الإسلام منظومة سياسية لا
يمكن إصلاحها 1-2
المسيحية سبقت الإسلام بحوالي ستمائة عام تقريباً. ورغم أن المسيحية بدأت كمنظومة دينية متسامحة مع نفسها ومع الغير، ولم تتطرق إلى السياسة أو الحكم في تشريعاتها بخلاف "اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، نجد أن البابوات وكهنوت الكنيسة الكاثوليكية استطاعوا أن يسيطروا على السياسة في أوربا من وراء الكواليس وجعلوا الملوك والأمراء واجهةً لحكمهم. واستمر هذا الوضع حتى جاء عصر التنوير في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فتلاشت سلطة الكنيسة السياسية. ومما ساعد على تقلص سلطة الكنيسة هو وجود منظومة تركز السلطة الدينية في شخص البابا الذي يخضع لكلمته كل الأشخاص الكاثوليك بما فيهم الكهنوت. ومما لا شك فيه أن كل الأديان تدخلت في السياسة لتضمن عائداً مادياً مريحاً لرجال الكهنوت.
أنبياء بني إسرائيل على كثرتهم كان لهم دور سياسي واضح، كما يقول البروفسور السوداني محمد محمود، أستاذ علم الأديان المقارنة، في كتابه ’نبوة محمد، التاريخ والصناعة‘ : "ويظهر دورهم [أنبياء إسرائيل] السياسي بجلاء في علاقتهم الوثيقة بالبلاط ومشاركتهم في إلهاب الشعور القومي. هؤلاء الأنبياء كانوا أنبياء "شعبيين" وينتمون لطور النبوة السابق على النبوة الكلاسيكية." (ص 14).
بالنسبة للإسلام، فإن محمداً ترعرع في بيئة يعبد أغلب أهلها الأصنام كوسيلة لتقريبهم إلى الله، وقد كانت بيئتهم تعرف التوحيد، والصلاة، والصيام والزكاة من اليهودية والمسيحية والأحناف، وعرفت الحج من ماضيها الوثني. وبالتالي لم يكن هناك أي جديد يستطيع محمد أن يأتي به ليقنع الوثنيين أنه جاءهم برسالة دينية جديدة. فكانت رسالته منذ البداية رسالة سياسية أراد بها أن يسيطر على العرب والعجم. ويظهر هذا جلياً في المقولة المنسوبة له عندما اجتمع مع أعيان مكة في بيت عمه أبي طالب، قال وقتها مخاطباً عمه أبا طالب: "أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم." (جامع البيان في تأويل القرآن، للإمام القرطبي، جزء 23، سورة ص). فإذاً رسالته كانت للسيطرة على العرب والعجم وليست لأغراض دينية. الدين هنا كان عبارة عن الوسيلة التي يصل بها إلى هدفه
ولأن الرسالة كانت سياسية منذ البدء، نجد أن محمداً قد دخل في معاهدات عديدة مع القبائل العربية المختلفة ليحيّد بعضها وليثير العداوات بين بعض القبائل مما يصب في مصلحته هو. وبدأ غزواته التي قطعت الطريق وقننت للسلب والنهب والسبي. ثم أبرّم معاهدات مع يهود المدينة ليضمن عدم مساعدتهم القبائل العربية ضده، ولكنه كان طوال الوقت يفكر في أعذار تسمح له بنقض تلك المعاهدات عندما تكون الظروف في صالحه، حتى يتمكن من وضع يده على أموالهم، كما فعل مع يهود بني قريظة وبني قينقاع
ولأن الرسالة كانت سياسية في المقام الأول، جاءت تشريعاتها الدينية متناقضة ومتخبطة وفيها تكريس للعادات الجاهلية من زواج وطلاق وعِدة وغيرها. وكرست كذلك اضطهاد المرأة والعبيد والإماء، مما يجعلنا متيقنين أن مثل هذه التشريعات لا يمكن أن تصدر من إله في السماء خلق هذا الكون. فتفكير محمد كان منصباً في إقامة دولة المدينة وإيجاد المال اللازم لاستمراريتها
فبداية الإسلام، كما يعلم الجميع، بداية ضبابية جُمع قرآنها بعد موت نبيهم بعشرات السنين، ولغتها الكتابية كانت في طور التكوين مما جعل القرآن المكتوب بها قابلاً للتأويل والتغيير، وكانت روح البداوة هي المسيطرة على أتباع الرسالة الجديدة حتى جاء الخليفة العباسي المأمون وتبنى منظومة المعتزلة وأقام بيت الحكمة لترجمة التراث الهليني من فلسفة وعلم الكلام والعلوم الطبيعية إلى اللغة العربية.
ولكن لسوء حظ أمة الإسلام، التي يفترض أن تكون خير أمةٍ أُخرجت للناس، ظهر عرابون في تلك الأمة قبل وبعد موت المأمون بقليل. وكلمة عرّاب تعني الشخص الذي يعمل العَرْبَات، واحدتها عَرَابة، وهي شمل ضروع الغنم، أي لف شريط رفيع حول حلماتها، لمنع البهم من الرضاع (لسان العرب لابن منظور). كان هدف هؤلاء العرابين هو حرمان الأمة من رضاعة ذلك الثدي الهليني الذي يدر العلم والمعرفة. ولما كانت الأمة الإسلامية في بداية تكوينها ويسيطر عليها الجهل والأمية، فقد وجد هؤلاء العرابون رحماً دافئاً احتضنهم حتى نموا وترعرعوا ومن ثم أحكموا خناقهم حول عنق أمة إقرأ، التي لا تقرأ
أبوالحسن الأشعري (ت 941م) كان أول وأشهر هؤلاء العرابين، إذ أن الرجل كان معتزلياً يؤمن بالعقل والمنطق والفلسفة وعلم الكلام، حتى بلغ الأربعين من عمره، ثم رأى محمداً في حُلمٍ وطلب منه محمد أن يدافع عن أحاديثه وسنته، فانقلب الرجل وأشهر العداء للمعتزلة. وفي دفاعه عن الأحاديث والسنة تخلى الأشعري عن العقل واتخذ موقفاً معاكساً للمعتزلة في كل شيئ لدرجة أنه قال بالتجسيم ودافع عن أن لله أيدي وأرجلاُ وجسماً، وانه يجلس على العرش. ولما وجد صعوبة في شرح كيف يمكن أن يجلس الله على العرش والقرآن يقول (وسع كرسيه السموات والأرض)، قال إنه يجب على المسلم أن يؤمن أن الله يجلس على العرش بدون السؤال عن "كيف" (Karen Armstrong, A History of God, p 195).
وذهب الأشعري إلى أن كل عمل يقوم به الإنسان، أو أي ظاهرة طبيعية نراها لا تصدر من الطبيعة أو الإنسان إنما هي إرادة الله. وذهب الأشعري إلى أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف الخير من الشر بدون أن يخبره الله عن طريق الوحي الذي يأتي للأنبياء والرسل. وفي محاولته الإجابة عن سؤال أرسطو: هل الآلهة تحب الأشياء الخيرة لأنها خيرة، أم أن الأشياء أصبحت خيرة لأن الآلهة أحبتها؟ يقول الأشعري إن الله لا يفرض علينا عمل أي شيء لأنه خيّر، وإنما يصبح الشيء خيّراً لأن الله أمر به. وكمثال على ذلك يقول "إن الكذب شر لأن الله حرّمه، ولكن لو حلله الله فسوف يصبح الكذب خيّراً. (Robert Reilly, The Closing of the Muslim Mind, p 70)
ولأن المعتزلة قالوا إن الله خيّرٌ ولا يقدّر إلا الخير لمخلوقاته، رد عليهم الأشعري بالمثال المشهور عن الإخوان الثلاثة: أكبرهم كان شريراً ولما مات أدخله الله النار، والثاني كان خيراً ولما مات أدخله الله الجنة. والثالث مات في طفولته قبل سن التكليف، فأنتهى في البرزخ بين الجنة والنار. وسأل الأشعري: لماذا لم يطل الله عمر الطفل حتى يعمل صالحاً عندما يكبر فيدخل الجنة، لأن الله لا يفعل إلا الخير لمخلوقاته؟ فكان رد الحاضرين أن الله لم يطل عمره لأنه علم أنه لن يفعل خيراً لو كبر. وهنا سأل الأشعري: لماذا أطال الله عمر الأخ الأكبر حتى يرتكب كل المعاصي ويدخله النار؟ لماذا لم يمته وهو صغير عندما علم أنه سيرتكب المعاصي؟ وبهذه الحجة أقنع الأشعري الناس بأن الله ليس ملزماً أن يقدر الخير لمخلوقاته، وأنه يفعل ما يريد لأنه لا يُسأل عما يفعل؟ وللأسف فقد سيطر الفكر الأشعري على الساحة الإسلامية وأقصى الفكر المعتزلي العقلاني.
