الأحد، 13 فبراير 2011

القرآن وسجع الكهّان


القرآن وسجع الكهّان
كريم عبيد
العدد 35 - كانون الثاني 2011
من المفيد أولاً الوقوف على بعض المصطلحات التي ارتبطت بالكهنة، وكان الخلط واضحاً في ما بينها في أذهان العرب، رغم معرفتهم الفطرية بمعنى كلّ من هذه الكلمات. وهذا إن دلّ على شيء، فإنما على احتواء الكاهن في الجاهلية على كلّ هذه المعاني.
السجع: سَجَعَ يَسْجَعُ سَجْعاً: استوى واستقام وأَشبه بعضه بعضاً، والسجع: الكلام المقفّى، والجمع أَسجاع وأَساجيعُ؛ وكلام مُسَجَّع. وسَجَعَ يَسْجَعُ سَجْعاً وسَجَّعَ تسْجيعاً: تَكلَّم بكلام له فواصلُ كفواصلِ الشِّعْر من غير وزن، وصاحبُه سَجَّاعةٌ وهو من الاستواءِ والاستقامةِ والاشتباهِ كأَن كل كلمة تشبه صاحبتها...
الكُهَّان: جمع الكاهن: معروف. كَهَنَ له يَكْهَنُ ويكهُنُ وكَهُنَ كَهانةً وتكَهَّنَ تكَهُّناً وتكهيناً، الأخير نادر: قَضى له بالغيب. الأَزهري: قَلَّما يقال إِلا تكَهَّنَ الرجلُ. غيره: كَهَن كِهانةً مثل كَتب يكتُب كِتابة إذا تكَهَّنَ، وكَهُن كَهانة إذا صار كاهِناً. ورجل كاهِنٌ من قوم كَهَنةٍ وكُهَّان، وحِرفته الكِهانةُ. وفي الحديث: نهى عن حُلْوان الكاهن؛ قال: الكاهِنُ الذي يتعاطى الخبرَ عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدَّعي معرفة الأسرار... وسجع الكهَّان: جاء مصطلحاً مركَّباً تركيباً إضافياً: المضاف مفرداً نكرة، المضاف إليه جمعاً معرفة... وكأن من وضع هذا المصطلح رأى أن السجع واحد عند مجموع الكهان.
العرّاف: الكاهن؛ قال عُرْوة بن حِزام:
«فقلت لعَرَّافِ اليَمامة: داوِني
فإنك إن أبرأتني، لطبيبُ»
أراد بالعرَّاف المُنجِّم أو الحازِيَ الذي يدَّعي علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه.
الحكيم: العالم بالأمور والمتقن، ومن هنا سُمِّي أحد الكهنة بمحكّم اليمامة، وقد يكون شاعراً أو قائداً أو شيخ قبيلة.
المتنبِّئ: من يدّعي النبوة... وهو من أقرب هذه المصطلحات إلى الكهانة(1).
فكان يقال للكاهن تكهَّن وعرف وحكم وتنبّأ، ومنها جاء الخلط بين الكاهن والعرّاف والحكيم والمتنبّئ.
إذاً فالسجع أسلوب يعتمد على التقطيع المتتالي للكلام، تقطيعاً يتناسب مع المعنى غالباً، حاول الكهَّان من خلاله التأثير في السامع، وإضفاء مسحة من القداسة والغموض على أقوالهم، وذلك من خلال أمور عديدة:
1- المعاني المقتضبة التي تتكوَّن غالباً من مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل، أو سؤال قطعي، أو وصف لبعض الأحداث... إلخ، أو التغييب المعنوي الظاهر، وتعميق المعنى الباطن في تلافيف الكلام. ومن ذلك قول الكاهن شق بن صعب يصف يوم القيامة: «يوم تجزى فيه الولايات، يدعى فيه من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات».
أو قول الكاهن سطيح في وصف يوم النشور: «يوم يُجمَع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون».
2- القوالب المتقابلة والمتناظرة التي تعتمد على شدّة الوقع والجرس، النهايات الحادّة، التي تنوب في النثر عن القافية في الشعر، وتشكِّل استراحة سمعية للمتلقّي، وتُغلق المعنى بقسوة، ليبدأ بعدها معنى جديد آخر، يُناظر الأول أو يعاسكه، وهذا ما يفتح المعنى على احتمالات دلالية مختلفة، توحي بغموض ما، يقتضيه المعنى الديني أو الروحي المراد إيصاله، وأكثرها يتضمَّن معنى القسم أو الشرط أو الاستفهام... ومن ذلك قول الكاهنة زبراء: «واللوحِ الخافق، والليل الفاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأود ختلا، ويرقّ أنياباً عُملا، وإن صخر الطوا لينذر ثقلا، لا تجدون عنه معلا» (2).
ومن ذلك أيضاً نصّ من النصوص المتميّزة لسجع الكهَّان، والتي لا تبتعد عن الأسلوب القرآني قيد أنملة، وهو ما سُمِّي بـ«سورة الكِبْر»: «وأما من استكبر. وبآياتنا كذّب وأنكر. سنُذيقه العذاب الأصغر. ثم نُذيقه العذاب الأكبر. وما أدراك ما الأكبر. جحيمٌ مسَعَّر. وحميمٌ مُسجَّر. وما هو منها مُحرَّر. يوم عن آياتنا أدبر. وقال ما لنا من مآبٍ يُذكَر. إن هي إلا أرضٌ تجمع. وعظامٌ تهجع. وقبورٌ تبلع. كلا سيُنحَر. ثم كلا سيُنحَر. و ما له من مفر. ظن أن لن يقدر عليه رب البشر...».
