، ويتكوّن التلمود من محورين رئيسين: المشناه والجمارا، أمّا المشناه فهي الشريعة النقليّة الشفويّة، ويزعم اليهود(16) أنّها منقولة عن موسى، وهي تتكوّن من ستّة مباحث ولفظة مشناه مشتقّة من جذر שנה = شنه، وتعني "ثنّى" بالعربيّة وراجع وأعاد وهذه اللفظة تذكّرنا بلفظة "المثاني" في القرآن فإن كانت ستّة في التلمود فهي سبعة في القرآن، (آتيناك سبعا من المثاني) وأمّا الجمارا فهي نقاشات حول المشناه، ويوجد التلمود البابلي والتلمود الأورشليمي(17) وقد انتهتْ كتابة التلمود في القرن السادس بعد الميلاد(18) أمّا المدراش فهو ما يوازي كتب التفسير في الإسلام، أي كتبه رجال دين يهود لتوضيح أو تأويل التوراة، ولفظة "مدراش" تعني الدراسة أيضا والبحث والتأويل وجذرها "درش" وتقابلها لفظة "درس" بالعربيّة، والمدراش تتوزّع كتابته بين القرن الثاني والقرن الثالث عشر بعد الميلاد، بيد أنّنا نستطيع معرفة تاريخ كتابة بعض النصوص قبل الإسلام أو بعده. وأغلب القصص القرآني عن الأنبياء مأخوذ من التلمود والمدراش، حيث راجعتها كلّها، إلاّ قصّتي عاد وثمود بوصفهما قصصا عربيّة غير مذكورتين في التراث اليهوديّ.

ربّما سيقول قائل إنّها قصص صحيحة ذكرها القرآن ولا شيء ينفي أن يذكرها من كان قبله، فهي ليست سرّا من الأسرار، وعليّ حينها أن أضرب مثالا لأقرّب الأمر إلى القارئ، ولنفتح تفسير الزمخشري ونختار مثلا تفسيره لسورة النمل، الآية 18 التي تتحدّث عن مرور النبيّ سليمان قرب وادي النمل والتي جاء فيها: (حتّى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) فيقول الزمخشري مفسّرا: (قيل كانت تمشي [أي النملة] وهي عرجاء تتكاوس، فنادت: يا أيّها النمل، الآية، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. وقيل كان اسمها طاخية) (19) ولنفتح أيضا تفسير ابن كثير لهذه الآية، فنقرأ التالي: (عن قتادة، عن الحسن، أنّ اسم هذه النملة حرس، وأنّها من قبيلة يقال لهم بنو الشيصان، وأنّها كانت عرجاء، وكانت بقدر الذئب) (20) وكما ترون فالنملة لها اسم وقبيلة وهي في حجم الذئب، وتتكلّم ثمّ يتبسّم سليمان من كلامها الفصيح، ثمّ لنفترض أنّ القرآن لم يقل إنّ محمّدا هو آخر الأنبياء، ولنفترض أنّ شخصا في عصرنا الحالي ادّعى النبوّة وقال أنّه مصدّق للتوراة والإنجيل والقرآن، ويبدأ في صياغة كلام مسجوع ويقول مثلا: (وإذ قالت طاخية لقومها من بني شيصان يا أيّها النمل ادخلوا…الخ) ألن نكذّبه ونقول له: هذا كلام أساطير ذكره بشر يخطئون ويصيبون؟ ألن نعطيه أيضا المصادر التي نقل عنها هذا الكلام، لنبيّن أنّه ليس بوحي، بل نقل عن بشر آخرين؟ ونذكّره بأنّ القرآن لم يذكر طاخية ولا شيصان.

وهذا تحديدا ما نجده في القصص القرآني المنقول من التلمود والمدراش الذي كتبه بشر أطلقوا العنان لخيالهم، فألّفوا الأساطير، ومنها بالطبع النملة التي تتكلّم، فلا لوم على الزمخشري وابن كثير في التفسير فالأسطورة تلد الأسطورة، والقرآن نفسه يشير إلى اقتباسه من الكتب السابقة، باعتبارها وحيا، فيقول: (وإنّه لتنزيل ربّ العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربيّ مبين، وإنّه لفي زبر الأوّلين) (الشعراء، 192، 196) فالقرآن ترجمة بلسان عربيّ لما هو موجود في زبر الأوّلين، وإحقاقا للحقّ فقد أبدع في الترجمة، في أغلب المواضع، وحاز قصب السبق في استعمال عنفوان وبلاغة اللغة العربيّة في المجال اللاهوتي. وقد كانوا يعلمون أنّ كلّ القرآن منقول من كتب الأوّلين إلاّ من بعض آياته حيث جاء في صحيح مسلم أنّ ملكا من السماء نزل إلى النبيّ وقال له: (أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌّ قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة) (21) فكلّ كلام القرآن قد أوتي لنبيّ من قبل، أو بالأحرى لمن يعتقد أنّهم أنبياء، إلاّ سورة الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، حسب ابن عبّاس راوي الحديث.

الإسرائيليّات العربيّة:

