كان هناك وسط الصحراء المترامية الأطراف،يمتدّ واد فسيح يتفيأ ظلال جبلي أبي قبيس المشرف على الصفا و الجبل الأحمر(تاج العروس 1/ 234).و كانت تنتشر بين أشجاره و نخيله و فوق بطاحه، خيام بني بكر وخزاعة تحيط بالكعبة من كل جانب.و كانت مكة حينها تعيش على العفاف و الكفاف و القناعة و التودد إلى الناس،يحرثون و يغرسون و يأتيهم حجاج البيت و الزوار و التجار من كل فج عميق.و كانت الساسان و الرومان الشرقية و اليمن و الحبشة دولا متحضرة تعيش في سِلم و تناغم خصوصا بعد عقد معاهدة الصلح بين الساسان و الرومان و التي تقضي بوضع حالة الحرب لمدة 100عام ، و ذلك على عهد باهرام الرابع و تيودوس الثاني سنة 422م.و رغم ما حصل بين الاثنين من مناوشات و حروب و مصادمات إلا أنها كانت لا تخرج عن إطار الاحتياطات و الحذر و التنافس على مواقع النفوذ و توسيع المجال الحيوي لكل إمبراطورية على حدة.كانت الإمبراطوريات الثلاث تعيش حركة دينية محمومة و غير مسبوقة،حيث كانت تتصارع في اليمن و الحبشة و الشام اليهوديةُ و المسيحيةُ ، أما بفارس فكان طيف طويل من الأديان(المسيحية و اليهودية و المندائية و المانوية و المازدكية و النسطورية..) يتصارع تحت مظلة الزرادشتية (المجوسية) الديانة الرسمية للساسانيين. و مما تجدر الإشارة إليه هو أن ديانات الإمبراطوريات الثلاث كانت ثلاثُها ديانات موحدة.فبخلاف ما يذهب إليه جمهور الإخباريين و أهل السير العرب من أن المجوسية ديانة و ثنية أو ثنيوية ،فإن هذه الأخيرة في حقيقتها تعتبر أول ديانة موحدة تأله إله واحدا يوجد في السماوات العلا ،اسمه أهورا مازدا، و تؤمن بمبدإ صراع الخير و الشر فتجسد الخير في الروح القدس الذي هو ابن اإله أهورا مازدا و
تجسد الشر في شخص بهلوي أهريمان الروح الغير مخلوق.(أنظر ويكيبيديا/ الزرادشتية/اللغة الفرنسية).و كان أردشير الأول قد اتخذ الزرادشتية ديانة رسمية للإمبراطورية الساسانية منذ سنة 224م.فالساسان إذن لم يكونوا وثنيين و لا عبدة نار بل كانوا مثلهم مثل اليهود و المسيحيين موحدون، يؤمنون بإله واحد أحد.و كانوا مثل دولة بيزنطة،دولة دينية شعارها " الدين و الدولة أختان،لاتقوم إحداهما إلا بالأخرى" ( من خظبة أردشير لابنه و هو يعظه ـ نفس المصدر)
في هذا القرن كان العرب المتاخمون للساسان و الرومان الشرقية ممالك تسبح في فضاء نفوذ الإمبراطورتين.فكانت الحيرة و البتراء و النبط و الأنبار وبنو غسان دويلات عربية متنافرة فيما بينها، مؤتمرة بأوامر خارجة عنها و تحارب في مصالح بعيدة عنها..و كانت مواطنها تشكل حواجز مانعة ضد كل الهجمات ، سواء من طرف الإمبراطوريات فيما بينها أو من طرف بدو الصحراء و الذين كانوا يغيرون على عرب التخوم و على أراضي الإميراطوريتين،من حين لآخر. و في الجنوب كان اليمن السعيد بممالكه من معين و سبأ و كندة و حمير و حضر موت،تلك الممالك المتفتحة على المحيط الهندي و القرن الإفريقي جنوبا ، و على بحر عمان و بحر العرب و خليج فارس شرقا،و التي كان مجالها الحيوي يمتد إلى دارالسلامبتنزانيا، و يضم عددا كبيرا من الجزر الغنية بثرواتها المتنوعة مثل سقطرى و زانجبار..فكانت تجارة اليمن و الحبشة مع الرومان تتخذ مسارات مختلفة منها البحرية عبر البحرين الأبيض المتوسط و الأحمر و منها البرية التي تخترق شبه جزيرة العرب من اليمن نحو خليج العقبة و بلاد الشام ،وكذلك التي تخترق صحراء الصعيد بمصر فتربط الحبشة بالبحر الأبيض المتوسط.