أما أخطر العرابين وأكثرهم ضرراً للأمة الإسلامية هو بلا شك أبو حامد الغزالي (ت 1111م). ولد الغزالي في خراسان عام 1058م ودرس علم الكلام تحت أستاذه أبو المعالي الجويني الذي كان قطباً من أقطاب الأشعرية. وفي سن ثلاثة وثلاثين أصبح الغزالي معلماً بالمدرسة النظامية ببغداد، وكانت مهمته الدفاع عن المذاهب السنية في وجه المذاهب الشيعية. وقد درس الفلسفة ثم انقلب عليها وهاجم الفلاسفة وقتل الفلسفة في كتابه – تهافت الفلاسفة – ثم أصابته حالة نفسية كادت أن تودي بحياته، نتيجة تفاعلات ما يمليه عليه عقله الفلسفي وما ينطق به من عقله الأشعري. وبسبب هذه الحالة النفسية لم يتمكن من البلع أو الكلام لعدة أسابيع. وأخيراً هداه الله، كما يقول، إلى التصوف فساح في الأرض مع المتصوفين وسكن في دمشق وفلسطين وفارس، قبل أن يرجع إلى بغداد. وأخطر ما ذهب إليه الغزالي أنه نفى السببية، وقال إنه لا توجد علاقة أو سببية بين النار وحريق القطن الذي يوضع على النار لأن الله هو الذي جعل النار تلمس القطن ويغير لون القطن إلى الأسود، ثم يجعله رماداً بواسطة الملائكة أو بدون واسطة. وبإمكان الله أن يفعل غير ذلك ويجعل النار تمس القطن دون أن تحرقه. ثم ما هو الدليل أن النار هي التي تحرق الأشياء؟ الفلاسفة لا يملكون أي دليل على ذلك غير ملاحظة تغيير لون القطن عندما تمسه النار. ولكن الملاحظات تبرهن فقط توأمة الأشياء مع بعضها البعض ولا تثبت السببية. فليس هناك أي سبب غير الله. ويقول كذلك ما معناه: الربط بين ما يعتقد البعض أنه السبب، وبين ما يعتقدون أنه النتيجة، ليس ضرورياً في رأينا. فليس هناك أي علاقة بين إطفاء الظمأ وشرب الماء، أو بين الشعور بالشبع وأكل الطعام، أو بين شروق الشمس وسطوع الضياء، أو بين قطع الرأس والموت. العلاقة الظاهرة بين هذه الأشياء ناتجة عن إرادة الله المسبقة التي خلقت هذه الأشياء ملتصقة ببعضها، ولكن هذا لا يعني أنها لا يمكن فصلها عن بعض، فبإمكان الله أن يخلق في الإنسان الشعور بالشبع دون أن يأكل طعاماً، أو يستمر الإنسان في الحياة بعد أن يُقطع رأسه. (نفس المصدر أعلاه، ص 63). ويستمر الغزالي فيقول إنه ليس من الضروري أن يُخلق الحصان من الحيوان المنوي، ولا الشجرة من الحبة. يمكن أن يُخلق الحصان والشجرة من لا شيء.
لأن العقل يحفّزنا إلى أن نسأل ونكتشف الأشياء غير الملموسة، اعتبره الغزالي عدو الإسلام الأول لأن الإسلام يطلب من المسلم الرضوخ الكامل والامتثال لأوامر الله بدون أي تفكير في الأسباب. وبسبب شهرة الغزالي وتعاليم الأشعرية، وصل الجمود الفكري إلى الأندلس. فنجد مفكراً ظاهرياً مثل أحمد بن حزم يرفض القياس لأنه يعتمد على العقل، ويقول "لا شيء خيّر في ذاته ولكن الله جعله خيراَ، ولا شيء شرٌ في ذاته ولكن الله جعله شراً. فالعمل الذي نعتبره خيّراً قد يصبح شراً إذا أراد الله له ذلك، والعكس صحيح." ويستمر ابن حزم فيقول "فإذا أخبرنا الله تعالى بأنه سوف يعاقبنا بأفعال غيرنا، أو بسبب طاعتنا له، فإن ذلك يصبح عدلاً من الله وعلينا القبول به." ويقول الفخري الرازي (ت 1209) من أتباع المدرسة الأشعرية "إنه من المقبول في معتقدنا أن الله تعالى يمكنه أن يُدخل المذنبين إلى الجنة والمحسنين إلى النار، لأن ملكية القرار له وحده ولا يستطيع أحد أن يمنعه." ويظهر جلياً من
والسبب في أن الغزالي والأشعرية عموماً رفضوا فكرة السببية هو شعورهم أنه لو كانت المسببات تؤدي إلى النتائج المعروفة، يصبح فعل الله ناتجاً عن ضرورة وليس عن إرادة حرة يمكنها تغيير النتيجة في كل مرة يريد الله ذلك. وبسبب هذه الآراء، وبمساعدة أستاذه أبي المعالي الجويني الذي كان علماً من أعلام الأشعرية، وتعاليم الإمام أحمد بن حنبل الذي كان يعتقد أن علم الكلام مضر بالدين لأن الله قد تكلم مع الإنسان عن طريق الوحي وبالتالي ليس الإنسان في حاجة لأن يفكر بطريقة جدية، وأن الوحي حل محل العقل، وأن العلماء لا يعترفون بالقياس ولا بالرأي لأن كلاهما لا قيمة له، تربعت المدرسة الأشعرية على مسرح الأحداث في أمة الإسلام وغاب العقل نهائياً. (نفس المصدر أعلاه، ص 47). وكذلك ساعدته أفكار الإمام الشافي ذي الميول الأشعرية، الذي قال: "حديثٌ ضعيف أفضل من القياس." بفضل هذه الآراء أصبح الغزالي أشهر من علمٍ في رأسه نارٌ وحاز على لقب "حُجة الإسلام".
وقد تخلى الغزالي عن عقله تماماً عندما تحدث عن الحج وقال إنّ ما يقوم به الحاج من ركض بين الصفا والمروة، وبقية الطقوس، لا يقبلها العقل ولا يستسيغها، ولكن القيام بها يُثبت عبودية الفرد لله: " ولذلك وظف عليهم فيها أعمالا لا تأنس بها النفوس ولا تهتدي إلى معانيها العقول كرمي الجمار بالأحجار والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية فإن الزكاة إرفاق ووجهها مفهوم وللعقل إليه ميل والصوم كسر للشهوة التي هي آلة عدو الله وتفرغ للعبادة بالكف عن الشواغل والركوع والسجود في الصلاة تواضع لله عز وجل بأفعال هي هيئة التواضع وللنفوس أنس بتعظيم الله عز وجل فأما ترددات السعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال فلا حظ للنفوس ولا أنس فيها ولا اهتداء للعقل إلى معانيها فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الإتباع فقط وفيه عزل للعقل عن تصرفه وصرف النفس والطبع عن محل أنسه فإن كل ما أدرك العقل معناه مال الطبع إليه ميلا ما فيكون ذلك الميل معينا للأمر وباعثا معه على الفعل فلا يكاد يظهر به كمال الرق والانقياد." (إحياء علوم الدين، ربع العبادات، الجزء 7، ص 19)؟ رحم العقل أمة الإسلام التي تقتدي بأمثال الغزالي.
وهناك عرابون آخرون ساعدوا على انتشار الفكر الأشعري والتعتيم على العقل المسلم، من أمثال ابن تيمية، وأبي الأعلى المودودي، ومحمد بن عبد الوهاب، وبعض "علماء" الأزهر السابقين والمعاصرين. فمثلاً نجد الشيخ أحمد بن نجيب المصري، شافعي المذهب، يقول في كتابه – عمدة السالك وعدة الناسك – ما معناه: علوم الماديين تعتمد في المقام الأول على اعتقاد الماديين أن الأشياء في ذاتها تحتوي على مسببات غير الله. الذين يعتقدون ذلك قد خرجوا من ملة الإسلام.
لقد كان صلاح الدين الأيوبي وكبير قضاته، صدر الدين بن عيسى الدرباس، السبب الرئيسي في انتشار المدرسة الأشعرية في مصر. فقد حفظ صلاح الدين الأيوبي عن ظهر قلب ما كتبه قطب الدين أبوالمعالي مسعود النيسابوري، من أقطاب المدرسة الأشعرية، وحفّظه صلاح الدين لأبنائه وبقية أفراد الأسرة الأيوبية (The Closing of the Muslim Mind, p 9). انتشار المذهب الأشعري أدى إلى إغلاق العقل المسلم ومنع الاجتهاد منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وكنتيجة لهذا الموقف نجد أن البلاد الإسلامية سيطر على مناهج تعليمها "علماء" الأمة الذين خرّبوا التعليم وخرّجوا لنا علماء شريعة لا يقدمون للمجتمع أي خدمات. ويُظهر تقرير انتجته جامعة ماليزيا الإسلامية أن البلاد الإسلامية بها في المتوسط 8.5 مهندسين وفنيين في كل 1000 مواطن، بينما بقية دول العالم بها في المتوسط 40.7. وإذا نظرنا إلى المنشورات العلمية في تلك البلاد نجد أن كوريا الجنوبية تنتج 144 دراسة علمية في كل مليون من سكانها، بينما تنتج البلاد العربية 26 دراسة فقط عن كل مليون شخص (نفس المصدر أعلاه، ص 162). أما عن حقوق الإنسان والديمقراطية التي يعتبرها أغلب "علماء" الأمة كفراً، فحدث ولا حرج. وقد انشغل "علماء الأمة بتوافه الأمور مثل حساب درجة حرارة نار جهنم، أو تحديد المواد الكيمائية في أجسام الشياطين.
