الهريريات
الجزء الخامس
إبعاد أبي هريرة ( تتمة)
تبين مما ذكرنا آنفا أن فنّان المضيرة قدم من بلاده على النبي وهو بخيبر سنة 7 ه وأن النبي
بعثه مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين بعد منصرفه من الجعرانة ، بعد أن قسم مغانم خيبر، وكان ذلك في شهر ذي القعدة سنة 8 ه .
وبذلك تكون مدة إقامته بجوار النبي - مقيما مع أهل الصفة تبتدئ من شهر صفر سنة 7 ه وتنتهى في شهر ذى القعدة سنة 8 ه ـ
وإذا حسبنا هذه المدة وجدنا أنها لا تزيد على سنة واحدة وتسعة أشهر فقط !
وهاك نص ما قاله أبو هريرة في ذلك ونقله ابن سعد في طبقاته الكبرى (ص 77 ج 4 ق 2) عن سالم مولى بنى نصر قال:
سمعت أبا هريرة يقول:
بعثنى رسول الله صلى الله عليه وآله مع العلاء بن الحضرمي وأوصاه بى خيرا، فلما فصلنا قال لى: إن رسول الله قد أوصاني بك خيرا، فانظر ماذا تحب ؟ قال قلت: تجعلني أؤذن لك ولا تسبقني بآمين. فأعطاني ذلك
وقد جاء هذا الخبر بحرفه في الاصابة لابن حجر العسقلاني (ص 204 ج 7) وإليك نص ما قاله:
" بعثنى رسول الله مع العلاء بن الحضرمي فأوصاه بى خيرا، فقال لي : ما تحبّ ؟ فقلت : أؤذن لك و لا تسبقني بأذاني:
ولما ذهب إلى البحرين، كان عمله هناك (التأذين) كما طلب هو، ولو أن العلاء كان يأنس منه القدرة على أداء أي عمل دينى، لما قال له: انظر ماذا تحب ؟
وكذلك لو كان النبي يعلم منه أنه كفؤ للقيام بأي أمر من أمور الدين لقال للعلاء وهو يوصيه: إنى أرسله معك ليعلّم الناس دينهم، كما كان يرسل غيره مثل معاذ بن جبل وابن مسعود، وأبى موسى الاشعري، الذى أسلم مع أبى هريرة في وقت واحد - وغيرهم - ليعلموا الناس دينهم !
قال الغزالي في المستصفى إنه قد تواتر أن الرسول صلى الله عليه وآله كان لا ينفذ أمراءه
وقضاته ورسله وسعاته إلى الاطراف إلا لقبض الصدقات وحل العهود وتبليغ أحكام الشرع . وليس أبو هريرة من هؤلاء جميعا في شئ).
(ص 96 ج 1)
نخلص من ذلك كله، أن أبا هريرة لم يكن يفقه شيئا من أمور الدين ينفع الناس به في زمن
النبي صلى الله عليه وآله وزمن أبى بكر وعمر وعثمان .
أما التأذين الذى كان يحسنه مع العلاء بن الحضرمي؛ وظل يؤدية إلى زمن مروان بن الحكم الذى كان واليا لمعاوية على المدينة بعد سنة 41 ه التى تمت فيها الغلبة لمعاوية؛ فيبدو أن إحسان أبى هريره له إنما جاءه، لانه كان يجيد الحداء في زمن شبابه أيام خدمته لابن عفان وبسرة ابنة غزوان - وبذلك يثبت ثبوتا قاطعا صحة ما حققه ابن سعد في طبقاته وغيره من أن أبا هريرة لم يظهر بالفتوى والتحديث إلا بعد مقتل عثمان -
ثم إن العلاء لما غزا زارة ودارين ، و هما من أعمال البحرين ، في خلافة عمر بن الخطاب رأى أبو هريرة أن يهتبل هذه
الفرصة لكى يزدلف بشئ إلى مولاه العلاء، فأخذ يظهر براعته في تصوير ما بهره مما زعم أنه (شاهد بنفسه) من بطولة العلاء وشجاعته في هذه الغزوة ، مما يجعله في منزلة سعد بن أبى وقاص أو خالد بن الوليد في البطولة. فكان كلامه في ذلك أقرب إلى الخرافات منه إلى الحقيقة، وإليك شيئا مما قاله لكى تقف على مقدار براعته وتفننه في الرواية !