كانت عقارب الساعة تدور وئيدة و كانت الأمور تمر هادئة.و كان تجار اليمن تمخر قوافلهم عباب الصحراء باطمئنان،فاتخذوا لها مراسي و مرابط و منتجعات و محطات للراحة ، فكانت منها عسير و نجران و الطائف و مكة و يثرب و البتراء.و كانت مكة أشهر هذه المحطات لِما سوف نذكره لها من الميزات و الخصائص التي جعلتها تتربع على عرش التجارة الصحراوية.
و في سنة 431م ستعيش كنيسة القسطنطينية تصدعا عميقا و شرخا مميتا ما أدى إلى عقد مؤتمر أفسس الذي أدان المذهب النسطوري الناشئ آنئذ على يد أسقف القسطنطينية نبسطوريوس ،و الذي يعتبر المسيح يتكون من جوهرين (أو طبيعتين) متصلين غير متحدين،جوهر إلهي هو الكلمة أو الروح القدس و جوهر بشري هو طبيعة المسيح ، كما يعتير مريم أم المسيح و ليست أم الإله أو الرب.و قد حكم مجمع أفسس بنفي الأسقف نيسطور إلى أنطاكية و منها إلى جنوب مصر حيث توقي سنة 451م، كما اتهم المذهبَ النسطوري بالضلال و الكفر، و النساطرة بالمروق و الردة.فكانت الحروب المقدسة التطهيرية ضد النساطرة في العربية السعيدة و الشام و الأردن و مصر.و لما كانت المسيحية هي أخطر ديانة منافسة للزرادشتية في إمبراطورية الساسان، حيث أن أول كنيسة مسيحية فارسية قد أعلن عن إنشائها في مؤتمر شوش إحدى مدن خوزستان منذ مطلع القرن الخامس للميلاد، فإن الإمبراطور فيروز الأول (459 ـ 484) سيشجع المذهب النسطوري و يحتضنه ، فيفتحَ أمامه حدود بلاده ليجد فيها النساطرة مرتعا حرا لنمو مذهبهم و تطويره.
هكذا ما أن حل النصف الثاني من القرن الخامس حتى أصبحت الحروب تستعربين الإمبراطوريتين من جهة، و بينهما و بين الدويلات العربية من جهة ثانية.و حروب من جهة ثالثة تنشب بين الدويلات العربية فيما بين بعضها البعض، و فيما بينها و بين القبائل العربية البدوية المتاخمة لها ، و حروب أخرى تنشب بين هذه القبائل فيما بينها.هكذا اشتعلت الجبهة الشمالية لشبه الجزيرة العربية، و ما فتئ فتيل هذه الحروب أن وصل لهيبه إلى أرض اليمن في مطلع القرن السادس إثر التدخل الحبشي بأمر من إمبراطور الرومان الشرقية. فأضحت الأمور تتدهور على ضفتي جزيرة العرب التي كانت آنذاك صحاري مترامية شبه فارغة إلا من بعض القبائل اليمنية الفقيرة التي كانت تعيش على خدمة القوافل التجارية و التي هاجرت بفعل النكبات الطبيعية كخرابات سد مأرب والزلازل و البراكين أو بفعل الحروب و الأمراض و الجفاف؛ و كذلك من فلول المضطهدين سياسيا و دينيا من العراق و الشام من يهود فلسطين و بابل و آشور.كل هؤلاء و أولئك كانوا يجوبون مناطق نجد و تهامة و الحجاز بحثا عن مآوي يأمنون فيها على حياتهم من غارات المغيرين و تسلط الرومان و الحبشة و الساسانيين.