فهل هناك أي أمل في إصلاح هذا الدين السياسي الذي دمر حياة الملايين من البشر فعلياً عن طريق الذبح والتفجيرات، أو عن طريق إلغاء عقولهم؟ هناك من بعتقد ذلك ولكني أقول بغير ذلك
المسيحية سبقت الإسلام بحوالي ستمائة عام تقريباً. ورغم أن المسيحية بدأت كمنظومة دينية متسامحة مع نفسها ومع الغير، ولم تتطرق إلى السياسة أو الحكم في تشريعاتها بخلاف "اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، نجد أن البابوات وكهنوت الكنيسة الكاثوليكية استطاعوا أن يسيطروا على السياسة في أوربا من وراء الكواليس وجعلوا الملوك والأمراء واجهةً لحكمهم. واستمر هذا الوضع حتى جاء عصر التنوير في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فتلاشت سلطة الكنيسة السياسية. ومما ساعد على تقلص سلطة الكنيسة هو وجود منظومة تركز السلطة الدينية في شخص البابا الذي يخضع لكلمته كل الأشخاص الكاثوليك بما فيهم الكهنوت. ومما لا شك فيه أن كل الأديان تدخلت في السياسة لتضمن عائداً مادياً مريحاً لرجال الكهنوت.
أنبياء بني إسرائيل على كثرتهم كان لهم دور سياسي واضح، كما يقول البروفسور السوداني محمد محمود، أستاذ علم الأديان المقارنة، في كتابه ’نبوة محمد، التاريخ والصناعة‘ : "ويظهر دورهم [أنبياء إسرائيل] السياسي بجلاء في علاقتهم الوثيقة بالبلاط ومشاركتهم في إلهاب الشعور القومي. هؤلاء الأنبياء كانوا أنبياء "شعبيين" وينتمون لطور النبوة السابق على النبوة الكلاسيكية." (ص 14).
بالنسبة للإسلام، فإن محمداً ترعرع في بيئة يعبد أغلب أهلها الأصنام كوسيلة لتقريبهم إلى الله، وقد كانت بيئتهم تعرف التوحيد، والصلاة، والصيام والزكاة من اليهودية والمسيحية والأحناف، وعرفت الحج من ماضيها الوثني. وبالتالي لم يكن هناك أي جديد يستطيع محمد أن يأتي به ليقنع الوثنيين أنه جاءهم برسالة دينية جديدة. فكانت رسالته منذ البداية رسالة سياسية أراد بها أن يسيطر على العرب والعجم. ويظهر هذا جلياً في المقولة المنسوبة له عندما اجتمع مع أعيان مكة في بيت عمه أبي طالب، قال وقتها مخاطباً عمه أبا طالب: "أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم." (جامع البيان في تأويل القرآن، للإمام القرطبي، جزء 23، سورة ص). فإذاً رسالته كانت للسيطرة على العرب والعجم وليست لأغراض دينية. الدين هنا كان عبارة عن الوسيلة التي يصل بها إلى هدفه
ولأن الرسالة كانت سياسية منذ البدء، نجد أن محمداً قد دخل في معاهدات عديدة مع القبائل العربية المختلفة ليحيّد بعضها وليثير العداوات بين بعض القبائل مما يصب في مصلحته هو. وبدأ غزواته التي قطعت الطريق وقننت للسلب والنهب والسبي. ثم أبرّم معاهدات مع يهود المدينة ليضمن عدم مساعدتهم القبائل العربية ضده، ولكنه كان طوال الوقت يفكر في أعذار تسمح له بنقض تلك المعاهدات عندما تكون الظروف في صالحه، حتى يتمكن من وضع يده على أموالهم، كما فعل مع يهود بني قريظة وبني قينقاع
ولأن الرسالة كانت سياسية في المقام الأول، جاءت تشريعاتها الدينية متناقضة ومتخبطة وفيها تكريس للعادات الجاهلية من زواج وطلاق وعِدة وغيرها. وكرست كذلك اضطهاد المرأة والعبيد والإماء، مما يجعلنا متيقنين أن مثل هذه التشريعات لا يمكن أن تصدر من إله في السماء خلق هذا الكون. فتفكير محمد كان منصباً في إقامة دولة المدينة وإيجاد المال اللازم لاستمراريتها
فبداية الإسلام، كما يعلم الجميع، بداية ضبابية جُمع قرآنها بعد موت نبيهم بعشرات السنين، ولغتها الكتابية كانت في طور التكوين مما جعل القرآن المكتوب بها قابلاً للتأويل والتغيير، وكانت روح البداوة هي المسيطرة على أتباع الرسالة الجديدة حتى جاء الخليفة العباسي المأمون وتبنى منظومة المعتزلة وأقام بيت الحكمة لترجمة التراث الهليني من فلسفة وعلم الكلام والعلوم الطبيعية إلى اللغة العربية.
ولكن لسوء حظ أمة الإسلام، التي يفترض أن تكون خير أمةٍ أُخرجت للناس، ظهر عرابون في تلك الأمة قبل وبعد موت المأمون بقليل. وكلمة عرّاب تعني الشخص الذي يعمل العَرْبَات، واحدتها عَرَابة، وهي شمل ضروع الغنم، أي لف شريط رفيع حول حلماتها، لمنع البهم من الرضاع (لسان العرب لابن منظور). كان هدف هؤلاء العرابين هو حرمان الأمة من رضاعة ذلك الثدي الهليني الذي يدر العلم والمعرفة. ولما كانت الأمة الإسلامية في بداية تكوينها ويسيطر عليها الجهل والأمية، فقد وجد هؤلاء العرابون رحماً دافئاً احتضنهم حتى نموا وترعرعوا ومن ثم أحكموا خناقهم حول عنق أمة إقرأ، التي لا تقرأ
أبوالحسن الأشعري (ت 941م) كان أول وأشهر هؤلاء العرابين، إذ أن الرجل كان معتزلياً يؤمن بالعقل والمنطق والفلسفة وعلم الكلام، حتى بلغ الأربعين من عمره، ثم رأى محمداً في حُلمٍ وطلب منه محمد أن يدافع عن أحاديثه وسنته، فانقلب الرجل وأشهر العداء للمعتزلة. وفي دفاعه عن الأحاديث والسنة تخلى الأشعري عن العقل واتخذ موقفاً معاكساً للمعتزلة في كل شيئ لدرجة أنه قال بالتجسيم ودافع عن أن لله أيدي وأرجلاُ وجسماً، وانه يجلس على العرش. ولما وجد صعوبة في شرح كيف يمكن أن يجلس الله على العرش والقرآن يقول (وسع كرسيه السموات والأرض)، قال إنه يجب على المسلم أن يؤمن أن الله يجلس على العرش بدون السؤال عن "كيف" (Karen Armstrong, A History of God, p 195).
وذهب الأشعري إلى أن كل عمل يقوم به الإنسان، أو أي ظاهرة طبيعية نراها لا تصدر من الطبيعة أو الإنسان إنما هي إرادة الله. وذهب الأشعري إلى أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف الخير من الشر بدون أن يخبره الله عن طريق الوحي الذي يأتي للأنبياء والرسل. وفي محاولته الإجابة عن سؤال أرسطو: هل الآلهة تحب الأشياء الخيرة لأنها خيرة، أم أن الأشياء أصبحت خيرة لأن الآلهة أحبتها؟ يقول الأشعري إن الله لا يفرض علينا عمل أي شيء لأنه خيّر، وإنما يصبح الشيء خيّراً لأن الله أمر به. وكمثال على ذلك يقول "إن الكذب شر لأن الله حرّمه، ولكن لو حلله الله فسوف يصبح الكذب خيّراً. (Robert Reilly, The Closing of the Muslim Mind, p 70)
ولأن المعتزلة قالوا إن الله خيّرٌ ولا يقدّر إلا الخير لمخلوقاته، رد عليهم الأشعري بالمثال المشهور عن الإخوان الثلاثة: أكبرهم كان شريراً ولما مات أدخله الله النار، والثاني كان خيراً ولما مات أدخله الله الجنة. والثالث مات في طفولته قبل سن التكليف، فأنتهى في البرزخ بين الجنة والنار. وسأل الأشعري: لماذا لم يطل الله عمر الطفل حتى يعمل صالحاً عندما يكبر فيدخل الجنة، لأن الله لا يفعل إلا الخير لمخلوقاته؟ فكان رد الحاضرين أن الله لم يطل عمره لأنه علم أنه لن يفعل خيراً لو كبر. وهنا سأل الأشعري: لماذا أطال الله عمر الأخ الأكبر حتى يرتكب كل المعاصي ويدخله النار؟ لماذا لم يمته وهو صغير عندما علم أنه سيرتكب المعاصي؟ وبهذه الحجة أقنع الأشعري الناس بأن الله ليس ملزماً أن يقدر الخير لمخلوقاته، وأنه يفعل ما يريد لأنه لا يُسأل عما يفعل؟ وللأسف فقد سيطر الفكر الأشعري على الساحة الإسلامية وأقصى الفكر المعتزلي العقلاني.