فلقد زعم أنه كان مع العلاء بن الحضرمي لما بعث في أربعة آلاف إلى البحرين فانطلقوا حتى أتوا على خليج من البحر ما خاضه قبلهم أحد ! ولا يخوضه بعدهم أحد ! وأخذ العلاء بعنان فرسه فسار على وجه الماء ! وسار الجيش وراءه، قال:
فوالله؛ ما ابتل لنا قدم ولا خف، ولا حافر !
وفى حديث آخر : (رأيت) من العلاء أشياء لا أزال أحبه أبدا، قطع البحر يوم دارين وقدم يريد البحرين، فدعا الله بالدهناء، فنبع لهم ماء فارتووا، ونسى رجل منهم بعض متاعه فرد عليه فلقيه ولم يجد الماء، ومات ونحن على غير ماء فأبدى الله لنا سحابة فمطرنا فغسلناه، وحفرنا له (بسيوفنا) ودفناه ولم نلحد له !
وفى رواية له قال: دفنا العلاء، ثم احتجنا إلى رفع لبنة فرفعناها فلم نجد العلاء في اللحد:
وكل الذى هول به أبو هريرة لم تكن حقيقته إلا أن جيش العلاء لمّا تحصن منه في دارين جمْع من المحاربين له - وكان الماء يفصل بينهم ـ دلّه كراز النكرى على مخاضة في الماء فخاضها العلاء بجيشه ووصل إلى دارين وفتحها،
(وقد عبر إلى دارين من مخاضة كان يخوض منها الناس وأن كراز النكرى هو الذى دلهم عليها ).
إرجع في ذلك إلى الاستيعاب لابن عبد البر، والاصابة لابن حجر، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ومعجم البلدان، وفتوح البلدان للبلاذرى، وطبقات ابن سعد ص 162 ]
من هذا كله يتبين بما لا شك فيه أن فنّان المضيرة قد ظل بالبحرين من يوم أن بعثه النبي مع العلاء في سنة 8 ه ، ولم يعد إلى المدينة لا في عهد النبي صلى الله عليه وآله ولا في عهد أبى بكر، وهذا ينافى قطعا ما زعمه هو من أنه أقام مع النبي ثلاث سنين ، حيث يروى عنه أنه قال :
قدمت ؛ و الله ؛ ورسول الله صلى الله عليه و سلّم بخيبر، و أنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات ، و أقمت معه حتى توفي أدور معه في بيوت نسائه و أخدمه و أغزو و أحج معه و أصلي خلفه ، فكنت و الله أعلم الناس بحديثه
سير أعلام النبلاء ، ج2 ، ص605
فأول ما يتبادر إلى الذهن ، و نحن نقرأ هذا الحديث ،هو ما الذي اضطر فنّان المضيرة إلى القسم بالله مرّتين فيه؟
و هل محدث ،راوية من طينة أبي هريرة ،محتاج للحلف و القسم حتى يصدّق الناس أقواله؟
ثمّ لو لم يكن في أقواله ما يدعو إلى الشكّ و الرّيبة هل سيحتاج للقسم ؟
يقولون و من تكون يا أبا قثم حتى تكذّب أبا هريرة الصحابي الجليل و تتهمه بالتلفيق و التزوير,؟
و هل يصح أن يكذب صحابي ممن يرجع لهم الفضل الكبير بعد رسول الله في تشييد صرح هذا الدين العظيم؟
و الحقّ الحقّ ، أني لست ابن قتيبة الذي قال بأنّه أول راوية أتهم في الإسلام,و لا أنا من توجه إليه أبو هريرة بقوله
إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله (ص) ـ صحيح البخاري كتاب البيوع ، حديث 1906 ـ
أو بقوله
يقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث على رسول الله ، و الله الموعد ـ نفس المصدر كتاب المزارعة ، حديث 2179 ـ
أو قوله عند مسلم
إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله ( ص ) ـ صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة ، حديث 4547
فروايات فناننا هذه تبين إلى أي مدى كان مثار شبهات في عصره و من طرف معاصريه .