3- التركيز على الأفكار، وهذا ما يُعطي الكلام بُعداً معرفياً أو لغوياً، يرفعه من مرتبة الكلام العادي المباشر إلى نوع من الإنشاد الديني، متوسِّلاً لذلك تضمين كلّ المخزون الروحي والمعرفي والثقافي والاجتماعي والسياسي، الذي يميّز الكاهن عن غيره، ولا سيما الشاعر. حيث تكون غاية الشعر التأثير في نفس المتلقّي، وإثارة أحاسيسه، وتفجير وجدانه بالدرجة الأولى، بينما السجع يعمل على إثارة الأفكار، والتأثير في عقل المتلقّي، ودفعه إلى التفكير الما ورائي، واستحضار خبرات سابقة، يجمعها القول المركَّز، والتعبير المقتضب، في حكمة، أو مثل سائر، أو فكرة مقدَّسة، أو موعظة، وبالتالي تقديم منظومة أخلاقية روحية دينية، ترسم عالماً ميتافيزيقياً، يحتاجه الإنسان بالفطرة. ومن ذلك نصّ من النصوص السجعيّة المتميّزة لقس بن ساعدة الأيادي، يقول فيه: «اسمعوا وعوا. إن من عاش مات. ومن مات فات. وكل ما هو آتٍ آت. ليلٌ داج. ونهار ساج. وسماء ذات أبراج. إن في الأرض لعبرا. وإن في السماء لخبرا. أقسم قس قسماً حتما. لئن كان في الأرض رضا ليكونن بعدُ سخطا. بل إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم. بل هو المعبود الواحد. ليس بمولود ولا والد. أعاد وأبدى. وإليه المآب غدا» (3).
لقد عمل الكهَّان على إعادة السحر إلى الكلمة، عبر شفهية أخّاذة، ولا سيما بعدما استأثر الشعر بكلّ سحر... فانفردوا في سجعهم، بأبعاد روحية دينية، قلَّما حفل الشعر بها، إلا عند من كان كاهناً وشاعراً في الآن نفسه كأمية بن أبي الصلت، الذي أكثر من المعاني الدينية في شعره.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا اعتمد الكهَّان في الجاهلية في كتاباتهم أسلوب السجع؟! والجواب يكمن في طبيعة هذا النوع من الكتابة والأهداف التي يصبو إليها أصحابه.
فالمتلقّي عموماً (عرب شبه الجزيرة العربية) من أصحاب البلاغة، واللغة وتصاريفها، وأساليب القول، والتفنُّن في الكلام، غير أنه لم يكن يتكلَّف الكلام تكلُّفاً، بل كان يقول ما يدور في خاطره، تقوده فطرته وإحساسه بالوجود، معتدّاً بما سمعه، من أخبار وأشعار، هذَّبت له فطرته وأطلقت العنان لطاقاته الكامنة. فالسجع كان يمرّ مرور الكرام في كلام العرب، وإن مرَّ فإنه أبعد ما يكون عن التكلُّف. بينما نجد أن الكهَّان اتَّخذوه أسلوباً راسخاً لهم، وخطاباً قادراً على حمل المعنى من جهة، والعمل على إيهام المتلقّي بعمق ما يحمله هذا الخطاب من جهة أخرى.

الإسلام وضياع سجع الكهَّان
النصوص التي وصلتنا من سجع الكهَّان قليلة نسبياً، قياساً إلى عدد الكهَّان الذين ذكرتهم كتب التاريخ والأدب، حيث يزيد عددهم على خمسين كاهناً نذكر منهم: ورقة بن نوفل، وقس بن ساعدة الأيادي، وشقّ بن أنمار بن نزار، وأكثم بن صيفي، وأميّة بن أبي الصلت، وسطيح بن مازن بن غسان، ومسلمة بن حبيب، وربيعة بن ربيعة، وعرَّاف اليمامة رباح بن عجلة، وعرَّاف نجد الأبلق الأسدي، وزيد بن عمرو بن نفيل، والمأمور الحارثي، والكاهن الخزاعي، وعلاف بن شهاب التميمي، وزهير بن أبي سلمى (الشاعر)، وزبراء كاهنة بني رئام، وكاهنة سهم، والكاهنة سجاح التميمية، وسويد بن عامر المصطلقي، ووكيع بن سلمة بن زهير الأيادي، وأبو قيس صرمة بن أبي أنيس، وعامر بن الضرب العدواني، المتلمِّس بن أمية الكناني، وخالد بن سنان العبسي...(4). وأسباب قلّة نصوص سجعهم كثيرة:
1- ضياع معظم هذه النصوص واندثارها بموت أصحابها، سيما أنها لم تُدوَّن، وإنما تناقلتها الناس شفهياً.
2- عدم إقبال الناس عليها، لأنها تخالف الكثير من المعتقدات الدينية السائدة آنذاك، لأن هذه النصوص، كما اعتقد الناس آنذاك، تحمل لعناتٍ لمن تحلّ عليه، كما أن نظرتهم إلى الكهَّان، على أنهم طبقة متميّزة، جعلتهم يتعاملون معهم باحترام وخوف بالغَين، واعتقاداً منهم بأنّ لأصحابها قدراتٍ سحريةً غامضة، فقد كان هؤلاء الكهَّان المرجع الأول في كلّ ما يعترض القبيلة من إشكاليات على أرض الواقع، وفي ما يتعلّق بالأمور الروحية، لذا كان زعماء القبائل وشيوخها يتحصّنون بكهَّانهم، ويُخيفون أعداءهم بهم.