أما أخطر العرابين وأكثرهم ضرراً للأمة الإسلامية هو بلا شك أبو حامد الغزالي (ت 1111م). ولد الغزالي في خراسان عام 1058م ودرس علم الكلام تحت أستاذه أبو المعالي الجويني الذي كان قطباً من أقطاب الأشعرية. وفي سن ثلاثة وثلاثين أصبح الغزالي معلماً بالمدرسة النظامية ببغداد، وكانت مهمته الدفاع عن المذاهب السنية في وجه المذاهب الشيعية. وقد درس الفلسفة ثم انقلب عليها وهاجم الفلاسفة وقتل الفلسفة في كتابه – تهافت الفلاسفة – ثم أصابته حالة نفسية كادت أن تودي بحياته، نتيجة تفاعلات ما يمليه عليه عقله الفلسفي وما ينطق به من عقله الأشعري. وبسبب هذه الحالة النفسية لم يتمكن من البلع أو الكلام لعدة أسابيع. وأخيراً هداه الله، كما يقول، إلى التصوف فساح في الأرض مع المتصوفين وسكن في دمشق وفلسطين وفارس، قبل أن يرجع إلى بغداد. وأخطر ما ذهب إليه الغزالي أنه نفى السببية، وقال إنه لا توجد علاقة أو سببية بين النار وحريق القطن الذي يوضع على النار لأن الله هو الذي جعل النار تلمس القطن ويغير لون القطن إلى الأسود، ثم يجعله رماداً بواسطة الملائكة أو بدون واسطة. وبإمكان الله أن يفعل غير ذلك ويجعل النار تمس القطن دون أن تحرقه. ثم ما هو الدليل أن النار هي التي تحرق الأشياء؟ الفلاسفة لا يملكون أي دليل على ذلك غير ملاحظة تغيير لون القطن عندما تمسه النار. ولكن الملاحظات تبرهن فقط توأمة الأشياء مع بعضها البعض ولا تثبت السببية. فليس هناك أي سبب غير الله. ويقول كذلك ما معناه: الربط بين ما يعتقد البعض أنه السبب، وبين ما يعتقدون أنه النتيجة، ليس ضرورياً في رأينا. فليس هناك أي علاقة بين إطفاء الظمأ وشرب الماء، أو بين الشعور بالشبع وأكل الطعام، أو بين شروق الشمس وسطوع الضياء، أو بين قطع الرأس والموت. العلاقة الظاهرة بين هذه الأشياء ناتجة عن إرادة الله المسبقة التي خلقت هذه الأشياء ملتصقة ببعضها، ولكن هذا لا يعني أنها لا يمكن فصلها عن بعض، فبإمكان الله أن يخلق في الإنسان الشعور بالشبع دون أن يأكل طعاماً، أو يستمر الإنسان في الحياة بعد أن يُقطع رأسه. (نفس المصدر أعلاه، ص 63). ويستمر الغزالي فيقول إنه ليس من الضروري أن يُخلق الحصان من الحيوان المنوي، ولا الشجرة من الحبة. يمكن أن يُخلق الحصان والشجرة من لا شيء.
لأن العقل يحفّزنا إلى أن نسأل ونكتشف الأشياء غير الملموسة، اعتبره الغزالي عدو الإسلام الأول لأن الإسلام يطلب من المسلم الرضوخ الكامل والامتثال لأوامر الله بدون أي تفكير في الأسباب. وبسبب شهرة الغزالي وتعاليم الأشعرية، وصل الجمود الفكري إلى الأندلس. فنجد مفكراً ظاهرياً مثل أحمد بن حزم يرفض القياس لأنه يعتمد على العقل، ويقول "لا شيء خيّر في ذاته ولكن الله جعله خيراَ، ولا شيء شرٌ في ذاته ولكن الله جعله شراً. فالعمل الذي نعتبره خيّراً قد يصبح شراً إذا أراد الله له ذلك، والعكس صحيح." ويستمر ابن حزم فيقول "فإذا أخبرنا الله تعالى بأنه سوف يعاقبنا بأفعال غيرنا، أو بسبب طاعتنا له، فإن ذلك يصبح عدلاً من الله وعلينا القبول به." ويقول الفخري الرازي (ت 1209) من أتباع المدرسة الأشعرية "إنه من المقبول في معتقدنا أن الله تعالى يمكنه أن يُدخل المذنبين إلى الجنة والمحسنين إلى النار، لأن ملكية القرار له وحده ولا يستطيع أحد أن يمنعه." ويظهر جلياً من
والسبب في أن الغزالي والأشعرية عموماً رفضوا فكرة السببية هو شعورهم أنه لو كانت المسببات تؤدي إلى النتائج المعروفة، يصبح فعل الله ناتجاً عن ضرورة وليس عن إرادة حرة يمكنها تغيير النتيجة في كل مرة يريد الله ذلك. وبسبب هذه الآراء، وبمساعدة أستاذه أبي المعالي الجويني الذي كان علماً من أعلام الأشعرية، وتعاليم الإمام أحمد بن حنبل الذي كان يعتقد أن علم الكلام مضر بالدين لأن الله قد تكلم مع الإنسان عن طريق الوحي وبالتالي ليس الإنسان في حاجة لأن يفكر بطريقة جدية، وأن الوحي حل محل العقل، وأن العلماء لا يعترفون بالقياس ولا بالرأي لأن كلاهما لا قيمة له، تربعت المدرسة الأشعرية على مسرح الأحداث في أمة الإسلام وغاب العقل نهائياً. (نفس المصدر أعلاه، ص 47). وكذلك ساعدته أفكار الإمام الشافي ذي الميول الأشعرية، الذي قال: "حديثٌ ضعيف أفضل من القياس." بفضل هذه الآراء أصبح الغزالي أشهر من علمٍ في رأسه نارٌ وحاز على لقب "حُجة الإسلام".
وقد تخلى الغزالي عن عقله تماماً عندما تحدث عن الحج وقال إنّ ما يقوم به الحاج من ركض بين الصفا والمروة، وبقية الطقوس، لا يقبلها العقل ولا يستسيغها، ولكن القيام بها يُثبت عبودية الفرد لله: " ولذلك وظف عليهم فيها أعمالا لا تأنس بها النفوس ولا تهتدي إلى معانيها العقول كرمي الجمار بالأحجار والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية فإن الزكاة إرفاق ووجهها مفهوم وللعقل إليه ميل والصوم كسر للشهوة التي هي آلة عدو الله وتفرغ للعبادة بالكف عن الشواغل والركوع والسجود في الصلاة تواضع لله عز وجل بأفعال هي هيئة التواضع وللنفوس أنس بتعظيم الله عز وجل فأما ترددات السعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال فلا حظ للنفوس ولا أنس فيها ولا اهتداء للعقل إلى معانيها فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الإتباع فقط وفيه عزل للعقل عن تصرفه وصرف النفس والطبع عن محل أنسه فإن كل ما أدرك العقل معناه مال الطبع إليه ميلا ما فيكون ذلك الميل معينا للأمر وباعثا معه على الفعل فلا يكاد يظهر به كمال الرق والانقياد." (إحياء علوم الدين، ربع العبادات، الجزء 7، ص 19)؟ رحم العقل أمة الإسلام التي تقتدي بأمثال الغزالي.
وهناك عرابون آخرون ساعدوا على انتشار الفكر الأشعري والتعتيم على العقل المسلم، من أمثال ابن تيمية، وأبي الأعلى المودودي، ومحمد بن عبد الوهاب، وبعض "علماء" الأزهر السابقين والمعاصرين. فمثلاً نجد الشيخ أحمد بن نجيب المصري، شافعي المذهب، يقول في كتابه – عمدة السالك وعدة الناسك – ما معناه: علوم الماديين تعتمد في المقام الأول على اعتقاد الماديين أن الأشياء في ذاتها تحتوي على مسببات غير الله. الذين يعتقدون ذلك قد خرجوا من ملة الإسلام.