فإذا كان عدد الأحاديث التي يرويها عن النبي و الموثقة باسمه في الكتب التسعة ، يصل إلى 8740 حديثا على 62169 حديثا موثقا حسب ترقيم العالمية فإن نسبة ما رواه فنّاننا تكون هي 14,05 من مجموع الأحاديث ، أي ما ينيف عن السبع,
أفلا يعد هذا لوحده مدعاة للتشكيك في مصداقية الرجل و اتهامه بالمبالغة المقصودة في الحديث؟
أمّا إذا أضفنا إليه ما أورده البخاري بسنده إلى أبي هريرة حين قال :
و تقولون ما بال المهاجرين و الأنصار لا يحدّثون عن رسول الله ( ص ) بمثل حديث أبي هريرة ـ صحيح البخاري ، كتاب العلم ، حديث 1906 ـ
و ما ورد عند الإمام أحمد بسنده إلى أبي هريرة من أنه قال
إنكم تقولون ما بال المهاجرين لا يحدّثون عن رسول الله (ص) بمثل هذه الأحاديث ، و ما بال الأنصار لا يحدثون عن رسول الله (ص) بهذه الأحاديث. ـ مسند أحمد ، باقي مسند المكثرين ، حديث 7380
فإننا نجد أن ما اتهمه به معاصروه يزداد و يتفاقم
فهذه تهمة أخرى، تهمة الإختلاف في أحاديثه التي لم يرد مثلها لا عند المهاجرين و لا الأنصار ,تنضاف إلى تهمة الإكثار في التحديث
و العجيب أن فنّاننا يورد تهمه ، و في نفس الوقت يأتي بدافاعه عن نفسه ممارسا لعبة القط و الفأر، و القاضي و المتهم
ففي دفاعه عن المبالغة في التحديث ، يروي البخاري بسنده إليه أنه قال
و لولا آيتان في كتاب الله ما حدّثت حديثا ، ثمّ يتلو ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات و الهدى إلى قوله (الرحيم) ـ الآية 160/159 ، سورة البقرة ـ
صحيح الخاري ،كتاب الطّبّ ، حديث 115
و يروي في نفس الإطار ابن ماجة في سننه عنه قوله
و الله لولا آيتان في كتاب الله ما حدّثت عنه ، يعني عن النبي (ص) ، شيئا أبدا لولا قول الله : إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب إلى آخر الآيتين (الآية147 ، سوة البقرة ) سنن ابن ماجة ،المقدمة ،حديث 258
فتبعا لهذا الدّفاع نجد فنان المضيرة يعتبر ما عنده من الأخبار علما لا ينبغي كتمانه ، و يعتبر نفسه المقصود بالآيتين : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب ، اولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون ، إلا أن تابوا و أصلحوا و بيّنوا فأولئك أتوب عليهم و أنا التّوّاب الرّحيم .
فأخباره إذا من البيّنات و الهدى الذي بيّنه الله في الكتاب ، و لذلك لا يجوز كتمانها و يجب التحديث بها
و الغريب أن فنّاننا قال في حديث مقابل رواه البخاري بسنده إليه ، في كتاب العلم ، تحت رقم 117
يقول
حفظت عن رسول الله وعائين ، فأمّا أحدهما فبتثه ، و أما الآخر فلو بثتّه قطع هذا البلعوم.
فلماذا يا ترى كتم وعاءا كاملا من العلم ؟ و أي علم هذا الذي يوضع في الأوعية ؟
و من جهة أخرى إذا كانت أحاديثه التي ينفرد بها تعتبر فعلا من البينات و الهدى المبَيّن في الكتاب ،و لا يحدّث بها المهاجرون و الأنصار ، فهل يمكن اعتبارهم كتموا جزءا من الكتاب ؟
ففي إطار ردّه على تهمة إختلاف أحاديثه عن أحاديث المهاجرين و الأنصار يروي عنه
البخاري في صحيحه كتاب العلم ح 115 أنه قال
إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق ، و إن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم
كما يروي عنه مسلم في صحيحه قوله
و كان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق ،و كانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم
صحيح مسلم ،كتاب فضائل الصحابة ،حديث 4547
فهو إذا لم يكن منشغلا بمال و لا تجارة تمنعه من حضور مجالس التحديث ، التي يتغيب عنها المهاجرون و الأنصار لكونهم منشغلين بها