3- محاربة الإسلام لسجع الكهان، وشنّ حملات الإبادة الفكرية، والجسدية على كهنة الجاهلية، واعتبارهم أعداء حقيقيين للدعوة الفتية آنذاك، إلا من انطوى تحت لواء الإسلام. فالحروب التي شُنَّت ضدّ محكِّم اليمامة ومسلمة بن حبيب وكهنة اليمن، والنهايات التي انتهى بها هؤلاء معروفة في كتب التاريخ والسيرة. وهذا شاهد على التصفية الجسدية ضدّ الرأي الآخر، الذي وَجَدَ له مريدين وأتباعاً كثراً في جزيرة العرب (كادت الدعوة الإسلامية، بعد موت الرسول، تنهار بسبب ارتداد الناس عن الإسلام، واتِّباعهم لمسلمة وقد تبعه ثلثا سكان شبه الجزيرة آنذاك، ولذا قامت حروب أبي بكر التي اشتهرت بـ«حروب الردَّة»).
أما التصفية الفكرية فهي أكثر من أن تُحصى، في القرآن أو في الحديث النبوي، فقد ورد في الحديث: إن الشياطين كانت تسترقُ السمعَ في الجاهلية وتُلقيه إلى الكهَنة، فتزيدُ فيه ما تزيدُ وتقبله الكفّار منهم. وقوله أيضاً في الحديث: من أتى عَرَّافاً أو كاهناً فقد كفر بما أُنزل على محمد...(5).
هذا على الرغم من أنّ كهنة العرب كانوا من الحكماء، وكلّ ما عُرف عنهم، ونقلته إلينا كتب التاريخ، أنّ أكثرهم اعتزل عبادة الأصنام، وابتعد عن المحرَّمات التي حرَّمها الإسلام في ما بعد: الخمر والميسر والأزلام... إلخ.
الحملة التي شنـّها الإسلام ضدّ الكهَّان، هي حملة لقتل الفكر المعارض الذي ساد في أجزاء لا يُستهان بها من جزيرة العرب، ولاقتلاع الجذر التي انبثق منه القرآن. وهذه الجريمة ضدّ بدايات الفكر الروحي عند العرب، ظهرت نتائجها مجدداً بعد موت الرسول على شكل حروب أهلية (الجمل وصفّين) بين حاشية الرسول، وتطوّرت هذه الحروب الأهلية السياسية لتأخذ بُعداً فكرياً دينياً راسخاً في بنية الإسلام (شيعة وسنّة) بدءاً بالعصر الأموي وصولاً إلى العصر الحديث.
لم يشأ الإسلام أن يعترف بالآخر النقيض، في الداخل والخارج. فغيَّب ومحا ودمَّر وأحرق كلّ معارضة ممكنة، وربط ذلك كلّه ببُعد إلهي خارق؛ مثله في ذلك مثل كلّ الإمبراطوريات القديمة. لكنه لم يتوقَّف عند ذلك، بل اعتمد كتَّابه وفقهاؤه على أدهى حيلة عرفها التاريخ، وهي ما عُرف بعصر التدوين، الذي أغلق باب الثقافة الشفهية، ليس بثقافة كتابية بديلة، وإنما بثقافة شفهية مكتوبة، محدَّدة بدقّة ضمن قواعد النحو والفقه والشعر، مؤسطرة في حدود الإلهي الذي لا يُخترق (القرآن) وصورته الإنسانية المقدَّسة (الحديث). ولذا كانت كلّ دعوة خارج إطار المسموح به إسلامياً، تُعتبر إلحاداً وكفراً.

القمع التاريخي - اغتيال اللغة
إن القمع التاريخي الذي لعبه الإسلام، مُمثَّلاً بالقرآن بوصفه خطاباً إلهياً، وقدَّم نفسه على أنه الأنموذج الأعلى للغة، شكَّل منعطفاً تاريخياً خطيراً، على مستوى الخطاب اللغوي العربي قبل الإسلام، ممثَّلاً بالشعر والنثر، ولا سيما أنه أعلن تحدّيه اللغوي في غير مكان من القرآن.
لقد اتخذ الرسول مهمة أساسية له؛ قلبَ النظام الرمزي السائد آنذاك واستبداله بنظام آخر. لقد أحدث تعارضاً جذرياً بين النظامَين من خلال إنجاز تسمية مزدوجة؛ سُمِّيتْ رسالته «الإسلام» وسُمِّي ما يقابلها «الجاهلية». أي القرآن مقابل الشعر الجاهلي، الذي شهد أكبر انهيار له بعد مجيء الإسلام. من المفيد أن نلاحظ تشديدَ الإسلام على طبيعته الكتابية (من كتاب)؛ فقد وردت كلمة «كتاب» في القرآن 254 مرّة، فيما لم ترد كلمة «الشعر» سوى مرّة واحدة. ومن الآن فصاعداً سيصبح القرآن - الكتاب هو الذي يحتوي العلم وليس الشعر.
إذاً لم يعد الأمر يتعلّق بتاتاً بالشعر = الفطنة والعلم. كما تمَّ تحويل العنف والقتل السائدَين، بشكل منهجي، نحو الخارج عبر الفتوحات.
وبالوقوف قليلاً على عقدة أوديب الشهيرة، كأحد الأمكنة الأساسية لتشييد القانون، نجد أنها تتضمَّن ميكانيزمَين أساسيَّين لتشييد القانون، هما المنع والتماهي. ويمكن تبسيط سيرورة أوديب كالآتي: في البداية تكون الأمّ هي موضوع رغبة الطفل، لكن هذه الرغبة تصطدم بواقع كون الأم مُلكاً للأب، تصطدم باستحالة تحقُّقها، أي بالقانون أو الممنوع، فيعيش الطفل تناقضاً وجدانياً إزاء الأب - ممثل القانون (يرغب في قتله لكنه يشعر بالذنب بسبب هذه الرغبة) لا يخرج منه إلا بقبول الخصاء، والتماهي مع شخصية الأب، أي باستبدال هُويَّته القديمة (الطبيعية) بهُويَّة جديدة ثقافية(6).
وبالرجوع إلى الدلالة اللغوية لكلمة «شعر» نجدها تعني الفطنة والعلم، لكنها تعني أيضاً القافية، هذا المصطلح المشتقّ من الجذر «قفا» كان يُطلق على الكلمة أو البيت أو القصيدة، على الضرب على القفا، وعلى تتبُّع الأثر. وإذا كانت الدلالة الثانية (ضرب القفا) تُعيدنا من جديد إلى الصلة بين الشعر والعنف، فإن الدلالة الأخيرة (تتبُّع الأثر) تشير إلى قربى بين الشعر والكهانة والعرافة: الكهانة والعرافة هما الآخران يدلّان على المعرفة، والقيافة ضرب من التنبُّؤ بالغيب يتمكَّن صاحبه من التعرُّف إلى الشيء انطلاقاً من مشاهدة أثره(7).
لقد كان الشعر يُنشَد، أي يُلقى بصوت مرتفع، وكان يعتمد على الإيقاع ونظام البيت والتشابه بين أواخر كلمات الأبيات. وإذا صحَّت أطروحة انحدار الشعر العربي من سجع الكهَّان(8)، فإن اعتماده الوزن والبحر والقافية يُثبت من جديد علاقته بالسحر. وهنا نلامس معتقداً كونياً في الأصل الخفي للموسيقى: فكلمة «charme»  الفرنسية، مثلاً، التي تعني «سحر»، تنحدر من الأصل اللاتيني «carmen»  الذي يعني «سجع»، وكلمة «incantation» (تعزيمة أو دعوة سحرية) مشتقّة من الجذر «cantare» الذي يعني أنشد أو غنَّى(9).
مما سبق، يمكن القول إن الشعر، وبالتالي سجع الكهَّان السابق للإسلام، كانا بمثابة طقس سحري شفهي يستمدَّان سلطتَيهما وسحرَيهما من أداتهما كلغة، وإيقاعَيهما وقافيتَيهما كموسيقى، وطريقة وسياق إلقائَيهما كإنشاد. لقد حرَّم الإسلام الغناء، واتخذ إزاء السحر موقفاً يتسم بالتعارض الوجداني، فأي موقف سيتخذه من الشعر ومن سجع الكهَّان؟
إن قراءة تعامل الإسلام مع الخطاب الأدبي قبله، كأحد أهم عناصر النظام الرمزي اللغوي، هذا النظام الذي يمكن تسميته بالأب السائد في ضوء هذه الدراسة، تُمكِّن من تبيُّن ثلاث فترات في هذا التعامل: فترة تعارُض وجداني، فترة خرق، ثم فترة تشريع قانون. من المستبعد العثور في التاريخ الإسلامي على إمكان فصل تاريخي بين هذه الفترات الثلاث. وبذلك فإن الفصل بينها لا يعدو مجرَّد استجابة لضرورة منهجية.
وباختصار، لقد تعامل الإسلام مع الخطاب الأدبي السابق له، في هذا المستوى، بين الرغبة في تنحية هذا الخطاب الجاهلي - قتل الأب، وبين الانصياع لسلطة هذا الخطاب، أي الاصطدام بالممنوع. هذا التعارض الوجداني وجد مخرجه في الخرق. وذلك سيتمُّ عبر مستويَين: مستوى المجتمع ومستوى الكتابة، وضمنها الشعر وسجع الكهَّان. في المجال الأول سيستبدل الإسلام القيم السائدة بقيم جديدة، أي محل الأب القديم سيُنصَّب الرسول كأب مثال على الناس. بموازاة ذلك، سيُحفظ النص القرآني ويُدوَّن، سيُبوَّأ مكانة النص الذي لا يُضاهيه شعر ولا نثر، وسيُعلن عن هويته كـ«جنس» خِطابي لا يتكرَّر ولا يُقلَّد: «قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله...» (10).
وإذا كانت كل محاولة لتقليد القرآن، واستبداله بنص «ديني» آخر، ستُقمَع بشدَّة عبر إتلاف هذه النصوص وقتل أصحابها (مثال مسلمة بن حبيب في المشرق، فإن الكتابة عامة، ستُطالب بالتماهي مع النص الديني بمكونَيه القرآن والحديث، وذلك إما بإعادة إنتاج قيمه وتمطيطها، وإما بالإسهام في فهم محتوى هذا النص وجماليته. يقول الحديث النبوي: «إن من الشعر لحكمة، فإذا التبس عليكم شيء من القرآن فالتمسوه في الشعر فإنه عربي» (11).
