من الثوراة إلى القرآن مرورا بالملوك و الرؤساء و المفكرين و المؤرخين القدماء منهم و المعاصرين ، العرب و غير العرب ؛ نجد أن النظرة إلى الإنسان العربي تكاد تكون نظرة واحدة موحدة،لا تختلف باختلاف الأشخاص و لا الأزمان .فرضتها خصائص ثابتة في هذا الإنسان لا تتغير، إذا افتقد واحدة منها افتقد خصوصيته و هويته العربية.
و من بين هذه الخصائص التي ترتكز عليها الشخصية العربية الكبر و الفخر بالآباء و الأجداد و الأحساب و الأنساب.فقد عرفت قريش بالكبر و نعتت به حتى قيل: "هذه عُبَيّة قريش . و العبية هي الكبر و الفخر و منها عبية الجاهلية فقد رُوي أن الرسول أمر معاوية بإنزال "وائل بن حجر" الحضرمي منزلاً بالحرة، فمشى معه ووائل راكب وكان النهار حاراً شديد الحرارة. فقال له معاوية: ألق اليّ نعلك، قال: لا، إني لم أكن لألبسها وقد لبستها. قال فاردفني، قال: لست من أرداف الملوك.: قال: إن الرمضاء قد أحرقت قدمي، قال: لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك. ولكن إن شئت قصرت عليك ناقتي فسرت في ظلها. فأتى معاوية النبي، فأنبأه. فقال: "إن فيه لَعُبَيَّة من عُبَيّة الجاهلية. (وفد حضرموت ـ طبقات ابن سعد 1/349)
و قد حاول الإسلام محاربة هذه العبية فذمّها و نهى عنها و لكنه من جهة أخرى كرسها بفتوحاته وغنائمه و تفضيله لعنصر قريش على سائر البشر.فقد ورد في الحديث: أن الله وضع عنكم عُبَيّة الجاهلية، وتعظّمها بآبائها، يعني الكِبَر". ( عبب ، تاج العروس 1/574)
كما يشكل الجهل المطبق ركيزة هامة في بناء شخصية الإنسان العربي و نخوته و فخره ، فالعربي تجده وثنيا ولكنه لا يفهم شيئاً من أمور الوثنية، و نصرانيا، لكنه نصرانيّ بالاسم، لا يعرف عن النصرانية في الغالب شيئاً، و مسلما ولكنه لا يعرف عن الإسلام إلا الاسم ، ثم يفتخر بذلك الجهل و كأنه مزية يُتّصَف بها. ونجد في كتب آهل الأخبار والأدب قصصاً كثيرا بمثل هذا الجهل الذيُ رمي به الأعراب في بعضه حق وفي بعضه موضوع على سبيل التنكيت و التسلية
كما أن الإنسان العربي حقود، لا يرى أن يغفر ذنب من أساء إليه. بل يظل في نفسه حاقداً عليه حتى يأخذ بثأره منه. "قيل لأعرابي: أيسرك أن تدخل الجنة ولا تسيء إلى من أساء إليك ؟ فقال: بل يسرني أن أدرك الثأر وأدخل النار."(نهاية الأرب 6/96)
و العربي إنسان عنصري يميز الناس حسب أعراقهم و ألوانهم و حسب تحضرهم و بداوتهم .فهذا الرسول الأكرم كان يميز بين الأعراب و بين البادية، وهم الذين كانوا ينزلون أطراف القارة "القارية" وحولهم. فلما أهدت "أم سنبلة" الأسلمية لبناً إلى بيت رسول الله، أبت عائشة قبوله، لأن الرسول قد نهى أهله عن قبول هدية أعرابي. وبينما كانت أم سنبلة في بيته، دخل رسول الله، فقال: ما هذا ؟ قالت عائشة: يا رسول الله، هذه أم سنبلة أهدت لنا لبناً، وكنت نهيتنا أن نقبل من أحد من الأعراب شيئاً. فقال رسول الله: خذوها، فان أسلموا ليسوا بأعراب، هم أهل باديتنا.(ابن سعد 8/615)
ويفيد هذا الخبر ، أن الرسول يميز بين العرب البادية المقيمين حول "القارية" أهل الحاضرة، الذين هم على اتصال دائم بالحضر، وبين الأعراب. وهم البادون البعيدون عن أهل الحواضر. فنهى عن قبول هدية منهم. وذلك بسبب جفائهم على ما يظهر ولأنهم لا يهدون شيئاً إلا طمعوا في ردَ ما هو أكثر منه. لغلظ معاشهم وضيق تفكيرهم. وآية ذلك ما ورد عنهم في القرآن .
"وممّن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مَرَدُوا على النفاق، لا تعلمهم، نحن نعلمهم، سنعذبهم مرتين، ثم يردّون إلى عذاب عظيم"( التوبة101)
"الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألاّ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، و الله عليم حكيم. "ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم" (التوبة98)
و من خصوصيات العرب المنّة ،، إذا فعلوا معروفاً بقوا يتحدثون عنه، ويمنون بصنعه على من قسموه له. وهم يريدون منه صنع أضعاف ما صنعوه له. و منها كذلك الخشونة، فهم خشنون إذا تكلّموا رفعوا أصواتهم. وقد وّبخهم القرآن وأنّبهم لفعلهم هذا. فجاء فيه: "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهروا له بالقولِ كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. إن الذين يغضون أصواتهم عند رسولِ اللهِ أولئك الذين امتحن اللهُ قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم."(الحجرات 2 و ما بعدها "يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول الله تتجهموه بالكلام وتغلظون له في الخطاب."(لقمان 19).و يقول الطبري" و كان من خشونتهم و أعرابيتهم أن أحدهم إذا جاء الرسول فوجده في حجرته نادى: يا محمد يا محمد!. وذكر أن وفداً من "تميم" وفد على رسول الله، فوجده في حجرته، ونادى مناديه:. اخرج إلينا يا محمد! فإن مدحنا زين وذمّنا شين. أو: يا محمد ! إن مدحي زين وإن شتمي شين. فأنزل الله: "إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون. ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم. والله غفور رحيم." (تفسير الطبري 26/84)
و يعرف العربي بماديته المفرطة و جشعه الكبير وطمعه الفظيع. فهو يحارب معك، ثم ينقلب عليك ويصير مع خصمك، إذا وجد في الجانب الثاني أنه مستعد لإعطائه أكثر مما أعطيته.
فقد حاربوا مع الرسول ثم صاروا عليه و انتهبوا عسكره، و جاؤوا إليه فعرضوا عليه الإسلام، فلما أرادوا العودة إلى بلادهم وهم مسلمون، وجدوا رعاءً للرسول، فانتهبوه وقتلوا حماته مع علمهم بأنه له، وأن انتهاب مال المسلم حرام، فكيف بهم وهم ينتهبون مال رسول الله. وقد ندد القرآن الكريم بطمعهم في الآية: ـ قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا ـ. فهؤلاء قوم من بوادي العرب قدموا على النبيّ، صلى الله عليه وسلم، المدينة، طمعاً في الصدقات، لا رغبة في الإسلام، فسماهم الله تعالى الأعراب.. و مثلهم الذين ذكرهم الله في سورة التوبة، فقال: "الأعراب أشد كفراً ونفاقاً".(عرب ـ اللسان 1/586)
وذكر عن "قتادة" قوله: "قالت الأعراب آمنّا، قل: لم تؤمنوا، ولعمري ما عمت هذه الآية الأعراب. إنّ من الأعراب مَنْ يؤمن بالله واليوم الآخر، ولكن إنما أنزلت في حي من أحياء الأعراب امتنوا بإسلامهم على نبيّ الله، صل الله عليه وسلم، فقالوا: أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. فقال الله تعالى: لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا". "وقال أخرون: قيل لهم ذلك لأنهم منّوا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بإسلامهم. فقال الله لنبيّه، صلى الله عليه وسلم، قل لهم لم تؤمنوا ولكن استسلمتم خوف السباء والقتل."( تفسير الطبري26/90)
و يتصف العربي بالهوجائية فهو لا يعرف شيئا سوى القوة و لا يخضع لشيء إلا لسلطانها.كما يعرف بالتفاخر بنفسه و التباهي بشجاعته، إلا أنه لا يصبر على طول القتال وجديته، ولا يتحمل الوقوف طويلا في ساحة المعركة، لاسيما إذا شعر أن القتال غبر متوازن، وان أسلحة خصمه أمضى و أقوى في القتال من أسلحته، فيولي عندئذ الأدبار، و لا يرى في هروبه هذا من المعركة شيئاً ولا عيباً.
وفي تأريخ معارك الجاهلية ولاسيما في معاركهم مع الأعاجم ومع القوات النظامية العربية أمثلة عديدة من هذا القبيل. ففي الحروب التي وقعت بين المسلمين والفرس أو الروم، خذلت بعض القبائل المسلمين، وتركتهم لما رأت جد القتال وأن لا فائدة مادية ستحصل عليها منه. "وقد كان انضم إلى المسلمين حين ساروا إلى الروم ناس من لخم وجذام، فلما رأوا جد القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى، و خذلوا المسلمين".(الطبري 3/5719)
لقد فروا لأنهم وجدوا أن القتال قد طال وأنه قِتال جدّ، و هم لا قبل لهم بالقتال الطويل الشديد الجدّ. فاختاروا الهروب دون إن يفكروا، في عقدهم الذي عقدوه مع إخوانهم في الجنس على القتال معهم والاستمرار فيه حتى النهاية، فإما نصر وإما هزيمة وموت وهلاك.
ولكن طبيعة الأعراب لا تقيم وزناً ولا تعطي أهمية للعقود في مثل هذه المواقف. إن رأت هواها في القتال قد تغيّر وتحوّل، وأن الأمل في كسب مغنم قد تضاءل، انسحبت منه بعذر قد يكون تافهاً وبغير عذر أيضاً. وقد لا تنسحب، وإنما تبدل الجبهة، بأن تذهب إلى الجانب الآخر فتحارب معه، وتقاتل عندئذ من كانت تقاتل معه. لأنها وجدت أن الربح من هذا الجانب مضمون، وأن ما ستناله منه من فائدة أكثر. وذاك بعد مفاوضات سرية تجرى بالطبع. وهذا ما أزعج الروم والفرس، وجعلهم لا يطمئنون إلى قتال العرب معهم وفي صفوفهم.، فرموهم بالغدر. فكانوا إذا كلفوهم بالحرب معهم عهدوا إليهم القيام فيها بأعمال حربية ثانوية، أو الانفراد بحرب الأعراب الأعداء الذين هم من أنصار الجانب الآخر. فقد حدث مراراً أن هرب الأعراب من ساحة القتال حين سعرت نار الحرب، وارتفع لهيبها، فأحدث هروبهم هذا ارتباكاً في جانب من كان يقاتلون معه أدى إلى هزيمته هزيمة منكرة، لما أحدثه فرارهم هذا من فجوة في صفوف المقاتلين. وقد أشارت إلى هذه الحوادث مؤلفات الكتاب اليونان و اللاتين.( المصنف 4/295).
والعربي صارم عبوس، إذا ضحك ضحك بقدر. يكره الدعابة، ويرى فيها تبذلاّ لا يليق صدوره من إنسان كريم. بقي هذا شأنه حتى في الإسلام. فلما وصف "أبو عبد الله المصعب بن عمد الله بن المصعب الزبيري" "عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر-الصديق" قال عنه: "كان امرؤاً صالحاً، وقد كانت فيه دعابة". حتى أن من العلماء من عَدّ "الدعابة" من الشوائب التي تنقص المروءة، وتؤثر في صاحبها، وتطعن فيه، فلا تجعله أهلا لأن يؤخذ عنه الحديث. أي جعلوه شخصا غير موثوق به.(نسب قريش278)
ويعرف العربي بالفردانية و التطرف ، إلى درجة تجعله يقيس كل شيء بمقياس الفائدة التي يحصل عليها من ذلك الشيء.و عرف في الوقت نفسه بخوفه من الإمعان في القسوة، ومن الإمعان في القتل، لما يدركه من رد الفعل الذي سيحدث عند أعدائه ضده إذا تمكنوا منه، ومن نتائج الأخذ بالثأر. كما عرف عن العربي ميله إلى المبالغة. المبالغة في كلامه. والمبالغة في إعطائه إذا أعطى، والمبالغة في مدح نفسه، والتباهي بشجاعته و بكرمه و بشدة صبره إلى غير ذلك، مع وجود تناقض فيه بالنسبة إلى دعاويه هذه. والعربي يحب المديح كثيراً، وهو على حدّ قولهم. إذا أعطى، صور ذلك غاية الجود، وبالغ فيه، ويظل يذكره في كل وقت ويحب إن يطرى عليه. (المصنف 298)
ويفضل العربي فقر البادية وغلظ معاشها وشحها، ويحن إليها، ولا يصبر عن فراقها
. قال الجاحظ: "وترى الأعراب تحن إلى البلد الجدب، والمحل القفر، والحجر الصلد، وتستوخم الريف".(رسالة في الحنين إلى الأوطان ـ من رسائل الجاحظ2/388 تحقبقعبد السلام هارون)
"واعتل أعرابي في أرض غربة، فقيل له: ما تشتهي? فقال: حسل فلاة، و حسو قلات". (نفس المصدر 390)
ويروى إن "ميسون بنت بحدل" الكلبية، زوجة معاوية، كانت تحن إلى وطنها، وقد سمعها زوجها وهي تنشد أبياتاً في شوق وحنين إلى البادية، فخيمتها التي تلعب الأرياح بها، خير عندها وأحب لها من العيش في قصر منيف، ورجل من بني عمها نحيف أحب إليها من "علج عليف"، أي حضري سمين من كثرة الأكل.(بلوغ الأرب 3/426 و ما بعدها)
.
و الحضري من العرب يسخر من البدوي ويضحك عليه لحنينه إلى باديته. ولما استظرف "الوليد بن عبد الملك" أعرابياً واستملحه، فأبقاه عنده وسأله عن سبب حنينه إلى وطنه أجابه جواباً خشناً، مثل جفاء الأعراب وصلفهم. فقال الوليد، وهو يضحك: أعرابي مجنون.(بلوغ الأرب 3/433) ولم يتأثر منه، لأنه أعرابي، والأعرابي في حكم المجانين. وقد سقط حكم القلم عنه
هذه إذا هي حياة العرب حياة تكاد تكون حياة واحدة لا تغير فيها ولا تبدل، فهي على وتيرة واحدة، على تعدد القبائل، وابتعاد مواضع بعضها عن بعض. ذلك لأن الظروف المخيمة عليهم، ظروف واحدة لا اختلاف فيها ولا تبدل. إلا ما كان منها بالنسبة إلى عرب الضواحي والحواضر و الحدود، فان ظروفهم تختلف عن هؤلاء، ومجال تفكيرهم أوسع من مجال تفكير أعراب نجد و ما والاها من أرض الجزيرة جنوبا.و ذاك بسبب نوع المعيشة المتغير، المتصل بالأرض، وقربهم من الحضر.
يقول جود علي :ولو درسنا حياة القبائل في الجاهلية وجمعنا دراستنا من المرويّ عنها في الكتب، وجدنا أن بين الماضي البعيد وبين الحاضر شبهاً في نمط الحياة، وان ما ذكرته عن قبائل الجاهلية يكاد ينطبق على حياة قبائل البادية في وقتنا هذا، ذلك لأن الظروف والمؤثرات بالنسبة إلى حياة الأعراب الممعنين في البادية لا تزال كما كانت عليه. ولكنها سوف لن تبقى على ما هي عليه و إلى أبد الآبدين بالطبع، لأن التقدم الحضاري والاكتشافات المادية، قد آخذت تغزو الأعراب وتضيق الخناق عليهم، لتغير من حالهم. فبعد أن كان البدو قوم غزو، أكرهتهم الحكومات القوية على الابتعاد عن الغزو ونبذه، حتى اضطروا إلى توديعه إن الأبد أو كادوا وصاروا مغزوَّين، تغزوهم الحضارة الحديثة والآليّات بما لا قبل لهم بمقاومته، لتفوق الغزو الجديد عليهم. وهم سيكونون ولا شك بمرور الوقت على شاكلة النصف الآخر من العرب. أي إخوانهم الحضر. يوائمون أنفسهم مع التطور الجديد. وسوف يبدل هذا من حياتهم ولا شك، ومن أهم ما سيفعله فيهم، تحويل حياتهم من حياة غير مرتبطة بالأرض، إلى حياة ترتبط بها ارتباطا وثيقاً، فتتحول البداوة عندئذ إلى حضارة، وسيشعر الأعرابي عندئذ انه مواطن له ارض ووطن وقوم هم إخوة له يشعرون بشعوره. وأن من يعزل نفسه عن العالم، فلن يعزل بذلك إلا نفسه، ولن يضر إلا بصالحه. وان الإنسان بغير عمل ولا إنتاج، إنسان تافه لا قيمة له. وأن العنتريات و العُبَيّة الجاهلية من جملة مؤخرات الحياة في كل الأزمنة والأوقات" المفصل 4/302)
أبو قثم.