قد اقتبس القرآن عديد القصص والأحكام من التراث اليهوديّ بيد أنّه كان يتدخّل أحيانا في صياغة القصّة أو التشريع ليجعله موافقا للأرضيّة العربيّة كوصفه للجنّة مثلا، فأغلب العرب يعيشون في أرض صحراويّة قاحلة، فلا بدّ أن تكون الجنّة فيها أنهار من عسل وخمر ومليئة بالنساء الأبكار والولدان المخلّدين ويعلّق ابن الراوندي على هذا الأمر قائلا: (لمّا وصف الجنّة [أي محمّد] قال فيها أنهار من لبن لم يتغيّر طعمه وهو الحليب ولا يكاد يشتهيه إلاّ الجياع، وذكر العسل ولا يُطلب صرفا، والزنجبيل وليس من لذيذ الأشربة، والسندس يفرش ولا يلبس، وكذلك الاستبرق الغليظ، ومن تخايل أنّه في الجنّة يلبس هذا الغليظ ويشرب الحليب والزنجبيل صار كعروس الأكراد والنبط !) (22) وقد حافظ القرآن على تشريعات موجودة كقطع يد السارق مثلا وهي عادة جاهليّة حيث جاء في المنمّق أنّ قريشا في الجاهليّة كانت تقطع يد السارق (23) ناهيك عن عادة "الحجّ" وهي شرائع وثنيّة جاهليّة فيدفع الحاج اليوم الأموال الطائلة كي يطوف حول حجر ويقبّل حجرا ويرمي حجرا بحجارة ثمّ يعود وقد غفر الله له ذنوبه فمن المستفيد من هذه السياحة الدينيّة ؟ ولنا أن نتمثّل كلام وحيد السعفي: (الدين يشيّد صرحه العظيم على أنقاض الصرح القديم، فشابه الدين الدين وآمن الإنسان بتواصل الحياة في ظلّ الإصلاح والقضاء على التحريف، وظهر للعيان ما كان خافيا من دين حنيف حرّفه الزمان، ذاك شأن الدين، ذاك حيلة من حيل الدين) (24) قلنا إذن، إنّ القرآن كان يتدخّل في صياغة القصص أحيانا مثل قصّة السامري والعجل أو قصّة "الخضر" وموسى وغيرهما، فبعض القرآن تأليف "مدراشيّ" باللغة العربيّة فيه تأويل للقصص السابقة وعرضها بطريقة أخرى وهذا يدلّ على تمكّن النبيّ من التراث اليهوديّ ومن اللغة العبريّة كما نرى مثلا في قوله: (من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا وأسمع غير مسمع وراعنا ليّا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنّهم قالوا سمعنا وأطعنا وأسمع وأنظرنا لكان خيرا لهم وأقوم…) (النساء، 46) فقول اليهود "سمعنا وعصينا" يعني "سمعنا وأطعنا" فلفظة "عصينا" العبريّة تعني بالعربيّة "أطعنا" وهي الجملة التي قالها اليهود لموسى حيث نقرأ في سفر التثنية 5، 27: ושמענו ועשינו = وشمعنو وعصينو وتعني بالعربيّة: سمعنا وأطعنا، فاليهود في هذا الآية في القرآن يتهكّمون حيث يذهب في خلد من كان حاضرا أنّهم يعصون النبيّ، فإن اعترض أحد الصحابة أو النبيّ قالوا: بل نقصد عصينا العبريّة أي الطاعة وإن لم يعترض أحد ظلّ السامع يعتقد بعصيان اليهود جهرا، وقولهم كذلك "راعنا" وهي مشتقّة من لفظة רע = رع والتي تعني "الشرّ" فقولهم "راعنا" أي أنت "شرّنا" بالعبريّة بينما بالعربيّة تعني "ساعدنا" و "اصبر علينا" لذلك يقول القرآن معلّقا "ليّا بألسنتهم وطعنا في الدين" فالنبيّ كان يفهم العبريّة والمقاصد من غمز اليهود، وكيف لا وهو المطّلع على قصص التراث اليهوديّ والتي صاغها بلسان عربيّ بليغ ورائع فلم يجانب الصواب حين يتحدّى الناس بأن يأتوا بمثل هذا القرآن بالعربيّة، ومن حقّه أن يفخر ويتحدّى.

الإعجاز العلمي في الإسرائيليّات:

أُلّفتْ كتب عديدة تتحدّث عن الإسرائيليّات في الحديث والتفسير والسيرة (25) بوصفها أساطير لا يقبلها العقل، ولكنّها تتجاهل إسرائيليّات القرآن فهل أنّ نوحا الذي عاش 950 سنة ممّا يقبله العقل؟ أم الهدهد الذي كان يقوم بدور وزير الخارجيّة بين سليمان وبلقيس؟ أو ربّما التقام الحوت ليونس ثمّ خروجه حيّا هو ممّا يقبله العقل؟ وغير ذلك كثير من الخرافات كأهل الكهف وكالذي مات مائة عام ثمّ عاد إلى الحياة .. الخ، فكلّ هذا يدخل في باب الإيمان لا في باب العقل وكلّ شخص حرّ في إيمانه بما يريد بيد أنّه ليس حرّا في عقلنة الأسطورة وأسطرة العقل، فيخرج علينا دعاة الإعجاز العلميّ بفذلكات سرياليّة أحيانا يجرّون فيها اللغة العربيّة من شعرها ذليلة مهينة ويلوون عنقها وعنق المعنى، فمثلا نقرأ أنّ قول القرآن" والشمس تجري لمستقرّ لها" هو إعجاز علميّ ويتناسون (وربّما لا يعلمون) أنّ الأصل موجود في التلمود (26) فهل يا ترى يوجد إعجاز علميّ في التلمود؟ أو قولهم إنّ آية إنزال الحديد من السماء هي إعجاز علميّ فهل قول القرآن" وأنزلنا من الأنعام ثمانية أزواج" يعني أنّ الأكباش والأبقار نزلت من السماء أيضا؟ كما أنّ آية إنزال الحديد هي نقل لأسطورة شعبيّة حيث أنّ الحضارات القديمة وقبل العصر الحديديّ في بداية الألفيّة الأولى قبل الميلاد، كانوا يستعملون الحديد الذي في النيازك الساقطة على الأرض فاعتبروه معدنا قادما من السماء (27) وظلّت هذه الأسطورة في التراث الشعبي ودخلت إلى القرآن، كما أنّ الحديد، علميّا، لم ينزل من السماء، هذا إن كان يصحّ أصلا ذكر كلمة "نزول" و"سماء" أثناء الحديث عن تكوّن الأرض، فانظرْ يا رعاك الله كيف تصبح الأساطير أدلّة علميّة ويُحشد لمروّجيها المؤسّسات والأموال والرجال لنشر الجهل بين الناس وهم -أي الشعوب- أحوج إلى إنشاء مؤسّسات تعنى بالبحث العلميّ الحقيقيّ وتدعّمه لعلّها تضع أقدامها على سلّم الحضارة والتقدّم. وقد نتفهّم سعي هؤلاء إلى الشهرة والمال من ناحية وإلى محاولة التوفيق بين الفيزيقيا والميتافيزيقيا من ناحية أخرى، (ليست هذه المحاولة بقاصرة على القرآن، وإنّما لها جذورها التاريخيّة في علاقة الفكر المسيحيّ بالحقائق العلميّة الجديدة منذ بدأ العلم يتناول قضايا احتكرها اللاهوت حقبا طويلة) (28) فكان لابدّ أن نجد أدلّة علميّة في النصوص المقدّسة نقوّي بها الإيمان حتّى وإن وصل بنا الأمر إلى "التدليس التقيّ" على حدّ تعبير فولتير.

الخاتمة:

لمْ نَشأْ في هذا المبحث المقتضب أن نتوسّع كثيرا في ذكر القصص الإسرائيليّة ومقارنتها بالقصص القرآني حيث قد طُرح هذا الأمر من قبل وغيره كاقتباس القرآن من التراث الفارسي والمسيحي، بيد أنّنا نودّ الإشارة إلى أنّ القرآن ينتمي إلى السياق الشرق-أوسطي اللاهوتي وهو متجذّر فيه من ناحية وفي مجتمعه العربيّ من ناحية أخرى ولا يمكننا فصل القرآن عن الإسرائيليّات لأنّه امتداد عربيّ لها، وإن كان القرآن بوصفه كتاب دين ظلّ وفيّا لكتابات الأوّلين فإنّنا وفي عصرنا الحديث نعتبرها مجرّد أساطير وخرافات نقلها القرآن عن حسن نيّة ودافع عنها وحارب من أجلها.

الهوامش:

1-Abraham Geiger, Was hat Mohammed aus dem Judentume aufgenommen? Bonn, 1833 (الطبعة الإنجليزيّة: Judaism and Islam, tr. Young, 1896); W. St. Clair- Tisdall, The Original Sources of the Qur'an, [المصادر الأصليّة للقرآن] Society for Promoting Christian Knowledge, London, 1905; etc..وآخرها:

Hai Bar-Zeev, une lecture juive du coran [قراءة يهوديّة للقرآن ], Berg International Editeurs, 2005

2- جمع لويس جنزبيرغ Louis Ginzberg كلّ الروايات من المدراش والتلمود والتراث اليهوديّ ونشرها بين السنوات 1909-1938 في كتابه الموسوعيّ: Legends of the Jews (أساطير اليهود) وهو مترجم إلى الفرنسيّة ( Les légendes des Juifs) في ستّة أجزاء بترجمة Gabrielle Sed-Rajana في دار نشر cerf بباريس، نُشرتْ بين سنوات 1997-2006.

3- إبراهيم محمود، الفتنة المقدّسة، عقليّة التخاصم في الدولة العربيّة الإسلاميّة، دار رياض الريس، بيروت، 1999، ص160

4- لفظة أسطورة تقابلها باليونانيّة Istoria= Ιστορία وباللاتينيّة storia ومنها انبثقتْ history الإنجليزيّة وhistoire الفرنسيّة.

5- عبد الرحمن بدوي، من تاريخ الإلحاد في الإسلام، سينا للنشر، ط2، مصر، 1993، ص250

6- التوراة هي كتب موسى الخمسة فقط ولكنّنا نستعملها هنا اصطلاحا على كامل نصوص العهد القديم.

7- الأب سهيل قاشا، أثر الكتابات البابليّة في المدوّنات التوراتيّة، بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، بيروت، 1998، ص8

8-Israel Finkelstein et Neil Asher Silberman, La Bible dévoilée, Gallimard, Paris, 2004, p368-374

والكتاب الأصلي بالإنجليزيّة بعنوان: The Bible unearthed

9- هو نصّ مكتوب في القرن السابع قبل الميلاد ومنسوب إلى سرجون الأكادي الذي عاش قبل ذلك التاريخ بستّة عشر قرنا لكن اللافت للانتباه أنّه يوازي بداية تدوين التوراة من ناحية وأنّ اليهود كانوا فعلا في السبي البابلي من ناحية أخرى وسمعوا بالقصّة فأسقطوها على شخص موسى، لقراءة النصّ انظرْ:

Georges Roux, La Mésopotamie : essaie d’histoire politique, économique et culturelle, l’univers historique, éd. Seuil, Paris, 1985, p138-139

10- سهيل قاشا، أثر الكتابات البابليّة، مرجع سابق، ص28

11- ليو تاكسيل، التوراة كتاب مقدّس أم جمع من الأساطير، ترجمة حسان ميخائيل إسحاق، ط1، 1994، ص176 والكتاب الأصلي بالفرنسيّة: La Bible Amusante, éd Librairie pour tous, 1897

12- Israel Finkelstein et Neil Asher Silberman, La Bible dévoilée, op.cit, p84-118

13-Droit et Cultures, Revue d’anthropologie et d’histoire, Centre droit et cultures , Université paris X, Bernadette Menu, La question de l’esclavage dans l’Egypte pharaonique, éd. L’Harmattan, n39-2000/1, p59-79

وذهب نديم السيّار إلى أنّ موسى وُجد أثناء احتلال الهكسوس لمصر وأنّه بُعث إلى هؤلاء الرعاة لا إلى الفراعنة المصريّين انظرْ كتابه: قدماء المصريّين أوّل الموحّدين، طبعة الأهرام، سنة 1995 بالقاهرة.

14-Israel Finkelstein et Neil Asher Silberman, Les rois sacrés de la Bible : A la recherche de David et Salomon, Gallimard, 2007

15- معروف الرصافي، الشخصيّة المحمّديّة أو حلّ اللغز المقدّس، دار الجمل، ألمانيا، 2002، ص 654

16- يرفض مذهب "القرّائين" الشريعة الشفويّة أي التلمود ويؤمنون فقط بكتب العهد القديم، وهم مثل مذهب "القرآنيّين" في الإسلام.

17- لمزيد المعلومات عن التلمود وأقسامه راجع: أحمد إيبش، التلمود كتاب اليهود المقدّس، تاريخه وتعاليمه ومقتطفات من نصوصه، دار قتيبة، دمشق، 2006

18- المرجع السابق، ص27

19- الزمخشري، الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل….، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمّد معوّض، مكتبة العبيكان، الرياض، 1988، ج4، ص440

20- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، تحقيق نخبة من الأساتذة، مؤسّسة قرطبة للطبع والنشر والتوزيع، مصر، 2000، ج10، ص397

21- الحميدي، الجمع بين الصحيحين، تحقيق: علي حسين البواب، دار ابن حزم، لبنان، 2002، ج2، ص97

22- ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، دار صادر، بيروت، 1939، ج6، ص103 نقله ابن الجوزي من كتاب "الدامغ" لابن الراوندي وهو كتاب لم يصلنا.

23- البغدادي، كتاب المنمّق، تحقيق: خورشيد أحمد فاروق، دائرة المعارف، 1964، ص530

24- وحيد السعفي، القربان في الجاهليّة والإسلام، منشورات تبر الزمان، تونس، 2007، ص194

25- انظرْ مثلا محمّد حسين الذهبي، الإسرائيليّات في التفسير والحديث، مكتبة وهبة، ط4، 1990 / وانظرْ: رمزي نعناعة، الإسرائيليّات واثرها في كتب التفسير، دار القلم ودار الضياء، 1970 الخ..

26- التلمود البابلي، سنهدرين 91 ب، ويذكر فيها أنّ الشمس تذهب لتسجد لخالقها وهو نراه في البخاري ومسلم نقلا عن أبي ذرّ متحدّثا عن هذه الآية: "كنت مع رسول الله في المسجد عند غروب الشمس فقال يا أبا ذر أتدري أين تذهب الشمس فقلت الله ورسوله أعلم فقال تذهب تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله عز وجل ( والشمس تجري لمستقرٍّ لها ذلك تقدير العزيز العليم ) سورة يس في رواية ثم قرأ ( ذلك مستقرٌّ لها ) في قراءة عبد الله وفي رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تدرون متى ذاكم ذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً وفي رواية وكيع مختصرة" الحميدي، الجمع بين الصحيحين، مصدر سابق، ج1، ص152

27- The Journal of the Royal Anthropological Institute of Great Britain and Ireland, Vol. 71, No. 1/2 , 1941, T. A. Rickard, The Use of Meteoric Iron, p55-66

28- عاطف أحمد، نقد الفهم العصري للقرآن، دار العالم الجديد، ط3، القاهرة، 1985، ص46 وانظرْ أيضا في نقد الإعجاز العلمي: خالد منتصر
Publié par غبار كوني à l'adresse 14:27 
Envoyer par e-mail
BlogThis!
Partager sur Twitter
Partager sur Facebook
  

محمد النجار

الجمعة، 6 يوليو 2012

الملحد جاري




ما كنت لأظنّ أنّ هناك شيئا معلوما في الدّين لا يتّفق في شأنه بلهاء الإيمان مع مشايخهم و علمائهم و مراجعهم.
و ما كنت لأظنّ أنّ من يصدّق بأن النّمل ينطق و أن الحمير تبصر الشياطين و الديك تبصر الملائكة، سوف يرفض من إمامه و مرجعه ، فكرة موت نبيّه مسموما أو مقتولا!!!
لماذا يا ترى يرفض المؤمنون هذه الفكرة، و لا يقبلونها!!!؟ و لماذا تشكّل عندهم ضيقا نفسيا و أزمة عصبية ، يحاولون التخلّص من مناقشتها و تداولها حتى مع أئمّتهم و مشايخهم المبجّلين؟
و الحقّ ، الحقّ، أن قوّله : و الله يعصمك من النّاس ، إذا ما شفعته بفكرة تسميم رسوله الأعظم من طرف يهودية، كما يقول قِسم من أهل السنة و الجماعة ،أو بواسطة اللد على يد عائشة و حفصة ، كما يصرّح قسم من الشيعة ، فإنّ الخليط المحصّل عليه يكون ممزوجا، مرفوضا، لا دسم فيه، و لا طعم له . إلا أن الأعجب هو أنّ هذا التّناقض ، على مرارته ، يشكّل بالنسبة لمشايخ الأمّة و علمائها مادّة دسمة، يقبلون عليها بكل فهاهة ،إقبال المتلهف على الماء.
ـ و الله يعصمك من النّاس ـ لا تستقيم و سحرَ النبي ، فكيف بها تستقيم عند أهل السنة مع فكرة تسميمه من طرف يهودية؟ و كيف بها تستقيم عند أئمة الشيعة مع التآمر على شخصه من طرف زوجتيه و تسميمهما له ؟
هذا ما استخلصته من الجلبة التي أحدثتُها في حشد من المشيّعين ، الذين جاءوا
ليشفوا صدورهم بموت جاري الغنيّ الملحد السّكّير، الذي لم تطأ قدماه يوما مسجدا و لا عرف الصوم له مسلكا
أعرف جاري السّبعينيّ العمر ، لأكثر من أربعين سنة خلين...عرفته شابّا وسيما، عريض المنكبين صبوح الوجه  عالي الهامة ، تتفنّن مراهقات المدينة في تتبع حركاته، و يتنافسن على مرافقته. ثم عرفته أبا، فرجلَ أعمال ناجحا قلّ أن لا تمرّ صفقة من الصّفقات اللاتي غيرت معالم مدينتي من بين يديه...و عرفته ذاك المتقاعد الذي يلزم يوميا رأس الدّرب متكئا في مقعده الوثير من سيارته الرباعية الدّفع ..تلك السيارة التي كانت لإلى الأمس القريب، رهن إشارة النفساء و المريض و المعلول ، و الطفل الذي فاته وقت المدرسة ، و الأب المحزون ، و كلّ من ضاقت به الأرض بما رحُبت...
لم يمرض جاري... لم يعتره الزهايمر، ولا أصابته حمىً و لا ذات جنب ... من أسبوع  مضى سقاني الصّهباء في سيارته على أنغام (الروكن رول) التي كانت تزيد المكان رونقا و بهاء... تجاذبنا الحديث كعادتنا لساعات طوال. تحدّثنا في كلّ الأشياء،و عن كل الأشياء... لم نترك أنبياء و لا أولياء و لا حديث و لا قرآن... تحدّثنا عن ماركس.. عن أفلاطون ...عن فرويد و نيوتن و عن هيجل.. تحدّثنا عن أبي قثم . على فكرة ـ جاري هذا كان يحبّ كثيرا قراءة تعاليق صديقي الراوندي. و كان كلّما وجدته يسألني أن أفسّر له بعضا من كلامه
فيقهقه كلّ مرّة لكونه لم يستطع استيعاب تواجد ملحدين من طينة الراوندي بأرض الله ،فيقول لي : حقّا ، إن الأعراب لأشدّ كفرا، ياهذاـ ... و كان أكرهَ ما يكرهه جاري، مقابرَ المسلمين. فكلّما سمع بموت صديق أو حبيب إلا و يأسَفَ له قائلا :مسكينٌ فلان ، سيرمونه في المزبلة. ثم تعلوه حسرة شديدة و يضيف : لقد نسوا ضرائبه و جباياته و صدقاته ، إنّه الآن كومة عظام لا تصلح لديهم لشيء...  كان دائما يقول لي : يا أبا قثم!  إن المسلم حشرة و هو حي، ونجاسة و هو ميت. فإذا مات تخلصوا منه بسرعة و توضؤوا اغتسالا منه...لا كرامة للمسلم ، يا أبا قثم حيّا،  و لا حرمة له ميّتا. أنظر إلى مقابرنا و قارنها بمقابر الكفار الذين غضب الله عنهم و أحبط أعمالهم.. أ ليست مقابرهم أشبه بالجنان التي يعِد بها الرحمان بلهاء الإيمان؟!!. كان جاري لا يمرّ بسيّارته قرب مقابر المسلمين ، ليس حذر الموت ، و لكن اتقاء النّكد و القرف الذي تبعثه في نفوس النّاظرين.
في ذاك اليوم المشؤوم الذي سيغادرنا فيه جاري، خرجت كدأبي كلّ يوم لأستقلّ سيّارة أجرة تقلّني إلى عملي ... لاحظت حركة غريبة ، لم أفهمها ... وتواجدا غير عادي لم أستوعبه ... إذ بي ألمح من بعيد ابن جاري البكر يلوّحّ بيده إليّ مناديا . فخففت نحوه. حيّيته؛ فحيّاني بحرارة، و قال هامسا جهة أذني، و كأنه يهمّ تقبيل كتفي : إن الوالد يريد أن يراك... دلفت المنزل الفخم خلفه .. فلاحظته أصْمَتَ ممّا عهدته، بينما كان التواجد فيه كثيفا!!. في كلّ حجرة مررت بها كنت أسمع همسا ... و البهوعلى طوله ، و أنا أجتازه ؛ لا حظت أني قابلت فيه أشخاصا كثرا لم يسبق لي أن عرفتهم. و بعد أن صعدنا الدّرج و توسّطنا الدار و واجهتنا حجرة نوم أبيه، بادرني الابن  قائلا: الله يهدي الوالد، يرفض أن نشغّل القرآن . فهلاّ أ قنعته ، يا أستاذ !! ثم دفع الباب ، لأجد نفسي داخل الحجرة، و أنا لم أستوعب بعد شيئأ...فإذا بي أمام جاري المتهالك فوق فراشه الذي لزمه ليومين بعد وعكة قلبية شديدة ، ألمّت به ،لم يعلم بها أحد من الجيران .. لقد أعلَمَه الأطباءُ بفقدان الأمل، فعاد من توّه ليلة الأمس... وجدته يضحك مع أحفاده الذين جلسوا على سريره الأبيض الوثير بينما تقتعد إحدى بناته أريكة جانبه .. لمّا رآني شاخصا أمامه قهقه قهقهة اهتز لها كيان الحجرة الخامل قائلا بصوته الجهوري : يا هلا يا هلا بأبي قثم
تسمّرت في مكاني ، كانت ضحكاته أثقالا تهوي على متني، فتثنيني لأنكسر أمام هول المشهد.. لم أنبس ببنت شفة ... نسيت نفسي... ضاعت مني الحواسّ إلا البصر الشارد منّي. فإذا بصدى ضحكه يعيدني إلى الرّشد ، لأجده يقول لي بمرحه المعهود : ها أنت ذا ترى ، يا جاري ، سوف يرمونني في المزبلة بعد قليل  ... ثمّ قهقه قهقهة خفيفة و صمت قليلا .. ثم مدّ يده جهتي و هو يقول : لقد وصل دوري ...فوداعا يا جاري ، المسامحة يا جاري ،.. أوصيك .. أوصيك بأبنائك خيرا.. و بقي مادّا يده التي لايتحرّك منها إلا الخنصر و البنصر إليّ كي يعانقني..ما صدّقت ما أسمع و ما عدت أحس بالأرض التي تقلـّني.. وحدها يده الممدودة نحوي هي  التي كانت تشدّني إلى الواقع... هويت عليه و الدّمع مني يتهاطل في صمت..ضمّني إليه ضمّة لن تفارقني حرارتها ما حييت ، ثمّ خضّني، و همس في أذني : إضحك يا راجل إضحك يا راجل..
خرجت خارّ القوى، مهزوم الفرائص، منهوك الأعصاب ، فاقدا مفهومي الزّمان و المكان .. سرت لخطوات أبحث عن الأنا الذي مني ضاع.. ألملم مفاصلي المبعثرة أتلمّس المكان الذي يحتويني



ملّيت النظر .. ملّيته أكثر ، لأجد الشارع قد امتلأ أكثر فأكثر... السيارات من كل الأنواع و الأحجام ، أمّا الناس فمنهم من أعرفه و منهم من لم أره قطّ . إنهم من كل الطوائف ومن كل الطبقات ..الفقراء ، الأغنياء ،التجار ، الصناع ... المسلمون و غير المسلمين ، أصحاب اللحي و الحليقون .. كلّ طوائف المجتمع أصبحت مجتمعة في الدرب
قصدت دكّان البقالة ، مطأطأ الرأس ، طلبا للسجائر.. سحبت علبتي و فتحتها... أوقدت أول لفافاتي التي كدت أكملها في نفسين ... خلفي، كان يتحلّق جماعة من المتديّنين حول ملتح وهابي خبيث. بينما كان فمُه يشتغل مع مريديه المنتبهين إليه، المتحلقين حوله؛كانت عيناه تصولان من فوق رؤوسهم في الشارع و تجولانه طولا و عرضا، متراقصتين، لا تغفلان عن صغيرة و لا تفلتان كبيرة . و لسرعة حركتهما و حركة شفتيه، تخاله مذيعا يغطي أطوار مقابلة في كرة القدم،  و المتحلقون حوله عميٌ ،لا يبصرون إلا من خلاله..و أنا أجرع نفسي من السيجارة، إذ يسترق سمعي جملة من حديثه أفقدتني ما بقي لدي من توازن. فلم أتمالك نفسي ... لقد سمعته يقول : اليوم لن ينفعه ماله و لا بنوه... فلم أدر متى قطعت حديثه و صحت في وجهه: و ما ذا نفعت النبوة رسولك؟؟ ألم يمت نبيّك حبيب الله و صفيّه؟؟ فلماذا تستكثر الموت في حقّ جاري !!؟ لا .. ألم يمت نبيك مسموما ؟!!! فماذا نفعته نبوّته ؟؟؟ ثمّ لماذا لم يرفع ربك نبيك كما رفع موسى و عيسى ؟
لم يجد الملتحي الخبيث غير ابتسامة استعراضية ماكرة هشّ بها في وجهي و قال مسترسلا  وكأنه يستعرض شريطا مسجّلا : هداك الله يا أخي.. استغفر لذنبك يا فلان .. ما هذا الذي تقول ،يا أستاذ .. أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم ..! كيف لمن اختاره الله و اصطفاه و فضله على العالمين أن يموت مقتولا بالسم؟؟ كيف ؟؟.. يا راجل ... و حتى إذا ما حدث فإنه يعتبر شهيدا ، يا هذا!!و ما منكم إلا قتيل و شهيد ...! لقد مات سيّد البشر شهيدا و ليس مسموما!! كاد الرّجل يُفَجّرني بغبائه ، و كدت أُسمعه ما لا قِبَلَ له به ؛ فإذا الصياح يعلو من دار جاري، وإذا بكاسيت القرآن يُشَغّل ..
 لقد فارقنا جاري لغير رجعة..نظرت إلى محدّثي ، فوجدته أبهج ممّا كان عليه ، و ابتسامتَه أعرضَ ممّا كانت عليه . فما أن التقى نظري ببصره حتى بشّ في وجهي قائلا و البهجة تعلوه: إنّا لله و إنّا إليه راجعون. بالصير و السلوان..تقبله الله...فكأني به كمّن كان يحمل على ظهره ثقلا فتخلّص منه بعد مكروه.!! فبادرته مصمّما العزم على أن أنتزع من وجهه تلك الابتسامة الماكرة،   و أسوّد يومه،و أغيظه غيظ الكفار
فقلت له
ما أجمل ميتة جاري . لقد مات سعيدا ضاحكا مستبشرا ، ودّع القريب و البعيد،  الغريم و الصّديق، مات وسط أبنائه و بين أحفاده ،يحكي لهم النكت و النوادر حتى فارق الحياة. أمّا محمد سيد المرسلين فقد مات ميتة جاهلية، معذبة. سواء بسم اليهودية أو بسمّ المؤامرة أو مات من الحمّى أو ذات الجنب . ففي أمر موته لا تتفقون كلكم إلا على شيء واحد وحيد هو  أنه مات ميتة قاسية شديدة لا يتمنى المرء مثلها و لو لعدوّه فما بالك بنبيه,؟
فأيهما تتمنى لنفسك يا فقيه ،ميتة جاري السكير الملحد أم ميتة نبيك المختار؟
تركته و الذين معه تعصرهم سَورة من الغضب يدمدمون و يحوقلون ، و رحت للمشاركة الفعلية في مراسيم تأبين جاري

أبو قثم

الاثنين، 2 يوليو 2012

نوادر القوادين و القوّدات





نوادر القوادين
 و القوّدات ج2

دائما في إطار ردّنا على المؤمنين الذين يرمون الإلحاد و العلمانية بالفساد و الفجور نغوص في أعماق سراديب المجتمع المؤمن المثالي لنتلمّس الشّذوذ الإسلامي البحث و نكشف عن المستور الذي يندى له الجبين

كان حمدان بن بُشر قوّادا على أبي نؤاس في زمن وِِجارته ، فحدّث عنهما أبو حاتم السّجستاني قائلا :
مرّ أبو نؤاس في بعض سكك البصرة و معه حمدان بن بُشر ، و كان يقود عليه ، فرمقهم الناس فاستحيوا ،فقال حمدان لأبي نؤاس : ( تقدّم حتّى أتبعك) ، فقال أبو نؤاس : تقدّمني أنت * ، ثمّ أنشد :
أقول لحمدان بن بُشْر مجاوبا        و قد رشقتنا باللحاظ النواظر
و قَنَّعّ منْه الرأسَ ثُمَّتَ قال لي       تــقدّم قليلا إنّني متــأخّــــــر
تقدّم قليلا يعرف النّاس شأننا        بأنّــك قــــــوّاد و إنّي مؤاجَر
غلّست يوْماً إلى المسجد الجامع لصلاة الغداة ’ فإذا أنا بأبي نؤاس يكلّم امراة عند باب المسجد ، و كنت أعرفه في مجالس الحديث و الأدب ن فقلت
مثلك يقف هذا الموقف لحقّ أو لباطل ) ، فمضى ثمّ كتب إلي في ذلك) 
إنّ التــي أبصَرْتَني سـ        حرا أكلّمها ، رسول
أدّت إلــيّ رسالــــة كــ        ادت لها نفسي تزول
من فاتـــر العينيــن يُتعِــ     ـبُ خِصْــرَه ردْفً ثقيل
متنكّب قوس الصّبا يـ         رمي و ليس له رسيل
فلـو أنّ إذْنَــكَ بيْننا           حتى تسمَّـــع ما نقول
لرأيت ما استقبحت من        أمري هناك ،هو الجميل

و حدّث محمّد بن مظفّر ’ كاتب إسماعيل بن صبيح ، قال قال لي إسماعيل
قال لي الرّشيد يوما :
 يا إسماعيل ،أَبْغِني (أطلب لي) جارية ، وصيفة فطِنَة ، مقدودة تسقِني ، فإنّ الشرب يطيب من يد مثلها 
قال ؛ فقلت : يا سيّدي على الجهد ، إلاّ أنّي أحبّ أن تصفها لي
فقال لي : إجعل قول هذا العيّار إماماً لك ؛ يعني أبا نؤاس
فقلت : و ما هو ؟ قال : قوله
من كــفِّ ساقيةٍ ناهيك ساقيـةً   في حسن قدٍّ و في ظُــرْفٍ و في أدبِ
كــانت لـربّ قيّـان ذي مغالبـة    بالكشـخ محتـرِفٍ بالكشـخ مكتســــب
فقد رأت و ردّت عنهنّ واختلفت       ما بينهــنّ و من يهويـــن بالكتـب
و جُمِّشَتْ بخَفِيّ اللحظ فانجمَشَت       و جرّتِ الوعْدَ بين الصّدق و الكذبِ
تَمَّـتْ فلم يــر إنسان لهــا شبها       فيمن برا الله من عجْمٍ و منْ عــرَبِ
قال
فلا و الله ما قدرت على جارية فيها بعض ذلك
أمّا الكشخ فهو القِوادة و جمّشت تعني غوزلت و دوعبت ، أمّا فعل برا يبري الباري فمرادفه خلق يخلق خالق

حدّث الصّلت ، قال :
كنّا عند سفيان بنَ عُيَيْتة ‘ فذكروا قول مالك بن دينار : و أمّا إبليس و الله لقد عصي فما ضرّه ، و لقد أطيع فما نفع فقال له رجل : إن أذنت يا أبا محمّد أنشدتك لهذا العراقيّ ، يعني أبا نؤاس ، في هذا المعنى شيئا,,قال : هات ، فأنشده
عجِبْت من إبليس في كبْرِهِ          و خبْثِ ما أظْهَرَ من نِيّتِهْ
تـــاه على آدم في سجــدة           و صـار قوّدا لذرِّيَتِــــــه
فاستضحك سفيان و قال :
و أبيك ، لقد ذهب مذهبا ، و ما تنفكّ عن مُلْحَةٍ تأْتينا من هذا الشّاعر

قال أبو منصور الثعالبي
و من أحسن ما سمعت في قوّاد قول السرّيّ الموصليّ في رجل اسمه إدريس
من ذمّ إبليس في قيا        دته فإنّني شاكر لإدريس
كلّم لي عاصيا فصار        له أطوع من آدم لإبليس
و كان في سرعة المجيء به    آصف في حمل عرش بلقيس
و آصف هو كاتب النبي سليمان و هو الذي دعا الله بالاسم الأعظم فرآى سليمان العرش مستقرا عنده

أمّا المأمون فيؤثر عنه

بعثتـك مرتــاداً ففُـــــزْتَ بنظــرة       و أخلفْتَني حتّى أسأت بك الظّنّا
و ناجيْتَ منْ أهوى و كنت مقرّبا       ليت شعري عن دُنُوِّكَ ما أغنى
و ردّدت طرفا من محاسن و جهها       و متّعت باستسماع نغمتها أذنا
أرى أثــرا منهــا بعينيك لم يكن       لقد سرَقَتْ عيناك من وجْهها حسنا

و من هؤلاء الأرسال من يميل للمعشوقة و يميل إليه فيتآلفان و يتركان العاشق 

حدّث الرّياشيّ قال

كان أبو ذؤيب يبعث ابن عمّ له ، يقال له خالد بن زهير ، إلى امرأة كان يختلف إليها، يقال لها أمّ عمرو ، و هي التي كان يشبب بها ، فراودت الغلام على نفسه فأبى ذلك حينا و قال : أكره أن يبلغ أبا ذؤيب. ثمّ طاوعها ، فقالت :ما يراك إلا الكواكب !!
 فلمّا رجع إلى أبي ذؤيب قال :قال و الله إني لأجد ريح أم عمرو فيك !!فقال فيهما

تريدين كيما تجمعيني و خالدا        و هل يجمع السيفان ، ويحك ، في غِمْدِ
أخالد ما راعيت منّي قرابة       فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي
 فردّ عليه خالد

فإنّ التي فينا زعمتَ و مُلَها       لفيكَ ، و لكنّي أراك تجوزها
ألم تنتقِذْها من يد ابن عويمر       و أنت صفيّ نفسه و وزيرها
فلا تجْزعنْ من سنّة أنت سرتها       فأوّل راضي سنّة من يسيرها
شرح أشعار الهذليين للسّكّري ، ج 1 ، تحقيق عبد الستار أحمد فراج ، بيروت

أبو قثم

السطو على الله


مما لا مراء فيه و لا شك أن محمدا كان شغوفا بالشيطان أيما شغف، و مما لا جدال فيه و لا نقاش أن محمدا كانت تستهويه شخصية إبليس المشاكسة على الأخص من دون سائر الشياطين أيما استهواء، إبليس الذي من جرأته استطاع تحدي رب موسى و امتنع بإبائه و أنفته عن السجود لدميته آدم، إبليس الذي استغفل الله و دخل جنته من حيث لا يدري رغم أنه قد وسع كل شيء علما، ثم أغوى آدم و زوجه و أخرجهما مما كانا فيه رغم مشيئة الله الذي من شدة حرصه عليهما علمهما الأسماء كلها. إبليس هذا كان أمنية محمد الكبرى و قرة عينه اليمنى.أما إبليس اللعين فمنذ أن فتن دمية الله آدم و أخرجه من الجنة و هو متربص بنور النبي، يراقبه في كل لحظة و حين و يتبعه من هذه النطفة إلى تلك و من هذه العلقة إلى تلك و من هذه السلالة البشرية إلى تلك السلالة و من هذا الرجل إلى ذاك إلى أن لاحظه الراهب اليمني في خياشيم عبد المطلب و أنبأه به فكان فرح إبليس عظيما لأنه أدرك أن الساعة قد أزفت و أن لحظة نهاية الانتظار قد أدنت.و ما إن سطع نور النبي من فرج آمنة و أضاء إيوان كسرى و العراق حتى انقض إبليس على محمد و مسه المسة الأولى. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ قَالَ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ،‏ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ،‏ إِلاَّ مَرْيَم وَابْنَهَا.البخاري باب تفسير ال عمران حديث رقم 4548. و ما لبث لعنه الله أن تسرب إلى داخل محمد الصبي حيث عشش و سكن فصار منه بمثابة الجوهر و الأنا الباطني الذي لا يفارقه و لا يسهو عنه، حاضر في ذهنه ماثل في أهوائه ظاهر في فعاله جلي في أقواله.فبدأ يشب معه و يترعرع.رضع معه من ثدي حليمة السعدية و رعى معه الماعز و الجمال و رغم أن جبريل قد شق صدره و أخرج فؤاده ثلاث مرات و غسله في طست إلهي من ذهب إلا أن الشيطان بقي مستبدا بداخل محمد عالقا بأحشائه مستحوذا عليه.و إن دل هذا على شيء فإنما يدل على قصر حيل الله أمام إبليس اللعين و انهزامه المستمر أمامه.و حتى محمد لما بلغ (ص) أشده، فقد مرت عليه نوبات تمنى فيها الخلاص من إبليس و من خبطه و نزغه و همزه له في كل وقت و حين، و ادعائه الوصاية عليه.لذا نجده و قد ربطه مرة إلى سارية المسجد و خنقه مرة أخرى إلى أن بقي برد لسانه على كفه الطاهرة و نجده يحث أصحابه و بلهاءه على لعن إبليس و سبه و التعوذ منه، و إذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم يعني كلما قرأت قول محمد فقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، و مثله إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم يعني كلما أنهيتم الصلاة إلى الشيطان فتوضئوا من نجاسة فِعلكم قبل أن تخالطوا الناس،لأن الناس أطهر من أن تخالطوهم بنجاسة صلاتكم الشيطانية.فمحمد رغم فرحه باقترانه بإبليس إلا أنه قد حاول أن يفرض عليه نفسه و رأيه.فليس محمد بالدمية التي سيستغفلها إبليس و يسيرها حسب هواه. لكنه بالمقابل قد يقبل بأن يكون ذلك الداهية الذي قد يحقق لإبليس و لغيره ما يصبو إليه، و لكن شريطة أن تلتقي المصالح.فكلنا يعلم مدى ما أصاب إبليس من المهانة و الغبن إثر أمر الله له بالسجود لآدم و استعباده من دون الله.و كلنا يدرك المرارة التي أحسها إبليس و هو يطرد دليلا حقيرا من الجنة بعدما كان فيها حرا طليقا عزيز النفس موفور الكرامة.فإبليس لم يستسغ لحد الآن الحكمة من أمر الله له بالتخلي عن كرامته و عزته و هو الذي في نفس الوقت يأمر الناس بألا يشركوا به أحدا و ألا يُعبد في السماوات و الأرض غيره و ألا يٌسجد إلا له.فكيف به يرضى لإبليس بهذا الموقف المهين لهذه الدرجة؟؟فأسرّها إبليس في نفسه و لم يقسم على إغواء الناس أجمعين و القعود لهم بكل صراط مستقيم فحسب، بل لقد أقسم بأغلظ أيمانه على تحطيم الله و القضاء عليه.و تلك كانت هي مصلحته العليا التي بات يسعى في تحقيقها منذ أن حادّ الله و خرج عن طاعته. و لم يكن ليقف أبدا مكتوف الأيدي بل كان دائم التربص بالله و الكيد له و استفزاز رسله و أنبيائه وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم. الحج 52. أما محمد فمن خلال سعة دراسته و قوة ملاحظته فقد تبين له مدى تفاهة الله.هذا الإله المتزلف للعباد الذي رضي لنفسه الاقتران بفرعون لمّا كان يقول للناس أنا ربكم الأعلى حتى جاءهم موسى فنصح الله بالرحيل عن الأرض و وضّح له أنه لا يليق بالإله مثله أن يعيش في الحضيض بين الناس و أن الأجدر به أن يكون له عرش يستوي عليه في السماء بعيدا عن أهواء بني البشر و إغواءاتهم، لكن الله ما لبث أن عاد و تقمص جسم المسيح بن مريم و ركب معه الحمار و سار حافي الرجل مكشوف الأست في الأسواق حتى انقض عليه الأعداء فقتلوه و صلبوه.هذا الإله تبين لمحمد أنه يستحق الحِجر عليه و تجريده من كل صلاحياته الإلهية و السطو على وظائفه و سلطاته. فالتقت المصالح بين إبليس و محمد و قامت الهدنة و حل بينهما التفاهم. و بدآ في حياكة خطتهما الجهنمية التي بمقتضاها خرج محمد في بادئ الأمر في قريته بثياب الزاهد الورع الذي يعظ الناس و ينصحهم و يبشرهم و ينذرهم، ثم، في غفلة عنهم، بدأ ينفث سموم العداء و الكراهية و التفريق بين الأهل و الخلان. فتبين لهم أن الذي بمنازل بني عبد مناف شيطان مريد فدحروه و أخرجوه و من تبعه من الأرذلين: قالوا أنومن لك و من اتبعك الأرذلون قال و ما علمي بما كانوا يعملون، 111/112 الشعراء. فخرج يتربص بالقبائل يغريهم بأموال الناس و أعراضهم و يفتنهم بنسائهم وأملاكهم فيتولون عنه إلا رهط الأوس و الخزرج الذين وافق أمره هواهم فآجروه عندهم و آووه و حموه مما يحمون منه نساءهم و دراريهم ثم صيروه عليهم مليكا يأمرهم بالمنكرات و ينهاهم عن المعروف.فاغتنمها فرصة محمدً، فنصّب نفسه رئيس حكومة الله و وزيره الأول و الناطق الرسمي باسمه.فغدا يأمر بأولوية طاعته و الإذعان لأوامره مساويا في ذلك بين الله ونفسه :ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم النساء : 59 .و من يطع الله و رسوله يدخله جنات من تحتها الأنهار، و من يعص الله و رسوله و يتعدّ حدوده يدخله نارا خالدا فيها و له عذاب مهين النساء 13/14. وفي الصحيح عن النبي ، أنه قال : من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني.ثم ما لبث أن اشترط ذكر اسمه كلما ذكر اسم الله ،فنجد في تفسير الآية الرابعة من سورة الشرح، و رفعنا لك ذكرك، أن المفسرين قد أجمعوا على أن رفع الذكر هنا هو أنه إذا ذكر الله ذكر معه محمد. فصار اسم محمد موازيا لاسم الله في كل شيء .و كلما استثب له الأمر أكثر زاد في تجرُّئه على اختصاصات الله التي أناطته بها الأديان الأخرى. فأصبح يأمر و ينهى ويحلل و يحرم: و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا و اتقوا الله الحشر 7. قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرّمون ما حرّم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون التوبة 29. و لم يكتف بذلك بل تعداه إلى السطو على مكانة الله فأصبح كل ما يهمّ محمدا يهمّ الله فطاعة محمد هي طاعة الله و عصيانه هو عصيان الله، كذلك أصبحت الهجرة إلى محمد هي الهجرة إلى الله وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً النساء100، و إرضاء محمد و القنوت له هو إرضاء لله و قنوت له، وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ التوبة62 ، وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً الأحزاب31 .بل و أكثر من هذا و ذاك، فقد أصبح العداء لمحمد هو العداء لله و محبة محمد هي محبة الله: إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ التوبة24 ، و في صحيح البخاري والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده . هكذا تفتحت شهية محمد على الألوهية و اطمأن إبليس على مصيره و سارا في خطتهما الجهنمية إلى أن حلت موقعة الحديبية التي سيستغلها محمد أيما استغلال ليعزل الله عن مهامه و يقيله من منصبه ثم يعتلي عرشه بكل هدوء و طمأنينة ، فتنتقل إليه السلطة الإلهية بكل سلاسة و يسر، و يصبح من ثمة هو الله المطلق الذي لا شريك له.فأنزل في هذا الأمر آية العزل التي يقول فيها : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم. هكذا عُزل الله عن مهامه و حل محله الإله الجديد. فالذين بايعوا محمدا تحت الشجرة و رضي الله عنهم لم يبايعوا في الحقيقية محمدا إنما هم بايعوا الله ،فمحمد إذا هو الله هو الأكبر الذي لا إله إلا هو. ثم أنزل بعد ذلك الآية 70 من سورة الإسراء: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا.أخرج القرطبي في الجامع لأحكام القرآن مَا حَكَاهُ الطَّبَرِيّ عَنْ فِرْقَة , مِنْهَا مُجَاهِد , أَنَّهَا قَالَتْ : الْمَقَام الْمَحْمُود هُوَ أَنْ يُجْلِس اللَّه تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ عَلَى كُرْسِيّه .و يضيف القرطبي عن أبي وائل عن عبدالله عن النبي أنه قال: إن الله عزّ وجلّ اتخذ إبراهيم خليلاً، وإن صاحبكم حبيب الله وأكرم الخلق على الله ، ثم قرأ: عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا قال: يقعد على العرش.هكذا تولى محمد عرش الله و كتب عليه اسمه و استولى على حكمه: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ النور48، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً الأحزاب36. فما كان من إبليس إلا أن كان أول المبايعين و الساجدين لمحمد و لسان حاله يقول أنت يا محمد أحق من آدم و من ربه بالسجود. و لم يكتف محمد بالسطو على الله و على ملكوته و حكمه، فقد تبين له أن ذلك وحده غير كاف ليروي غليله و يشفي صدره و يضمن له طاعة إبليس إلى يوم الدين،لدا بادر إلى إهانة الله بأن جعله خادما يهرول بينه و بين الناس و يسهر على خدمته و تلبية رغباته، مما اضطر أم المؤمنين عائشة إلى النطق بشهادتها المشهورة المذكورة في صحيح مسلم و غيره : عن عائشة أنها قالت، ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك،صحيح مسلم كتاب الرضاع باب الزواج هبة نوبتها لضرتها. فأصبح الله يوصل الصلوات من المسلمين إلى محمد و يزوجه و يطلقه من فوق أرقعه و يبدل له القبلة و يفرض له الحج و يحرم الخمر و يفرض الحجاب و ينسخ الآيات و ينصره و يجاهد في سبيله: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار التوبة 40
هكذا يسطو محمد على الله في لعبة مكشوفة تحت إشراف إبليس ،فيصبح محمد قرين الشيطان هو اللهَ العظيم.و تصبح الثلاثية المقدسة الله إبليس محمد هي أقانيم الإسلام الثلاثة التي تجتمع لتكون شخص رسول الإسلام.


شيخ النار أبو قثم