في إطار إعادة إنتاج قيم العقيدة سيُطالب الشعرُ بحصر دائرته في المديح النبوي والحكم والوعظ والإرشاد والزهد... إلخ. أما الإسهام في دراسة العقيدة، فسيضع الشعر في الأرشيف أو رفوف المكتبة قصد تسهيل الرجوع إليه أثناء تقعيد النحو والبلاغة ربّما حتى النقد. وبالتالي، استبعاد سجع الكهَّان من دائرة الاستشهاد من جهة، والعروبة من جهة أخرى.
التطبيق الصارم لهذا القانون سيجد مكانه الأنسب في الفقه والسياسة. لقد اتفقت المذاهب الفقهية الأربعة على تحريم إنشاد الشعر في المسجد إذا خالف الشرع، هذه المخالفة تتحدَّد عند الحنفيّة في الهجو والسخف أو وصف القدود والشعور والخصور، بشكل يترتَّب عليه ثوران شهوة المتلقّي، وعند الحنابلة والمالكية والشافعية في ما ليس بمدح للرسول أو ليس ثناء على الله، أو ليس بحَثٍّ على الخير، أو ليس بمواعظ وحكم(12). وكثيراً ما أقام الساسة الحدَّ على الشاعر بسبب خرقه بعض أحكام الإسلام، وإن على مستوى التخيُّل ليس إلا. والأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا المجال. لقد أُدخل سجع الكهَّان، كما نرى، في دائرة الظلّ، وأُخرج من كلّ ذكر يستحقّه، بوصفه أحد مراجع الحياة الجاهلية، وبقي الشعر مرجعاً من الدرجة الثانية، أي لتثبيت حكم قرآني، أو قاعدة نحوية، أو حكم بلاغي.
ومن الملاحظ أنّ الفقهاء ومؤرِّخي الأدب والنقّاد وكتّاب السير، لم يأتوا على ذكر سجع الكهان، إلا على هامش الحديث عن نثر الجاهلية، أو اتخاذه شاهداً على ضعف النصوص الدينية قبل الإسلام، وافتعالها وادّعاء أصحابها، أو من باب المقارنة بين النص القرآني وسجع الكهان، وتبيان سموّ الأول وانحطاط الثاني، أو تغييب هذا السجع نهائياً، وإسقاطه من دائرة الأدب الجاهلي، والتشكيك بنسبته إلى أصحابه... ولكن ما وصل منها، يمكن أن يقدّم لنا فكرة واضحة، عن هذا النثر الذي استبدّ في العصر الجاهلي، وكاد يسيطر على النظير المغيّب للشعر.
والوقوف على ما وصلنا من نصوص سجع الكهّان، يتوزّع، كما يبدو، على نموذجَين متمايزَين من النصوص:
نصّ ركيك؛ ضعيف على مستوى البنية أو اللغة أو المعنى أو الشكل أو في جميعها، لا اعتبار له إلا من ناحية تاريخية، أو بالأصح، موضعه في السياق التاريخي الذي نشأ فيه، فيُمكِّننا من الحكم عليه من جهة، وبالحكم على نقيضه من جهة أخرى.
ونصّ عالٍ يقدِّم أنموذجاً متميّزاً على مستويات مختلفة:
تاريخياً: حيث يقف النص شاهداً على عصر، حِيكتْ حوله عشرات الأساطير والأوهام.
دينياً: حيث تُمثِّل نصوص سجع الكهَّان نصوصاً دينية من المرتبة الأولى، كان الناس يتعاملون معها بكلّ قدسيّة.
أدبياً: حيث تكشف هذه النصوص عن بلاغة أسلوبية ولغوية عاليتَين، سوف نجدهما في ما بعد في القرآن والحديث.
نصّياً: حيث يُمثِّل سجع الكهَّان نصاً ممانعاً، ومنافساً أولياً، للنص القرآني في ما بعد، والذي جاء بديلاً كاملاً، ليس لسجع الكهَّان فحسب، بل للأدب الجاهلي كلّه، مع استثناءات بسيطة، نجدها هنا وهناك، تخضع للمعايير الأخلاقية الجديدة في الإسلام.
اجتماعياً: حيث تكشف أحياناً، عن حالة صراع اجتماعي، يأخذ شكلاً دينياً، أو اقتصادياً، وإقليمياً أحياناً.
ونجد في النوع الأول شكلاً عمل الإسلام على ترسيخه، وإظهاره على أنه الشكل الوحيد الذي عرفته الجاهلية من هذا السجع. ومن ذلك قول مسلمة: «يا ضفدع ابنة ضفدع نقّي ما تنقّين. أعلاكِ في الماء وأسفلكِ في الطين لا الشاربَ تمنعين ولا الماءَ تكدرين».
وقوله: «والليلِ الأطحم. والذئب الأدلم. والجذع الأزلم. ما انتهكت أسيد من محرم. والليل الدامس والذئب الهامس. ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس» (13).
إن مثل هذه الأسجاع لا تحمل بُعداً روحياً، أو دينياً، أخلاقياً، وقد أظهرتها كتب التاريخ الإسلامي، على أنها النماذج الوحيدة لمسلمة الذي لقَّبوه بالكذّاب، بينما نجد له نصوصاً تغافلتها كتب الفقهاء المسلمين ومن ذلك قوله: «إنا أعطيناك الجواهر. فصلِّ لربِّك وهاجر. إن مبغضك رجل فاجر».
وقوله: «إنا أعطيناك الكواثر. فصلِّ لربِّك وبادر. في الليالي الغوادر. واحذر أن تحرص أو تكاثر».
ولنقارن هذين النصَّين مع قول القرآن في «سورة الكوثر»: «إنَّا أعطيناك الكوثر. فَصَلِّ لربِّك وانحَرْ. إنَّ شَانِئَك هو الأبتر» (14).
من الثابت تاريخياً أن نصَّي مسلمة أسبق من نص السورة القرآنية المذكورة. ومن الواضح التطابق، ولا نقول التشابه، بينها وبين النصَّين المذكورَين: أسلوباً وتركيباً ومعنى، بل إنّ نص مسلمة الثاني يزيد في المعنى على النصّ القرآني.
ولننظر في قول مسلمة في ما سُمِّي بـ«سورة الشمس»:
«والشمس وضحاها. في ضوئها وجلاها. والليل إذا عداها. يطلبها ليغشاها. فأدركها حتى أتاها. وأطفأ نورها ومحاها» لنقارن هذا القول بـ«سورة الضحى» القرآنية: «والشمس وضحاها. والقمر إذا تلاها. والنهار إذا جلاها. والليلِ إذا يغشاها» (15). إن سورة مسلمة تكاد تكون الأصلَ لـ«سورة الضحى» بكل معطياتها. ومن جهة أخرى فإن سورة القرآن تتضمَّن خطأ فلكياً، هو أن القمر لا يتلو الشمس، فهو لا يأتي بعدها، كما يظهر للعيان. لقد وقع صاحب «سورة الضحى» في خدعة بصرية، فربط الشمس بالنهار، والقمر بالليل، مع العلم أن القمر قد يظهر في النهار.
لقد شكَّل مسلمة بن حبيب تهديداً واضحاً للإسلام، لذلك كانت الحملة ضدّه أقوى من أيِّ حملة شنَّها الإسلام على معارضيه في بداية الدعوة الإسلامية. وقد ادَّعى كثرٌ من فقهاء الإسلام أن مسلمة كان يقوم بتقليد القرآن. فإذا قبلنا جدلاً بهذا الكلام، فما الذي يمكن قوله مع عشرات النصوص الأخرى التي تُنسب إلى كهنة آخرين لا تختلف عن النصوص القرآنية على الإطلاق، تنبني على الأسلوب القرآني نفسه في الترغيب والترهيب والتذكير بكل ما ذكَّر به القرآن. ولذا اتُّهم الرسول عند إعلان دعوته بأنه كاهن أو ساحر أو شاعر، لقدرة هؤلاء على الإتيان بمثل نصوصه القرآنية. لقد عمد كتَّاب السيرة إلى استبعاد المحاورات الحقيقية التي دارت بين الرسول ومعارضيه الذين تطرَّقوا إلى ذكر الكثير من نصوص سجع الكهَّان التي عرفوها جيّداً في الجاهلية، وأبقى هؤلاء الكتَّاب على المحاورات المفتعلة بين قريش والرسول، في عجز العرب عن الإتيان بمثل ما جاء به.
لقد ادَّعى الكهَّان سابقاً، بأنهم يُوحى إليهم، وهذا ما فعله القرآن بالطريقة نفسها، لكن مع اختلاف بسيط؛ أن القرآن توسَّع كثيراً في فكرة الوحي، وتنوَّعت نصوصه وتعدَّدت مواضيعه، حتى كادت تشمل كل شيء في الحياة الجاهلية، أو الحياة الجديدة التي عرفها العصر الجاهلي، أو أن جزءاً كبيراً من القرآن - السور المكية خصوصاً - قد كتبه بعض كهَّان الجاهلية، ورقة بن نوفل مثلاً الذي كان أحد أشهر كهَّان الجاهلية، وعالماً تاريخياً ودينياً، وكان مجلسه الدائم في غار حراء الذي تردَّد إليه الرسول في فترة صباه، وتلقَّن على يدَيه هذه العلوم، وكان هذا المجلس بمثابة جامعة حقيقية في علوم الدين. وقد مات ورقة بن نوفل في ظروف غامضة واختفت أوراقه التي كان يكتبها على امتداد سنوات طويلة عاشها في هذا الغار.
إن المقارنة بين النصوص المكّية وبين سجع الكهَّان، سيقودنا مباشرة إلى وحدة الأسلوب والخطاب الأخلاقي والديني الذي طرحه كلّ منهما، بينما يكون الاختلاف الحقيقي في النصوص المدنيّة التي يضعف أسلوبها قياساً بالمكية، لما تحتويه من سرد ضعيف أحياناً، والأمثلة كثيرة في القرآن. وهذا أيضاً سيقودنا إلى الفكرة السابقة، وهي أن الخطاب القرآني في نصوصه المكّية، قد كُتب أو حُفظ في فترة سابقة للإسلام، لأنها لا تبتعد عن الجوّ المعرفي والروحي الذي قيلت فيه نصوص سجع الكهان:
فالخطاب الأخلاقي نفسه: التوحيد والترهيب والترغيب، العقاب والثواب، الحياة الدنيا والآخرة، والمحرَّمات والمحلَّلات. الإسلام غيَّب الكثير من النصوص التي اتَّخذ القرآن في ما بعد، أسلوبها  وصيغتها، وحلّ محلَّها، وإلى الأبد. بينما نجد أن كُتب الفقه والسيرة قد احتفلت بنصوص قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي من كهَّان الجاهلية، لسبب بسيط، أن نصوصهما اتخذت بُعداً أخلاقياً، أكثر منه روحياً.
والأسلوب اللغوي واحد في كلا الخطابَين (القرآن وسجع الكهَّان): السجع أولاً، والقسم بالنجوم والأمكنة والأزمنة وغيرها، والسؤال المنفي «ألمَ تر كيف فعل ربّك...»، الجُمل القصيرة المتتالية، التناظر المعنوي، القطع، الحوار المجتزأ، النهي... إلخ.
والكهَّان رأوا في أنفسهم شفعاء عند الله، وهم الوسيط الوحيد بين الخالق والمخلوق، أو بين الأرض والسماء. وقد اتَّخذت هذه الفكرة بُعداً آخر عند العرب، أي أنّ الأصنام حلَّت أحياناً محلّ الكهَّان في فكرة الشفاعة، وإذا وضعنا في الاعتبار أن تلك الأصنام كانت رموزاً للآلهة المعبودة في مختلف أنحاء الأرض (الشمس والقمر والزُّهرة: فكرة الآلهة الثلاثية... الآب والابن والروح القدس في المسيحية)، بينما جعل الرسول نفسه الشفيع الوحيد عند الله، وبالتالي ألغى كلّ الشفعاء والوسطاء الآخرين، ولعنهم، وحاربهم، وقضى عليهم أخيراً.
لقد عرف سجع الكهَّان كاهنات مشهورات لدى العرب، وكان لهنَّ دور فاعل في الأحداث يكاد يكون تبشيرياً ونبوياً، ونذكر منهنّ على سبيل المثال لا الحصر: الكاهنة زبراء، والكاهنة سجاح، وزرقاء اليمامة...  بينما ألغى الإسلام كلّ دور تبشيريّ للمرأة، بدءاً بمتابعة الطابع الذكوري النبوي على مرّ التاريخ، ومروراً بـ: إقصاء المرأة نهائياً عن الحكم والسياسة («ما أفلح قوم ولوا أمرهم لامرأة»)، رفض الإسلام فكرة استغلال المرأة واقعياً لكنه ربطها باستغلال كونيّ مقدّس، ترسيخ كلّ أفكار الخطيئة المتعلّقة بالمرأة تاريخياً: أسطورة آدم وحواء - الخطيئة، الحور العين، ترسيخ فكرة المحظيات والجواري بخطاب إلهيّ («وما ملكت أيمانكم...»، سورة النساء)، بعدما كانت عادة اجتماعية يمكن حلّها مع الزمن. وفي هذا إقصاء جسدي وروحي وإنساني.  الإسلام بهذا العمل ساعد على حلّ المشكلة آنياً، بما يتناسب مع عصر النبوّة، ولكن بسبب ارتباطها بالوحي جعل حلّها مستحيلاً مع الزمن.
ونذكر أخيراً في باب المقارنة مثلاً شديد الإيحاء والدلالة، وهو دعاء الحج عند الجاهليين (وهو من سجع الكهّان)، والمسلمين لاحقاً:
«لا همّ... لا همّ...» لبّيك اللهمّ لبّيك
لبَّيك يا ولي النعم لبَّيك
لا شريك لك لبَّيك
إن كان خيراً فهو منك ولك
إنّ الحمد والنعمة لك والملك
تملكنا ولا نملك
لا شريك لك لبَّيك
«فلا قضض ولا رمد
تقبل وربَّة الأثر».

إن الطقوس الدينية التي كانت تُمارس في الكعبة قبل الإسلام، تُصاحَب بالرقص والغناء. والغناء هنا كان يقوم على تلك الأسجاع التي احتواها الإسلام في ما بعد وضمّها إلى مخزونه الروحي، دون أن يعترف صراحة ببُعدها الوثني الأول، أو أنه قام بعملية إلغاء للأصل، وتثبيت «الأصل الجديد»! واعتبار الأصل الأول، على حدّ تعبير القرآن «مكاء وتصدية» بقوله: «وما كانت صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية» (16) أي: إلا غناء وصياحاً. ولنقارن بين الصلاتَين. إن الوقوف على كلا الدعائَين يُثبت الأصل وغناه اللغويّ والمعنويّ من جهة، ومن جهة أخرى يثبت بُعداً، عمل الإسلام بكلّ قوَّة على إلغائه، وهو البُعد الأنثوي - الشريك في هذا الدعاء. فربّة الأثر هي اللات (آلهة الشمس عند العرب). الإلغاء هنا جاء على مستوى اللغة، وبالتالي على مستوى الواقع، لما للغة من بُعد واقعي، لقد ألغى القرآن البُعد المجازي في الدعاء الأول، متغافلاً ثنائية العقل العربي آنذاك، وقد وشمه بالرؤية الذكورية الأحادية، فجاء الخطاب الإسلامي متخماً بالإنشاء دون المجاز.

دور البحث في إظهار الثقافة المغيّبة
أعلن الإسلام بداية تاريخ جديد، وهذا ما يستدعي محو كلّ تاريخ قديم، سيما المخالف منه، وكانت التوطئة الأولى في الداخل، موجّهة نحو المنافس الحقيقي فكرياً، سجع الكهَّان بكلّ رموزه، بينما بقي الشعر في منزلة بين المنزلتَين، ما خالف الشرع منه كُفِّر ولُعن، فأصبح امرؤ القيس حامل لواء الشعراء إلى جهنم، وأصبح الشعراء يتبعهم الغاوون وفي كلّ واد يهيمون... إلا من عمل صالحاً، أي من انطوى تحت لواء الإسلام. وفي حديث طريف عن ابن عباس أن الشيطان لما طُرد من الجنّة وأُنزل إلى الأرض سأل الله أن يجعل له قرآناً فأعطاه الشعر: «لما نزل إبليس إلى الأرض قال: يا رب أنزلتني وجعلتني رجيماً فاجعل لي بيتاً، قال: الحمّام، قال: فاجعل لي مجلساً، قال: الأسواق ومجامع الطرق، قال: فاجعل لي طعاماً، قال: ما لم يُذكر اسم الله عليه، قال: فاجعل لي شراباً، قال: كل مُسكر، قال: فاجعل لي مؤذناً، قال: المزامير، قال: فاجعل لي قرآناً، قال: الشعر وسجع الكهَّان، قال: فاجعل لي حديثاً، قال: الكذب، قال: فاجعل لي مصايد، قال: النساء» (17).
إن ما يهمّنا في هذا الحديث الطريف، ليس ما ذكره من محرَّمات، بل ما ذكره عن الشعر وسجع الكهَّان اللذين أصبحا قرآنَ الشيطان، واعتبار الأنثى من مصايد الشيطان، ومحوها إلى الأبد في الحضور الإنساني الفاعل. لقد أعادت الثقافة العربية تجديد نفسها في العصور اللاحقة لعصر الرسول، ولا سيما باحتفالها البالغ بالشعر والنثر المسجوع، الذي سيطر على النثر العربي عصوراً طويلة، وقدّم للمكتبة العربية كتباً لا يُستهان بها على الإطلاق، نذكر منها كتاباً مهماً في هذا المجال، وهو «الفصول والغايات» لأبي العلاء المعرّي، حيث اختلف المؤرّخون في تسميته، فمنهم من قال «الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ»، وهذا العنوان بعيد عن روح أبي العلاء الناقم على كلّ بُعد ديني مزيَّف، ومنهم من قال «الفصول والغايات في معارضة السور والآيات»، وهو الأقرب إلى روح أبي العلاء وروح الكتاب من جهة أخرى، فقد نحا المعرّي فيه منحى الكهَّان في الجاهلية تماماً... ونذكر مثالاً واحداً للتوضيح وهو:
«كم حيٍّ بلغ الدرك، وحَّد ربَّه أو أشرك، وجمع لنفسه فما أترك، وارتحل إلى الرمس فأرك. من بالشحّ أمرك، وعلى الدنيا أمرك، أخالقك الذي صوَّرك! كلا وعظمته لقد أنذرك، هتكت ستر التوبة فسترك، وجاهرت بالمعصية فأخَّرك، واستنصرت به فنصرك...» (18).
إن المتكوّن التاريخي، المتأسِّس في العمق الإسلامي، عمل على رفض الثنائية التي انوجد عليها الكون، وقامت عليها الحياة، فأبقى ما يتناسب مع بُعده الذكوري الأحادي، وأبعد ما تنافر أو خالف هذا البعد المؤسطر، الذي خُتم بوشم إلهي، وإلى الأبد.

الهوامش:
(1) ابن منظور، لسان العرب، مادة سجع، مادة كهن، مادة عرف، مادة حكم، مادة نبأ.
(2) الطبري، تاريخ الملوك والرسل، ج 2، ص 270 وما بعدها. هذه الأسجاع مأخوذة عن هذا الكتاب.
(3) الطبري، المرجع السابق.
(4) ابن كثير، البداية والنهاية ج 2، ص 220 وما بعدها.
ابن هشام، السيرة النبوية، ج 1، ص 200 وما بعدها.
السيد القمني، الحزب الهاشمي، فصل جذور الأيديولوجيا الحنفية.
الطبري، تاريخ الملوك والرسل، ج 2، ص 270 وما بعدها.
(5) ابن منظور، لسان العرب، مادة كهن.
(6) Sigmund Freud, Essais de psychanalyse, Payot, Paris, 1981, p 167 - 179, p 244 - 246.
(7) القزويني، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، تحقيق فاروق سعد، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1973، ص344 – 345.
(8)  Edmond Doutte, Magie et religion dans l’Afrique du nord, Alger, 1908, Maisonneuve Geuthner, Paris, 1984 - P 105.
(9) المرجع نفسه، ص 105 وما بعدها.
(10) القرآن، سورة الإسراء، الآية 17.
(11) ابن منظور، لسان العرب، مادة شعر.
(12) عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ، ص 289 - 290.
(13) الطبري، كتاب تاريخ الرسل والملوك، ج 2، ص 276. النصوص السجعية المنسوبة إلى مسلمة بن حبيب مأخوذة كلّها من هذا الكتاب.
(14) القرآن، سورة الكوثر.
(15) القرآن، سورة الضحى.
(16) ابن منظور، لسان العرب، مادة مكو.
(17) أبو حامد الغزالي، مكاشفة القلوب المقرب إلى حضرة علام الغيوب، تحقيق محمد رشيد القباني، دار إحياء العلوم، بيروت، 1987، ص 26 – 63. انظر أيضاً: القزويني، المرجع السابق، ص 388. انظر أيضاً: أحمد الثعلبي، قصص الأنبياء المُسمَّى «العرائس»، دار الرشاد الحديثة، بيروت، بدون تاريخ، ص 25.
(18) أبو العلاء المعرّي، الفصول والغابات، فصل غاياته ألف، ص 8.

«الغاوون»، العدد 35، 1 كانون الثاني