لما تعطلت الطرق التجارية البحرية بفعل الحروب و هيمنة الساسان على الخليج الفارسي و بفعل ضعف تجهيزات الأسطول البحري البيزنطي الذي لم يقو على التغلب على وعورة المسالك البحرية للبحر الأحمر أصبحت قوافل التجارة التي تقطع الصحراء من اليمن نحو بلاد الشام و العراق و فارس ، ومن السواحل الجنوبية للبحر الأحمر نحو الشام و نحو عمان و البحرين و بلاد ما بين النهرين تكثر أعدادها و تتزايد و تكبر أحجامها و تتعاظم و تتنوع سلعها و تختلف. فأصبحت الجزيرة نهاية القرن الخامس يما مهولا تمخر تلاله المتراطمة سفن الإبل المحملة بكل أنواع التجارات من خشب الأبنوس و العاج إلى الأحجار الكريمة و التبر و القرنفل إلى تجارة الطاقة العضلية المتمثلة في الرقيق و العبيد. فأصبحت هذه الصحراء القاحلة الوعرة المنعزلة مثار اهتمام كل مغامر و مخاطر وكل باحث عن مجد تليد أو كسب عتيد، و كل ذي مهارة أو فن وكل ذي صنعة أو حرفة ، بعدما كانت لا يلجأ إليها إلا المضطر و المضطهد و المتابع الفار من العدالة و الخليع الصعلوك الذي تبرأت منه قبيلته و عشيرته.فكان من هؤلاء و أولئك الأعراب الذين تلفظهم قبائلهم و عشائرهم و العرب أبناء ممالك التخوم و اليونانيون الذين يأتون بمهاراتهم الحربية و العلمية و منهم أهل بيزنطة و الرومان أصحاب الصناعات و التجارات و أرباب رؤوس الأموال و منهم اليمنيون الحرفيون و منهم الساسانيون و المصريون.لقد أصبحت الجزيرة في مطلع القرن السادس قبلة العالم المعروف بدون منازع ، و أضحت رمالها تعج بالوافدين الصالحين منهم و الطالحين من كل الأجناس و النحل و الملل،لا يجمع بينهم إلا قاسم المغامرة و البحث عن الاغتناء السريع و اغتنام فرص تحقيق الذات الغير متوفرة في أوطانهم الأصلية.مغامرون و مستكشفون ، ضباط و عسكريون ، لصوص و مجرمون صعاليك خلطاء و خلعاء و ذؤبان ، مساكين و فقراء و تجار و حرفيون،قراء و كتاب و أساتذة و معلمون ،دعاة و أنبياء و مبشرون ،صيارفة و رجال أعمال كلهم خانتهم فرص العيش الرغيد في أوطانهم الأصلية فقصدوا فرادى و زرافات هذه الأقاصي الجرداء عساهم يحصلون على مغنم تائه أو فرصة شاردة تغنيهم طول العمر. و مما زاد من إقبالهم على هذه المناطق سمعة مكة و يثرب التي ملأت الآفاق و تناقلت الألسن كرمهما و جودهما و قراهما للضيف و إسعافهما للمحتاج و إجارتهما للمغضوب عليه و حمايتهما للفار من العدالة و حبهما للصعاليك و الشداد و الذؤبان.
و حدث ذات يوم من أيام مطلع القرن الخامس أن استقبلت مكة من ضمن من استقبلت رجلا يدّعي أنه من ظواهر مكة يلقب قُصيا . و أنه من ولد كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي جاء مكة من تخوم الشام و بالضبط "من قبيلة بني عذرة النصرانية على مقربة من تبوك و التي
هي فرع من فروع الغساسنة عملاء الروم "(تاريخ الطبري 5/255 ، السيرة الحلبية1/11ـ12)، و ذلك لأن كلابا لما مات و قصي فطيم، تزوجت أمه "فاطمة بنت سعد بن سيل من ربيعة بن حرام "(الطبقات الكبرى ج1، باب ذكر قصي ـالبداية و النهاية ج2 باب خبر قصي و ارتجاعه ولاية البيت) فحملته معها إلى قبيلة زوجها حيث ولدت لربيعة رزاحا.و لما شب و ترعرع قصي هناك ،"وقع بينه و بين آل ربيعة شرّ.فقيل له ألا تلحق بقومك؟ و عُيّر بالغربة و كان لا يعرف لنفسه أبا غير ربيعة (سبيل الهدى و الرشاد في سيرة خير العباد، الإمام محمد يوسف الصالحي الشامي ج1/321، 325) .
هذا الوافد الغريب هو من سيكون محور حلقتنا المقبلة من مملكة الصعاليك ، و دمتم على محبة و ودّ
أبو قثم