و هذا ما نسمعه منه مباشرة عندما يقول في الحديث 7380 من باقي مسند المكثرين مسند أحمد ، حيث يقول :
و إني كنت أمرأ معتكفا و كنت أكثر مجالسة رسول الله ( ص ) أحضر إذا غابوا و أحقظ إذا نسوا
إذا فأبو هريرة كان متهما في عصره من طرف معاصريه ،و من الناس عامة ،و من الصحابة من الأنصار و المهاجرين، لهذا كان محتاجا لكل هذه الردود و الدفوعات المجانية التي نجدها مبثوته هنا و هناك في كتب السنة,
على أن هذه الردود تثير الكثير من الإشكاليات التي سنعرض منها في آخر هذا المقال لما يلي
إذا كان أبو هرية قد صحب النبي ،ضدّا على ما قلناه و تبعا لما رواه هو ـ لمدة ثلاث سنين ،أوّلا و كان هؤلاء المهاجرون و الأنصار منهم من صحب النبي لأكثر من العقد أو العقدين من الزمن ، و منهم من له به علاقة قرابة و مصاهرة و صحبة و خدمة و جوار ، و تشهد لهم الروايات المختلفة بملازمة الرسول ، فلم لا يحدّثون بمثل الذي يحدث به فنّاننا ؟
ثانيا، إن الملازمة الهريريه للرسول ، التي يفرد لها كما سبق أن رأينا، سيلا من الأحاديث لا يشهد بها المهاجرون و لا الأنصار , فإنك لا تجد له أثرا فيما يتعلّق بالسنوات التي يقول أنه لازم النبي (ص) فيها ، إلا ما يذكره و يرويه هو نفسه
كما لا تجد له أثرا يذكر قي الأحداث التي كانت عند وفاة النبي و التي تلتها. فهو لم يشارك في احتضاره و لا جنازته و لا دفنه ، و لا في اختيار الخليفة الأول و لا الثاني . و لا غيرها من الأحداث التي كان لملازمي النبي فيها أثر كبير و ذكر عظيم . فلم يذكره أحد و لم يشهد به أحد .
ثالثا ، إذا كان للأنصار و المهاجرين أشغال و أموال تلهيهم و تمنعهم عن ملازمة الرسول،
أ فلم تكن للرسول أشغال و مهامّ تلهيه عن ملازمة فنّان المضيرة؟؟
أم أنه كان هو الآخر معتكفا بالمسجد لا يبرحه إلا برفقة فنّاننا,؟
إلى الحلقة القادمة من هريرياتنا
أبو قثم
الجزء الخامس
إبعاد أبي هريرة ( تتمة)
تبين مما ذكرنا آنفا أن فنّان المضيرة قدم من بلاده على النبي وهو بخيبر سنة 7 ه وأن النبي
بعثه مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين بعد منصرفه من الجعرانة ، بعد أن قسم مغانم خيبر، وكان ذلك في شهر ذي القعدة سنة 8 ه .
وبذلك تكون مدة إقامته بجوار النبي - مقيما مع أهل الصفة تبتدئ من شهر صفر سنة 7 ه وتنتهى في شهر ذى القعدة سنة 8 ه ـ
وإذا حسبنا هذه المدة وجدنا أنها لا تزيد على سنة واحدة وتسعة أشهر فقط !
وهاك نص ما قاله أبو هريرة في ذلك ونقله ابن سعد في طبقاته الكبرى (ص 77 ج 4 ق 2) عن سالم مولى بنى نصر قال:
سمعت أبا هريرة يقول:
بعثنى رسول الله صلى الله عليه وآله مع العلاء بن الحضرمي وأوصاه بى خيرا، فلما فصلنا قال لى: إن رسول الله قد أوصاني بك خيرا، فانظر ماذا تحب ؟ قال قلت: تجعلني أؤذن لك ولا تسبقني بآمين. فأعطاني ذلك
وقد جاء هذا الخبر بحرفه في الاصابة لابن حجر العسقلاني (ص 204 ج 7) وإليك نص ما قاله:
" بعثنى رسول الله مع العلاء بن الحضرمي فأوصاه بى خيرا، فقال لي : ما تحبّ ؟ فقلت : أؤذن لك و لا تسبقني بأذاني:
ولما ذهب إلى البحرين، كان عمله هناك (التأذين) كما طلب هو، ولو أن العلاء كان يأنس منه القدرة على أداء أي عمل دينى، لما قال له: انظر ماذا تحب ؟
وكذلك لو كان النبي يعلم منه أنه كفؤ للقيام بأي أمر من أمور الدين لقال للعلاء وهو يوصيه: إنى أرسله معك ليعلّم الناس دينهم، كما كان يرسل غيره مثل معاذ بن جبل وابن مسعود، وأبى موسى الاشعري، الذى أسلم مع أبى هريرة في وقت واحد - وغيرهم - ليعلموا الناس دينهم !
قال الغزالي في المستصفى إنه قد تواتر أن الرسول صلى الله عليه وآله كان لا ينفذ أمراءه
وقضاته ورسله وسعاته إلى الاطراف إلا لقبض الصدقات وحل العهود وتبليغ أحكام الشرع . وليس أبو هريرة من هؤلاء جميعا في شئ).
(ص 96 ج 1)
نخلص من ذلك كله، أن أبا هريرة لم يكن يفقه شيئا من أمور الدين ينفع الناس به في زمن
النبي صلى الله عليه وآله وزمن أبى بكر وعمر وعثمان .
أما التأذين الذى كان يحسنه مع العلاء بن الحضرمي؛ وظل يؤدية إلى زمن مروان بن الحكم الذى كان واليا لمعاوية على المدينة بعد سنة 41 ه التى تمت فيها الغلبة لمعاوية؛ فيبدو أن إحسان أبى هريره له إنما جاءه، لانه كان يجيد الحداء في زمن شبابه أيام خدمته لابن عفان وبسرة ابنة غزوان - وبذلك يثبت ثبوتا قاطعا صحة ما حققه ابن سعد في طبقاته وغيره من أن أبا هريرة لم يظهر بالفتوى والتحديث إلا بعد مقتل عثمان -
ثم إن العلاء لما غزا زارة ودارين ، و هما من أعمال البحرين ، في خلافة عمر بن الخطاب رأى أبو هريرة أن يهتبل هذه
الفرصة لكى يزدلف بشئ إلى مولاه العلاء، فأخذ يظهر براعته في تصوير ما بهره مما زعم أنه (شاهد بنفسه) من بطولة العلاء وشجاعته في هذه الغزوة ، مما يجعله في منزلة سعد بن أبى وقاص أو خالد بن الوليد في البطولة. فكان كلامه في ذلك أقرب إلى الخرافات منه إلى الحقيقة، وإليك شيئا مما قاله لكى تقف على مقدار براعته وتفننه في الرواية !
فلقد زعم أنه كان مع العلاء بن الحضرمي لما بعث في أربعة آلاف إلى البحرين فانطلقوا حتى أتوا على خليج من البحر ما خاضه قبلهم أحد ! ولا يخوضه بعدهم أحد ! وأخذ العلاء بعنان فرسه فسار على وجه الماء ! وسار الجيش وراءه، قال:
فوالله؛ ما ابتل لنا قدم ولا خف، ولا حافر !
وفى حديث آخر : (رأيت) من العلاء أشياء لا أزال أحبه أبدا، قطع البحر يوم دارين وقدم يريد البحرين، فدعا الله بالدهناء، فنبع لهم ماء فارتووا، ونسى رجل منهم بعض متاعه فرد عليه فلقيه ولم يجد الماء، ومات ونحن على غير ماء فأبدى الله لنا سحابة فمطرنا فغسلناه، وحفرنا له (بسيوفنا) ودفناه ولم نلحد له !
وفى رواية له قال: دفنا العلاء، ثم احتجنا إلى رفع لبنة فرفعناها فلم نجد العلاء في اللحد:
وكل الذى هول به أبو هريرة لم تكن حقيقته إلا أن جيش العلاء لمّا تحصن منه في دارين جمْع من المحاربين له - وكان الماء يفصل بينهم ـ دلّه كراز النكرى على مخاضة في الماء فخاضها العلاء بجيشه ووصل إلى دارين وفتحها،
(وقد عبر إلى دارين من مخاضة كان يخوض منها الناس وأن كراز النكرى هو الذى دلهم عليها ).
إرجع في ذلك إلى الاستيعاب لابن عبد البر، والاصابة لابن حجر، وسير أعلام النبلاء للذهبي، ومعجم البلدان، وفتوح البلدان للبلاذرى، وطبقات ابن سعد ص 162 ]
من هذا كله يتبين بما لا شك فيه أن فنّان المضيرة قد ظل بالبحرين من يوم أن بعثه النبي مع العلاء في سنة 8 ه ، ولم يعد إلى المدينة لا في عهد النبي صلى الله عليه وآله ولا في عهد أبى بكر، وهذا ينافى قطعا ما زعمه هو من أنه أقام مع النبي ثلاث سنين ، حيث يروى عنه أنه قال :
قدمت ؛ و الله ؛ ورسول الله صلى الله عليه و سلّم بخيبر، و أنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات ، و أقمت معه حتى توفي أدور معه في بيوت نسائه و أخدمه و أغزو و أحج معه و أصلي خلفه ، فكنت و الله أعلم الناس بحديثه
سير أعلام النبلاء ، ج2 ، ص605
فأول ما يتبادر إلى الذهن ، و نحن نقرأ هذا الحديث ،هو ما الذي اضطر فنّان المضيرة إلى القسم بالله مرّتين فيه؟
و هل محدث ،راوية من طينة أبي هريرة ،محتاج للحلف و القسم حتى يصدّق الناس أقواله؟
ثمّ لو لم يكن في أقواله ما يدعو إلى الشكّ و الرّيبة هل سيحتاج للقسم ؟
يقولون و من تكون يا أبا قثم حتى تكذّب أبا هريرة الصحابي الجليل و تتهمه بالتلفيق و التزوير,؟
و هل يصح أن يكذب صحابي ممن يرجع لهم الفضل الكبير بعد رسول الله في تشييد صرح هذا الدين العظيم؟
و الحقّ الحقّ ، أني لست ابن قتيبة الذي قال بأنّه أول راوية أتهم في الإسلام,و لا أنا من توجه إليه أبو هريرة بقوله
إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله (ص) ـ صحيح البخاري كتاب البيوع ، حديث 1906 ـ
أو بقوله
يقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث على رسول الله ، و الله الموعد ـ نفس المصدر كتاب المزارعة ، حديث 2179 ـ
أو قوله عند مسلم
إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله ( ص ) ـ صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة ، حديث 4547
فروايات فناننا هذه تبين إلى أي مدى كان مثار شبهات في عصره و من طرف معاصريه .
فإذا كان عدد الأحاديث التي يرويها عن النبي و الموثقة باسمه في الكتب التسعة ، يصل إلى 8740 حديثا على 62169 حديثا موثقا حسب ترقيم العالمية فإن نسبة ما رواه فنّاننا تكون هي 14,05 من مجموع الأحاديث ، أي ما ينيف عن السبع,
أفلا يعد هذا لوحده مدعاة للتشكيك في مصداقية الرجل و اتهامه بالمبالغة المقصودة في الحديث؟
أمّا إذا أضفنا إليه ما أورده البخاري بسنده إلى أبي هريرة حين قال :
و تقولون ما بال المهاجرين و الأنصار لا يحدّثون عن رسول الله ( ص ) بمثل حديث أبي هريرة ـ صحيح البخاري ، كتاب العلم ، حديث 1906 ـ
و ما ورد عند الإمام أحمد بسنده إلى أبي هريرة من أنه قال
إنكم تقولون ما بال المهاجرين لا يحدّثون عن رسول الله (ص) بمثل هذه الأحاديث ، و ما بال الأنصار لا يحدثون عن رسول الله (ص) بهذه الأحاديث. ـ مسند أحمد ، باقي مسند المكثرين ، حديث 7380
فإننا نجد أن ما اتهمه به معاصروه يزداد و يتفاقم
فهذه تهمة أخرى، تهمة الإختلاف في أحاديثه التي لم يرد مثلها لا عند المهاجرين و لا الأنصار ,تنضاف إلى تهمة الإكثار في التحديث
و العجيب أن فنّاننا يورد تهمه ، و في نفس الوقت يأتي بدافاعه عن نفسه ممارسا لعبة القط و الفأر، و القاضي و المتهم
ففي دفاعه عن المبالغة في التحديث ، يروي البخاري بسنده إليه أنه قال
و لولا آيتان في كتاب الله ما حدّثت حديثا ، ثمّ يتلو ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات و الهدى إلى قوله (الرحيم) ـ الآية 160/159 ، سورة البقرة ـ
صحيح الخاري ،كتاب الطّبّ ، حديث 115
و يروي في نفس الإطار ابن ماجة في سننه عنه قوله
و الله لولا آيتان في كتاب الله ما حدّثت عنه ، يعني عن النبي (ص) ، شيئا أبدا لولا قول الله : إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب إلى آخر الآيتين (الآية147 ، سوة البقرة ) سنن ابن ماجة ،المقدمة ،حديث 258
فتبعا لهذا الدّفاع نجد فنان المضيرة يعتبر ما عنده من الأخبار علما لا ينبغي كتمانه ، و يعتبر نفسه المقصود بالآيتين : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب ، اولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون ، إلا أن تابوا و أصلحوا و بيّنوا فأولئك أتوب عليهم و أنا التّوّاب الرّحيم .
فأخباره إذا من البيّنات و الهدى الذي بيّنه الله في الكتاب ، و لذلك لا يجوز كتمانها و يجب التحديث بها
و الغريب أن فنّاننا قال في حديث مقابل رواه البخاري بسنده إليه ، في كتاب العلم ، تحت رقم 117
يقول
حفظت عن رسول الله وعائين ، فأمّا أحدهما فبتثه ، و أما الآخر فلو بثتّه قطع هذا البلعوم.
فلماذا يا ترى كتم وعاءا كاملا من العلم ؟ و أي علم هذا الذي يوضع في الأوعية ؟
و من جهة أخرى إذا كانت أحاديثه التي ينفرد بها تعتبر فعلا من البينات و الهدى المبَيّن في الكتاب ،و لا يحدّث بها المهاجرون و الأنصار ، فهل يمكن اعتبارهم كتموا جزءا من الكتاب ؟
ففي إطار ردّه على تهمة إختلاف أحاديثه عن أحاديث المهاجرين و الأنصار يروي عنه
البخاري في صحيحه كتاب العلم ح 115 أنه قال
إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق ، و إن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم
كما يروي عنه مسلم في صحيحه قوله
و كان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق ،و كانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم
صحيح مسلم ،كتاب فضائل الصحابة ،حديث 4547
فهو إذا لم يكن منشغلا بمال و لا تجارة تمنعه من حضور مجالس التحديث ، التي يتغيب عنها المهاجرون و الأنصار لكونهم منشغلين بها
و هذا ما نسمعه منه مباشرة عندما يقول في الحديث 7380 من باقي مسند المكثرين مسند أحمد ، حيث يقول :
و إني كنت أمرأ معتكفا و كنت أكثر مجالسة رسول الله ( ص ) أحضر إذا غابوا و أحقظ إذا نسوا
إذا فأبو هريرة كان متهما في عصره من طرف معاصريه ،و من الناس عامة ،و من الصحابة من الأنصار و المهاجرين، لهذا كان محتاجا لكل هذه الردود و الدفوعات المجانية التي نجدها مبثوته هنا و هناك في كتب السنة,
على أن هذه الردود تثير الكثير من الإشكاليات التي سنعرض منها في آخر هذا المقال لما يلي
إذا كان أبو هرية قد صحب النبي ،ضدّا على ما قلناه و تبعا لما رواه هو ـ لمدة ثلاث سنين ،أوّلا و كان هؤلاء المهاجرون و الأنصار منهم من صحب النبي لأكثر من العقد أو العقدين من الزمن ، و منهم من له به علاقة قرابة و مصاهرة و صحبة و خدمة و جوار ، و تشهد لهم الروايات المختلفة بملازمة الرسول ، فلم لا يحدّثون بمثل الذي يحدث به فنّاننا ؟
ثانيا، إن الملازمة الهريريه للرسول ، التي يفرد لها كما سبق أن رأينا، سيلا من الأحاديث لا يشهد بها المهاجرون و لا الأنصار , فإنك لا تجد له أثرا فيما يتعلّق بالسنوات التي يقول أنه لازم النبي (ص) فيها ، إلا ما يذكره و يرويه هو نفسه
كما لا تجد له أثرا يذكر قي الأحداث التي كانت عند وفاة النبي و التي تلتها. فهو لم يشارك في احتضاره و لا جنازته و لا دفنه ، و لا في اختيار الخليفة الأول و لا الثاني . و لا غيرها من الأحداث التي كان لملازمي النبي فيها أثر كبير و ذكر عظيم . فلم يذكره أحد و لم يشهد به أحد .
ثالثا ، إذا كان للأنصار و المهاجرين أشغال و أموال تلهيهم و تمنعهم عن ملازمة الرسول،
أ فلم تكن للرسول أشغال و مهامّ تلهيه عن ملازمة فنّان المضيرة؟؟
أم أنه كان هو الآخر معتكفا بالمسجد لا يبرحه إلا برفقة فنّاننا,؟
إلى الحلقة القادمة من هريرياتنا
أبو قثم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق