و في زاد المعاد نجد أن النبي قال لجابر : ألا أخبرك ما قال الله لأبيك ؟ " قال: بلى. قال : ما كلَّمَ الله أحدا إلا من وراء حجاب ، وكّلم أباك كفاحا ؛ فقال : يا عبدي تمَنُّ عليَّ أعطِك . قال : يا ربّ تحييني فأُُقْتـَل فيك ثانية.. قال : إنه سبق منّي ( أنهم إليها لا يرجعون ) . قال : يا رب فأبلغ مَن ورائي . فأنزل الله تعالى هذه الآية ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون [ آل عمران الآية المائت و التاسعة و الستون ]) وقال: لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله على رسوله هذه الآيات ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموات
السؤال لماذا لم ينزل الله و لا تحسبنَّ الذين استشهدوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء..؟
و الرسول هنا يقول لئلا يزهدوا في الجهاد و لماذا لم يقل لئلا يزهدوا في الاستشهاد أو في الشهادة..؟
كما نجد في الآية الرابعة من سورة محمد:
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّا بعد وإمّا فداء حتى تضع الحرب أوزارها، ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوّ بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضلّ أعمالهم قال الزمخشري: وفي هذه العبارة {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيها من تصوير القتل بأشنع صورة، وهو حزُّ العنق و إِطارة الرأس عن البدن، ولقد زاد من هذه الغلظة في قوله {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان و أضاف { وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي والذين استشهدوا في سبيل الله فلن يُبطل الله عملهم، بل يكثّره ويضاعفه
فيأتي السؤال المشروع لماذا تقول الآية الذين قتلوا في سبيل الله و ليس الذين استشهدوا في سبيل الله..؟
و نفس الشيء نجده في الآية التي جعلت القتل و القتال فرضا كالصلاة و الصوم و الزكاة.ففي الآية السادسة عشر بعد المائتين من سورة البقرة نجد:
كتب عليكم القتال و هو كره لكم .فهذه الآية هي الأخرى لم تتحدث عن الاستشهاد و الشهادة في سبيل الله و إنما ذكرت القتال بصريح العبارة و لم تقل كتبت عليكم الشهادة في سبيل الله
و في الآية الرابعة من سورة الصّف يقول مرة أخرى: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفّّا كأنهم بنيان مرصوص..و لم يقل الذين يستشهدون في سبيله...
أمّا الآية الرابعة و الخمسون من سورة البقرة فتقول كذلك : لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله( و ليس لمن يستشهد في سبيل الله) أمواتا بل أحياء و لكن لا تشعرون..
و الحقّ الحقّ إذا تحرينا التعريف الدقيق و الحقيقي لمفهوم الشهيد؛ فإن الشهيد هو من شهد على واقعة و يشهد لها.
فضحايا كارثة طبيعية مثل زلزال ما أو طاعون شهداء كما قال الحديث بمعنى شهدوا و يشهدون على تلك الأحداث و عاشوها فكانوا لها شهداء و عليها شواهد و علامات.
أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه ومالك من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب ( المصاب بالطّاعون)شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد".
و كذلك ضحايا الرأي. فهؤلاء و لو كانوا في السجون أحياء فهم شهداء. .يشهدون على القمع و التنكيل و الاستبداد
كذلك الطبيب الذي يسعف مرضى الكوليرا فمات .فهو الآخر شهيد و لو أنه لم يقاتل إلا الجهل والمرض و لم يجاهد إلا في سبيل العلم و المعرفة
و هناك مجموعة من الآيات التي توضّح أن الشهيد أو المستشهد ليس هو الذي قتل في سبيل الله بل الشهيد من شهد واقعة و أدلى بشهادته فيها أو كان هو شهادة عليها.
فالآية الخامسة عشر من سورة النساء تقول : و اللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفّاهنّ الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلا..
و كذلك الآية الرابعة من سورة النّور: و الذين يرمون المحصنات و لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ..
أما في مجال المعاملات فنجد الآية الثانية و الثمانين بعد المائتين من سورة البقرة تقول : إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إلى أن تقول: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ...
الشهيدين ليسا، كما نرى، مقتولان؛ و لا الشهداء كذلك بالمقتولين.
فليس في القرآن شهيد قد مات أو قتل إن في سبيل الله أم في سبيل غير الله
: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ( المائدة 106
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأََقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير النساء135
َقَوْله " شُهَدَاء لِلَّهِ " أَيْ أَدُّوهَا اِبْتِغَاء وَجْه اللَّه فَحِينَئِذٍ تَكُون صَحِيحَة عَادِلَة حَقًّا خَالِيَة مِنْ التَّحْرِيف وَالتَّبْدِيل وَالْكِتْمَان
ا
أمّا الآية الثالثة و الأربعون بعد المائة من سورة البقرة فتجعل المسلمين كلهم و الرسول معهم شهداء حيث تقول:
( (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
فهل هذا يعني أن المسلمين و رسولهم مقتولون..؟
أما الآية الثامنة عشر من سورة البقرة فتضع حدّا نهائيا لأيّ جدل حول معنى الشهيد
تقول الآية:و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا و يشهد الله على ما في قلبه و هو ألذّ الخصام...
فحسب هذه الآية فإنّ الله يشهد للناس على ما في قلوبهم . فهو الآخر شهيد إذا!!؟
و هذا ما تثبته و تؤكّده الآية الثالثة و الخمسون من سورة فصّلت :أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد... و منه كذلك و الله على كل شيء شهيد
و هنا أتساءل مع من أراد أن يتساءل
إذا كانت كلمة شهيد اسما من أسماء الله الحسنى و التلفزة تطلع علينا يوميا بالعشرات من المقتولين تسميهم شهداء فهل الله هو الآخر قتل و مات و رأى مقعده من الجنة و أجير من عذاب القبر مصداقا لحديث حبيبه وصفيّه
إن للشهيد عند الله خصالا أن يغفر له من أول دفعة من دمه ويرى مقعده من الجنة ويحلى حلية الإيمان ويزوج من الحور العين ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها . ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه ذكره أحمد وصححه الترمذي
الشهيد هو السميع و البصير هذا ما نستحضره من خلال قصة زوجة العزيز و يوسف الذين كانا في حجرة مغلقة و شهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد قدّ من قبل فصدقت و هو من الكاذبين .و إن كان قميصه قد قّد من دبر فكذبت و هو من الصادقين...
أبو قثم