لقد كان صلاح الدين الأيوبي وكبير قضاته، صدر الدين بن عيسى الدرباس، السبب الرئيسي في انتشار المدرسة الأشعرية في مصر. فقد حفظ صلاح الدين الأيوبي عن ظهر قلب ما كتبه قطب الدين أبوالمعالي مسعود النيسابوري، من أقطاب المدرسة الأشعرية، وحفّظه صلاح الدين لأبنائه وبقية أفراد الأسرة الأيوبية (The Closing of the Muslim Mind, p 9). انتشار المذهب الأشعري أدى إلى إغلاق العقل المسلم ومنع الاجتهاد منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وكنتيجة لهذا الموقف نجد أن البلاد الإسلامية سيطر على مناهج تعليمها "علماء" الأمة الذين خرّبوا التعليم وخرّجوا لنا علماء شريعة لا يقدمون للمجتمع أي خدمات. ويُظهر تقرير انتجته جامعة ماليزيا الإسلامية أن البلاد الإسلامية بها في المتوسط 8.5 مهندسين وفنيين في كل 1000 مواطن، بينما بقية دول العالم بها في المتوسط 40.7. وإذا نظرنا إلى المنشورات العلمية في تلك البلاد نجد أن كوريا الجنوبية تنتج 144 دراسة علمية في كل مليون من سكانها، بينما تنتج البلاد العربية 26 دراسة فقط عن كل مليون شخص (نفس المصدر أعلاه، ص 162). أما عن حقوق الإنسان والديمقراطية التي يعتبرها أغلب "علماء" الأمة كفراً، فحدث ولا حرج. وقد انشغل "علماء الأمة بتوافه الأمور مثل حساب درجة حرارة نار جهنم، أو تحديد المواد الكيمائية في أجسام الشياطين.
فهل هناك أي أمل في إصلاح هذا الدين السياسي الذي دمر حياة الملايين من البشر فعلياً عن طريق الذبح والتفجيرات، أو عن طريق إلغاء عقولهم؟ هناك من بعتقد ذلك ولكني أقول بغير ذلك
لا يخامرني أدنى شك أن
الإسلام منظومة سياسية تقمصت لبوس الدين، والدين منها براء. الأديان يمكن إصلاحها
كما حدث مع المسيحية واليهودية دون التعرض للنص المقدس لأتباع تلك الديانات.
الإصلاح يكون عن طريق تغيير الخطاب الديني الذي ينطق به رجالات الدين أو بغض الطرف
عن بعض الآيات التي تحدث إشكالاً مع متطلبات العصر. فهاهي المسيحية اضطرت للخضوع
لمجاراة العصر وسمحت بتعميد النساء والقساوسة المثليين بعد أن نفضت يدها عن
السياسة مجبرةً. أما اليهودية فقد حاول حاخاماتها الاحتفاظ بنصوصها كما هي
وتطبيقها على أرض الواقع. ورغم أن بعض الحاخامات المتشددين في إسرائيل ما زالوا
يطبقون نفس النصوص الجامدة التي تحدد ما يمكن أن يفعله اليهودي يوم السبت، وما يجب
أن يتحقق منه الرجل أو المرأة قبل الزواج، فإن غالبية الشعب الإسرائيلي قد اضطرهم
المجتمع الحديث للعمل يوم السبت والزواج من الزميلة الموظفة ذات الدخل الكبير حتى
وإن لم تكن يهودية. و في الولايات المتحدة وأوربا قد تخلى اليهود وحاخاماتهم عن
أشياء كثيرة وقبلوا بتعميد النساء وبزواج اليهودي بغير اليهودية وتخلوا تماماً عن الخوض
في السياسة. فانتشار التعليم والضغوط الاقتصادية والمجتمعية حملت الأديان على
التأقلم أو الانقراض.
ولكن للأسف نفس الضغوط لا تؤثر على الأيدولوجيات السياسية لتتأقلم معها. المنظومات السياسية مثل الفاشية الموسولينية ومثل النازية الهتلرية لم يكن من الممكن أصلاحهما لأنهما بُنيا على استعلاء جنس معيّن من البشر على بقية الأجناس، وسعيا للسيطرة على بقية الأجناس ليس بالعلم أو المقدرة الفكرية، وإنما بوراثة جينات جنس معيّن من البشر كالجنس الآري مثلاً. وما زال شباب النازية الجديدة في أوربا يلبسون نفس القمصان الهتلرية أو الموسولينية ويؤدون نفس التحية العسكرية ويستعلون على المهاجرين ويقتلونهم إذا تمكنوا منهم لأنهم لا يستحقون الحياة في نظرهم. مثل هذه الأديدولوجيات السياسية يكون إصلاحها في الخلاص منها نهائياً لأن تعاليم الأيدولوجية لا تسمح بالتأقلم مع الزمن
وفي اعتقادي نفس الشيء ينطبق على المنظومة الشيوعية التي بُنيت على سيطرة الطبقة العاملة على مفاصل الانتاج، أي على ديكتاتورية البروليتاريا. فلا يمكننا أن نتخيل منظومة شيوعية تتأقلم مع سيطرة الإقطاع الصناعي أو الزراعي على مفاصل الدولة وتسخير الطبقة العاملة كعملية إصلاح للأيدولوجية الشيوعية. فالمنظومة الشيوعية أمامها خيران لا ثالث لهما: إما أن تُطبق عملياً وتبلغ شأوها، وإما أن تنهار نهائياً، فالاشتراكية ليست هي الشيوعية. وأرجو أن يصوبني صديقي فؤاد النمري إن كنتُ مخطئاً في طرحي هذا.
نأتي الآن إلى الإسلام، وهناك الكثيرون الذين يعتقدون أنه بالإمكان إصلاحه. وقد شاركت في ندوة في روما عن إصلاح الإسلام قبل عدة أشهر مع الصديق الدكتور عبدالخالق حسين وبعض الكتاب العرب وبعض المستشرقين. وكان مركز "المصلح" http://www.almuslih.org قد دعا لهذه الندوة. كل المشاركين الذين قدموا أوراقاً في هذه الندوة قالوا بإمكانية إصلاح الإسلام، وكنتُ أنا الصوت النشاز الوحيد لإيماني المطلق أن الإسلام أيدولوجية سياسية إما أن تُطبق بكاملها أو تنقرض.
استحالة إصلاح الإسلام ترجع إلى عدة عوامل سوف أركز على بعضها وأذكر الأخريات بدون نقاش. العامل الأول هو نظرية المسلمين الدونية لغير المسلم. فهم يتبعون قدوتهم الأولى محمد الذي لا يرى بأساً في قتل عصماء بنت مروان التي كانت ترضع وليدها على صدرها، ويقول: لا ينتطح فيها عنزان لأنها لم تسلم وبالتالي هي أقل شأناً من أن تنتطح فيها عنزان ناهيك عن رجال مسلمين هم فوقها درجات . وهم كذلك يتبعون قدوتهم الحديثة هتلر لأنه اضطهد اليهود وقتلهم، فبعثوا إليه مفتي القدس الشيخ الحسيني للتهنئة. وما دام المسلم أعلى مرتبةً من غير المسلم، فلن يتنازل المسلم طواعية عن هذا الموضع ويقبل بإصلاح الإسلام فيصبح مساوياً للكافر
السبب الثاني هو جهل "علماء" الإسلام بالعلوم الطبيعية والعلوم السياسية والاجتماعية. كل ما يعرفونه هو القرآن والسنة والفقه والسيرة. هؤلاء الجهلاء هم المتحكمون في رقاب الأمة، وهم المسؤولون عن مناهج التعليم وبالتالي يزرعون نفس البذرة في أجيال المستقبل. وهذا الوضع المريح قد جعلهم نجوم فضائيات عديدة يحصدون منها ملايين الريالات ويبنون القصور الشامخة. فهل يمكن أن يقبلوا طواعيةً بإصلاح الإسلام وتنوير العامة؟
كلما شذ عالم دين أو فلسفة عن إجماع جهلاء الإسلام كان الجلد والسجن وحرق كتبه عقاباً جاهزاً متفق عليه. فمثلاً الفيلسوف العربي المسلم أبو يعقوب الكندي (ت 873م) عندما قال إن النبوة تعلو على الفلسفة في بعض الأشياء ولكن محتوى الاثنين لا يختلف كثيراً، تواطأ عليه رجالات الدين فطرده الخليفة المتوكل من بغداد وصادر مكتبته العامرة (The Closing of the Muslim Mind, p 41). فهل يجرؤ رجل دين آخر على نقد الإسلام والمطالبة بإصلاحه؟
تأصيل الخرافة الإسلامية حتى في عقول المتعلمين منا. فمثلاً نجد ابن خلدون، الذي كان من اتباع المدرسة الأشعرية، يقول عن دراسة الفيزياء في كتابه – المقدمة –"يجب أن نمتنع عن دراسة هذه الأشياء لأن مثل هذا الامتناع من صميم واجبات المسلم التي تحتم عليه عدم الخوض فيما لا يعنيه. مسائل الفيزياء لا تهمنا في أمور ديننا أو دنيانا، وعليه يجب أن نتركها جانباً." (نفس المصدر أعلاه، ص 43).
قفل باب الاجتهاد، وقد ظل مقفلاً منذ القرن الثاني عشر، وليس هناك من رجل دين معاصر أو هيئة دينية تستطيع فتحه. يظهر هذا جلياً عندما حاول الشيخ محمد على السنوسي (ت 1859م)، والذي كان معروفاً بالسنوسي الأكبر، فتح باب الاجتهاد فرد عليه مفتي مصر بفتوى تقول "لا ينكر أحد أن فضل الاجتهاد قد اختفى منذ أمد طويل، وليس في زماننا الحاضر أي رجل وصل في العلم إلى درجة فتح باب الاجتهاد." وعليه سوف يظل باب الاجتهاد مغلقاً إلى الأبد لأن فقهاء السلف لم يتركوا مسألة في الدين إلا وقتلوها بحثاً، وليس هناك ما يمكن إضافته لما قالوه. ورغم أن باب الاجتهاد ظل مفتوحاً في المذهب الشيعي، فإن "علماء" الشيعة لم يأتوا بأي اجتهاد في العصور الحديثة. وهكذا كُتب علينا الجهل وترديد مقولة محمد "كل جديد بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؟"
جهل "العلماء" وإيمانهم بنفي السببية لأن الله هو السبب في كل شيء. وقد حمل هذا الموقف "علماء" باكستان بالمطالبة بأسلمة كتب الفيزياء والكيمياء، فنجدهم مثلاً يقولون "عندما يؤلف المختصون كتاباً للفصل الثالث الإعدادي، يجب ألا يسأل المعلم: ماذا سوف يحدث إذا لم يتناول الحيوان طعاماً؟ بل يجب أن يكون السؤال: ماذا سوف يحدث إذا لم يرزق الله الحيوان بأي طعام؟" وبالنسبة للفيزياء، يقول الشيوخ "العلماء" "إن جملة (الطاقة تسبب التغيير) جملة ملغومة لأنها توحي للطفل أن الطاقة هي سبب التغيير بينما الله هو السبب." وهنيئاً لأمتنا بمثل هؤلاء العلماء. هل يمكن أن نُصلح الإسلام وأطفالنا يحشي الجهلاء عقولهم بتعاليم المدرسة الأشعرية؟
وإنكار السببية هذا قد قادنا، وسوف يظل يقودنا إلى متاهات عويصة. فمثلاً العالم كله يعرف أنه إذا تجمع السحاب في مكانٍ ما وابرق ذلك السحاب فهطول المطر يصبح احتمالاً كبيراً. ولكن "علماء" المسلمين يقولون التنبؤ بسقوط الأمطار يقع خارج ما يمكن للمسلم شرعاً معرفته وربما يدخل في علم ما فوق الطبيعة. وكنتيجة حتمية لمثل هذه الفتاوى نجد أن نشرات الأحوال الجوية اختفت من الصحف والراديو والتلفزيون الباكستاني بين العام 1983 و العام 1984 في أيام حكم الجنرال ضياء الدين أو "ضياع الدين" كما سماه بعضهم. وبدل أن نستفيد من العلم الحديث في رصد تحركات السحب ودرجة الحرارة حتى يمكننا التنبؤ بأماكن هطول الأمطار، يطلب منا جهلاء الأمة وساستها أن نصلي صلاة الاستسقاء التي ظل المسلمون يقومون بها منذ ظهور الإسلام وحتى يومنا هذا وما زالت مكة صحراء جرداء لا تعرف المطر.
غياب سلطة دينية مركزية تكون كلمتها ملزمة لجميع المسلمين، كما يحدث في الكنيسة الكاثوليكية. فنحن نجد أن المسلمين قد انقسموا إلى 73 فرقة كما قال رسولهم. فتوى الأزهر ليست ملزمة للشيعة بكل فروعها من فاطميين واثني عشرية وعلويين وغيرهم، وغير ملزمة للإسماعيليين أو الدروز أو حتى الصوفية. و"علماء الأزهر أنفسهم لا يتفقون على رأي واحد في أي مسألة تُعرض عليهم، كما رأينا في فتوى رضاع الكبير. فكيف لنا أن نحمل "علماء" الأزهر على الاتفاق لإصلاح الإسلام وهم يرتعدون خوفاً من تنقيح كتاب البخاري الذي يقول فيه إن الله يمني وينزل المني من عرشه؟ هل يجرؤ مثل هؤلاء "العلماء" على تعليق العمل بآيات القتل والذبح وقطع الأيدي والأرجل؟
خوف أي رجل دين أو مفكر من التصريح بأي رأي قد يكون مخالفاً لإجماع بقية رجال الدين، ولو أنهم نادراً ما يجمعون على شيء. يظهر هذا جلياً في حالة الشيخ الشيعي أحمد القبانجي الذي أجهر برأيه في القرآن فتبرأ منه أخوه الأكبر وبقية عائلته واعتقلته إيران لفترةٍ من الزمن. ناهيك عن الاغتيالات التي طالت المفكرين من أمثال فرج فودة وحسين مروة وغيرهم الكثير. فالخوف من الإرهاب يمنع المتنورين من الكُتاب والفلاسفة من طرح آرائهم في العلن حتى تساعد في تغيير تلك العقول المتحجرة. ففي الهند حاول السيد أحمد خان (1817-1898) فعل ذلك وقال إن القرآن يجب أن يُعاد تفسيره ليتماشى مع العصر الحديث. فقامت عليه قيامة "العلماء" الجهلاء وقاطعوا الجامعة التي كان يُدرّس بها وأخيراً أصبحوا هم الذين يعلمون في الجامعة. وعندما حاول تلميذه سيد أمير علي (1849-1924) نفس الشيء وقال إن أبا الحسن الأشعري، وابن حنبل والغزالي وابن تيمية هم سبب تأخر المسلمين، أصدر متولي الكعبة فتوى بكفره وأباح دمه (نفس المصدر أعلاه، ص 170)
الجهل والأمية المتفشية في ربوع العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى موريتانيا ومن باكستان إلى السودان، تمثل العائق الأكبر لإصلاح الإسلام لأن الإصلاح يحتاج قاعدة عريضة تقف وراء من يدعون للإصلاح. فمثلاً في الولايات الأمريكية الجنوبية في القرن الثامن عشر عندما كان الجهل متفشياً في البيض والسود معاً، ظهرت فجأة حركة الصحوة الدينية المسيحية Born Again Christians وقاد هذه الحركة خريج من جامعة ييل Yale الشهيرة اسمه جوناثان إدواردس Jonathan Edwards (1703-1758). كان خطيباً موفهاً واستطاع أن يقنع الجهلاء أن الله غاضبٌ عليهم لعدم ممارستهم طقوس دينهم. وفي فترة وجيزة انتشرت الصحوة لكل أنحاء الولايات المتحدة ووصل الناس إلى مرحلة الهستيريا الجماعية فكانوا يبكون في الكنائس بصوت عالٍ ثم بعد دقائق يضحكون ويرددون الأناشيد عندما يخبرهم القسيس أن الرب قد سامحهم (Karen Armstrong, A History of God, p 371). نفس هذا الجهل والهستيريا الجماعية موجودة عندنا في كل أنحاء العالم الإسلامي خاصةً العراق وإيران عندما يضربون أنفسهم بالسلاسل طواعية وينتحبون من أجل شخص قُتل قبل 1400 عام.. وفي مصر والسودان واليمن وغيرها يتكدس آلاف المسلمين في ضرائح الموتى يتبركون بها ويطلبون منها الشفاء من الأمراض ومن العقم. فما هو الدافع لرجالات الدين في مثل هذه الأجواء إلى محاولة إصلاح الإسلام الذي سخّر لهم جمع أموال الخُمس لمليء كروشهم، أو سخر لهم ملايين المشاهدين لقنواتهم الفضائية التي تجلب لهم الملايين؟ لا يمكن أن يأتي الإصلاح من شيوخ الإسلام. فمن الذي يمكن أن يُصلح لنا الإسلام؟ هل يصلحه المتعلمون من غير الشيوخ من أمثال أستاذ القانون في جامعة الكويت، راشد العنزي، الذي يشرف على لجنة المناهج المدرسية، وقال يجب إلغاء المادة 18 من قوانين حقوق الإنسان من الكتب المدرسية لأنها تقول بحرية الاعتقاد، وهذا يخالف شرعنا الإسلامي؟ إذا كان هذا رأي أستاذ القانون فما هو رأي الشيوخ؟
شيوخ الإسلام يستميتون في الدفاع عن الموروث الإسلامي ولا يتورعون عن مناجزة التنويريين الذين يحاولون بعض الإصلاحات الطفيفة، فمثلاً في السودان قال السيد حسن عبد الله الترابي إن الملائكة لم تقاتل مع المؤمنين، ولو قاتلت فكان قتالاً معنوياً، وإن عائشة كان عمرها ثمان عشرة عاماً لما تزوجها محمد، فانبرى له شيخ اسمه الكاروري يؤم مئات المصلين يوم الجمعة وله أتباع بالآلاف، فقال " أما نفيه لفعل القتل مادياً فهذا غير مقبول".. وأكد أن القتل فعلياً قد حدث في معركة بدر الكبرى، وأن هناك من مات هلعاً من المشركين ممن كانوا يراقبون معركة بدر حينما سمعوا أصوات الملائكة في المعركة. وأشار إلى أنه ورد أن من شاركوا في معركة بدر الكبرى قالوا إن (الضرب) وطريقته في جثث المشركين لم يكن بالضرب المعروف والمألوف. (متوكل أبوسن، صحيفة الراكولة السودانية، 5/5/2013). يؤكد الشيخ الكاروري أن الملائكة قتلوا المشركين وينسى أن ربهم عندما قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا له "أتجعل فيها من يسفك الدماء"؟ وهاهم يسفكون الدماء. من مصلحة الشيوخ زيادة جرعة التخدير.
في اعتقادي أن الحقوق لا تُمنح بل تُؤخذ عنوةً، أو كما قال جمال عبد الناصر "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة". حرياتنا أُخذت منا ومن أسلافنا بالقوة وبالسيف والسبي. ونحن ضربونا عندما كنا أطفالاً لنحفظ خزعبلات الإسلام، وعليه يبقى الطريق الوحيد لتحديث الإسلام أو إلغائه هو القوة التي استعملها الحبيب بورقيبة لتحديث بعض أجزاء الإسلام، أو القوة التي استعملها كمال أتاتورك ليُرجع الإسلام إلى المساجد. وقد تقدمت كلا الدولتين في فترات وجيزة إلى أن استجاب الجهل إلى أصوات الشيوخ مرة أخرى ورجع الإسلام تدريجياً إلى تركيا مع حزب العدالة، وإلى تونس مع ثورة الربيع العربي. وإن قلبي ليتفطر على مصر أم الدنيا وعلى تونس الخضراء وعلى ليبيا والسودان. ولكن الجهل يصنع المعجزات
وفي الخلاصة أقول إنه لا يمكن إصلاح الإسلام بتاتاً ومكانه الطبيعي هو المتحف البريطاني مع هياكل الديناصورات.
ولكن للأسف نفس الضغوط لا تؤثر على الأيدولوجيات السياسية لتتأقلم معها. المنظومات السياسية مثل الفاشية الموسولينية ومثل النازية الهتلرية لم يكن من الممكن أصلاحهما لأنهما بُنيا على استعلاء جنس معيّن من البشر على بقية الأجناس، وسعيا للسيطرة على بقية الأجناس ليس بالعلم أو المقدرة الفكرية، وإنما بوراثة جينات جنس معيّن من البشر كالجنس الآري مثلاً. وما زال شباب النازية الجديدة في أوربا يلبسون نفس القمصان الهتلرية أو الموسولينية ويؤدون نفس التحية العسكرية ويستعلون على المهاجرين ويقتلونهم إذا تمكنوا منهم لأنهم لا يستحقون الحياة في نظرهم. مثل هذه الأديدولوجيات السياسية يكون إصلاحها في الخلاص منها نهائياً لأن تعاليم الأيدولوجية لا تسمح بالتأقلم مع الزمن
وفي اعتقادي نفس الشيء ينطبق على المنظومة الشيوعية التي بُنيت على سيطرة الطبقة العاملة على مفاصل الانتاج، أي على ديكتاتورية البروليتاريا. فلا يمكننا أن نتخيل منظومة شيوعية تتأقلم مع سيطرة الإقطاع الصناعي أو الزراعي على مفاصل الدولة وتسخير الطبقة العاملة كعملية إصلاح للأيدولوجية الشيوعية. فالمنظومة الشيوعية أمامها خيران لا ثالث لهما: إما أن تُطبق عملياً وتبلغ شأوها، وإما أن تنهار نهائياً، فالاشتراكية ليست هي الشيوعية. وأرجو أن يصوبني صديقي فؤاد النمري إن كنتُ مخطئاً في طرحي هذا.
نأتي الآن إلى الإسلام، وهناك الكثيرون الذين يعتقدون أنه بالإمكان إصلاحه. وقد شاركت في ندوة في روما عن إصلاح الإسلام قبل عدة أشهر مع الصديق الدكتور عبدالخالق حسين وبعض الكتاب العرب وبعض المستشرقين. وكان مركز "المصلح" http://www.almuslih.org قد دعا لهذه الندوة. كل المشاركين الذين قدموا أوراقاً في هذه الندوة قالوا بإمكانية إصلاح الإسلام، وكنتُ أنا الصوت النشاز الوحيد لإيماني المطلق أن الإسلام أيدولوجية سياسية إما أن تُطبق بكاملها أو تنقرض.
استحالة إصلاح الإسلام ترجع إلى عدة عوامل سوف أركز على بعضها وأذكر الأخريات بدون نقاش. العامل الأول هو نظرية المسلمين الدونية لغير المسلم. فهم يتبعون قدوتهم الأولى محمد الذي لا يرى بأساً في قتل عصماء بنت مروان التي كانت ترضع وليدها على صدرها، ويقول: لا ينتطح فيها عنزان لأنها لم تسلم وبالتالي هي أقل شأناً من أن تنتطح فيها عنزان ناهيك عن رجال مسلمين هم فوقها درجات . وهم كذلك يتبعون قدوتهم الحديثة هتلر لأنه اضطهد اليهود وقتلهم، فبعثوا إليه مفتي القدس الشيخ الحسيني للتهنئة. وما دام المسلم أعلى مرتبةً من غير المسلم، فلن يتنازل المسلم طواعية عن هذا الموضع ويقبل بإصلاح الإسلام فيصبح مساوياً للكافر
السبب الثاني هو جهل "علماء" الإسلام بالعلوم الطبيعية والعلوم السياسية والاجتماعية. كل ما يعرفونه هو القرآن والسنة والفقه والسيرة. هؤلاء الجهلاء هم المتحكمون في رقاب الأمة، وهم المسؤولون عن مناهج التعليم وبالتالي يزرعون نفس البذرة في أجيال المستقبل. وهذا الوضع المريح قد جعلهم نجوم فضائيات عديدة يحصدون منها ملايين الريالات ويبنون القصور الشامخة. فهل يمكن أن يقبلوا طواعيةً بإصلاح الإسلام وتنوير العامة؟
كلما شذ عالم دين أو فلسفة عن إجماع جهلاء الإسلام كان الجلد والسجن وحرق كتبه عقاباً جاهزاً متفق عليه. فمثلاً الفيلسوف العربي المسلم أبو يعقوب الكندي (ت 873م) عندما قال إن النبوة تعلو على الفلسفة في بعض الأشياء ولكن محتوى الاثنين لا يختلف كثيراً، تواطأ عليه رجالات الدين فطرده الخليفة المتوكل من بغداد وصادر مكتبته العامرة (The Closing of the Muslim Mind, p 41). فهل يجرؤ رجل دين آخر على نقد الإسلام والمطالبة بإصلاحه؟
تأصيل الخرافة الإسلامية حتى في عقول المتعلمين منا. فمثلاً نجد ابن خلدون، الذي كان من اتباع المدرسة الأشعرية، يقول عن دراسة الفيزياء في كتابه – المقدمة –"يجب أن نمتنع عن دراسة هذه الأشياء لأن مثل هذا الامتناع من صميم واجبات المسلم التي تحتم عليه عدم الخوض فيما لا يعنيه. مسائل الفيزياء لا تهمنا في أمور ديننا أو دنيانا، وعليه يجب أن نتركها جانباً." (نفس المصدر أعلاه، ص 43).
قفل باب الاجتهاد، وقد ظل مقفلاً منذ القرن الثاني عشر، وليس هناك من رجل دين معاصر أو هيئة دينية تستطيع فتحه. يظهر هذا جلياً عندما حاول الشيخ محمد على السنوسي (ت 1859م)، والذي كان معروفاً بالسنوسي الأكبر، فتح باب الاجتهاد فرد عليه مفتي مصر بفتوى تقول "لا ينكر أحد أن فضل الاجتهاد قد اختفى منذ أمد طويل، وليس في زماننا الحاضر أي رجل وصل في العلم إلى درجة فتح باب الاجتهاد." وعليه سوف يظل باب الاجتهاد مغلقاً إلى الأبد لأن فقهاء السلف لم يتركوا مسألة في الدين إلا وقتلوها بحثاً، وليس هناك ما يمكن إضافته لما قالوه. ورغم أن باب الاجتهاد ظل مفتوحاً في المذهب الشيعي، فإن "علماء" الشيعة لم يأتوا بأي اجتهاد في العصور الحديثة. وهكذا كُتب علينا الجهل وترديد مقولة محمد "كل جديد بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؟"
جهل "العلماء" وإيمانهم بنفي السببية لأن الله هو السبب في كل شيء. وقد حمل هذا الموقف "علماء" باكستان بالمطالبة بأسلمة كتب الفيزياء والكيمياء، فنجدهم مثلاً يقولون "عندما يؤلف المختصون كتاباً للفصل الثالث الإعدادي، يجب ألا يسأل المعلم: ماذا سوف يحدث إذا لم يتناول الحيوان طعاماً؟ بل يجب أن يكون السؤال: ماذا سوف يحدث إذا لم يرزق الله الحيوان بأي طعام؟" وبالنسبة للفيزياء، يقول الشيوخ "العلماء" "إن جملة (الطاقة تسبب التغيير) جملة ملغومة لأنها توحي للطفل أن الطاقة هي سبب التغيير بينما الله هو السبب." وهنيئاً لأمتنا بمثل هؤلاء العلماء. هل يمكن أن نُصلح الإسلام وأطفالنا يحشي الجهلاء عقولهم بتعاليم المدرسة الأشعرية؟
وإنكار السببية هذا قد قادنا، وسوف يظل يقودنا إلى متاهات عويصة. فمثلاً العالم كله يعرف أنه إذا تجمع السحاب في مكانٍ ما وابرق ذلك السحاب فهطول المطر يصبح احتمالاً كبيراً. ولكن "علماء" المسلمين يقولون التنبؤ بسقوط الأمطار يقع خارج ما يمكن للمسلم شرعاً معرفته وربما يدخل في علم ما فوق الطبيعة. وكنتيجة حتمية لمثل هذه الفتاوى نجد أن نشرات الأحوال الجوية اختفت من الصحف والراديو والتلفزيون الباكستاني بين العام 1983 و العام 1984 في أيام حكم الجنرال ضياء الدين أو "ضياع الدين" كما سماه بعضهم. وبدل أن نستفيد من العلم الحديث في رصد تحركات السحب ودرجة الحرارة حتى يمكننا التنبؤ بأماكن هطول الأمطار، يطلب منا جهلاء الأمة وساستها أن نصلي صلاة الاستسقاء التي ظل المسلمون يقومون بها منذ ظهور الإسلام وحتى يومنا هذا وما زالت مكة صحراء جرداء لا تعرف المطر.
غياب سلطة دينية مركزية تكون كلمتها ملزمة لجميع المسلمين، كما يحدث في الكنيسة الكاثوليكية. فنحن نجد أن المسلمين قد انقسموا إلى 73 فرقة كما قال رسولهم. فتوى الأزهر ليست ملزمة للشيعة بكل فروعها من فاطميين واثني عشرية وعلويين وغيرهم، وغير ملزمة للإسماعيليين أو الدروز أو حتى الصوفية. و"علماء الأزهر أنفسهم لا يتفقون على رأي واحد في أي مسألة تُعرض عليهم، كما رأينا في فتوى رضاع الكبير. فكيف لنا أن نحمل "علماء" الأزهر على الاتفاق لإصلاح الإسلام وهم يرتعدون خوفاً من تنقيح كتاب البخاري الذي يقول فيه إن الله يمني وينزل المني من عرشه؟ هل يجرؤ مثل هؤلاء "العلماء" على تعليق العمل بآيات القتل والذبح وقطع الأيدي والأرجل؟
خوف أي رجل دين أو مفكر من التصريح بأي رأي قد يكون مخالفاً لإجماع بقية رجال الدين، ولو أنهم نادراً ما يجمعون على شيء. يظهر هذا جلياً في حالة الشيخ الشيعي أحمد القبانجي الذي أجهر برأيه في القرآن فتبرأ منه أخوه الأكبر وبقية عائلته واعتقلته إيران لفترةٍ من الزمن. ناهيك عن الاغتيالات التي طالت المفكرين من أمثال فرج فودة وحسين مروة وغيرهم الكثير. فالخوف من الإرهاب يمنع المتنورين من الكُتاب والفلاسفة من طرح آرائهم في العلن حتى تساعد في تغيير تلك العقول المتحجرة. ففي الهند حاول السيد أحمد خان (1817-1898) فعل ذلك وقال إن القرآن يجب أن يُعاد تفسيره ليتماشى مع العصر الحديث. فقامت عليه قيامة "العلماء" الجهلاء وقاطعوا الجامعة التي كان يُدرّس بها وأخيراً أصبحوا هم الذين يعلمون في الجامعة. وعندما حاول تلميذه سيد أمير علي (1849-1924) نفس الشيء وقال إن أبا الحسن الأشعري، وابن حنبل والغزالي وابن تيمية هم سبب تأخر المسلمين، أصدر متولي الكعبة فتوى بكفره وأباح دمه (نفس المصدر أعلاه، ص 170)
الجهل والأمية المتفشية في ربوع العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى موريتانيا ومن باكستان إلى السودان، تمثل العائق الأكبر لإصلاح الإسلام لأن الإصلاح يحتاج قاعدة عريضة تقف وراء من يدعون للإصلاح. فمثلاً في الولايات الأمريكية الجنوبية في القرن الثامن عشر عندما كان الجهل متفشياً في البيض والسود معاً، ظهرت فجأة حركة الصحوة الدينية المسيحية Born Again Christians وقاد هذه الحركة خريج من جامعة ييل Yale الشهيرة اسمه جوناثان إدواردس Jonathan Edwards (1703-1758). كان خطيباً موفهاً واستطاع أن يقنع الجهلاء أن الله غاضبٌ عليهم لعدم ممارستهم طقوس دينهم. وفي فترة وجيزة انتشرت الصحوة لكل أنحاء الولايات المتحدة ووصل الناس إلى مرحلة الهستيريا الجماعية فكانوا يبكون في الكنائس بصوت عالٍ ثم بعد دقائق يضحكون ويرددون الأناشيد عندما يخبرهم القسيس أن الرب قد سامحهم (Karen Armstrong, A History of God, p 371). نفس هذا الجهل والهستيريا الجماعية موجودة عندنا في كل أنحاء العالم الإسلامي خاصةً العراق وإيران عندما يضربون أنفسهم بالسلاسل طواعية وينتحبون من أجل شخص قُتل قبل 1400 عام.. وفي مصر والسودان واليمن وغيرها يتكدس آلاف المسلمين في ضرائح الموتى يتبركون بها ويطلبون منها الشفاء من الأمراض ومن العقم. فما هو الدافع لرجالات الدين في مثل هذه الأجواء إلى محاولة إصلاح الإسلام الذي سخّر لهم جمع أموال الخُمس لمليء كروشهم، أو سخر لهم ملايين المشاهدين لقنواتهم الفضائية التي تجلب لهم الملايين؟ لا يمكن أن يأتي الإصلاح من شيوخ الإسلام. فمن الذي يمكن أن يُصلح لنا الإسلام؟ هل يصلحه المتعلمون من غير الشيوخ من أمثال أستاذ القانون في جامعة الكويت، راشد العنزي، الذي يشرف على لجنة المناهج المدرسية، وقال يجب إلغاء المادة 18 من قوانين حقوق الإنسان من الكتب المدرسية لأنها تقول بحرية الاعتقاد، وهذا يخالف شرعنا الإسلامي؟ إذا كان هذا رأي أستاذ القانون فما هو رأي الشيوخ؟
شيوخ الإسلام يستميتون في الدفاع عن الموروث الإسلامي ولا يتورعون عن مناجزة التنويريين الذين يحاولون بعض الإصلاحات الطفيفة، فمثلاً في السودان قال السيد حسن عبد الله الترابي إن الملائكة لم تقاتل مع المؤمنين، ولو قاتلت فكان قتالاً معنوياً، وإن عائشة كان عمرها ثمان عشرة عاماً لما تزوجها محمد، فانبرى له شيخ اسمه الكاروري يؤم مئات المصلين يوم الجمعة وله أتباع بالآلاف، فقال " أما نفيه لفعل القتل مادياً فهذا غير مقبول".. وأكد أن القتل فعلياً قد حدث في معركة بدر الكبرى، وأن هناك من مات هلعاً من المشركين ممن كانوا يراقبون معركة بدر حينما سمعوا أصوات الملائكة في المعركة. وأشار إلى أنه ورد أن من شاركوا في معركة بدر الكبرى قالوا إن (الضرب) وطريقته في جثث المشركين لم يكن بالضرب المعروف والمألوف. (متوكل أبوسن، صحيفة الراكولة السودانية، 5/5/2013). يؤكد الشيخ الكاروري أن الملائكة قتلوا المشركين وينسى أن ربهم عندما قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا له "أتجعل فيها من يسفك الدماء"؟ وهاهم يسفكون الدماء. من مصلحة الشيوخ زيادة جرعة التخدير.
في اعتقادي أن الحقوق لا تُمنح بل تُؤخذ عنوةً، أو كما قال جمال عبد الناصر "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة". حرياتنا أُخذت منا ومن أسلافنا بالقوة وبالسيف والسبي. ونحن ضربونا عندما كنا أطفالاً لنحفظ خزعبلات الإسلام، وعليه يبقى الطريق الوحيد لتحديث الإسلام أو إلغائه هو القوة التي استعملها الحبيب بورقيبة لتحديث بعض أجزاء الإسلام، أو القوة التي استعملها كمال أتاتورك ليُرجع الإسلام إلى المساجد. وقد تقدمت كلا الدولتين في فترات وجيزة إلى أن استجاب الجهل إلى أصوات الشيوخ مرة أخرى ورجع الإسلام تدريجياً إلى تركيا مع حزب العدالة، وإلى تونس مع ثورة الربيع العربي. وإن قلبي ليتفطر على مصر أم الدنيا وعلى تونس الخضراء وعلى ليبيا والسودان. ولكن الجهل يصنع المعجزات
وفي الخلاصة أقول إنه لا يمكن إصلاح الإسلام بتاتاً ومكانه الطبيعي هو المتحف البريطاني مع هياكل الديناصورات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق