ابن الراوندي
حياته و عصره
كلّ الروايات المؤرخة لحياة الراوندي تؤكد أنه عاش و مات في القرن الثالث الهجري. و لكن المؤرخين اختلفوا في نسبته.
فمنهم من ينسبه إلى قرية ريوند إحدى قرى قاشان بناحية أصبهان فتكون نسبته ريوندي ، و منهم من ينسبه إلى قرية راوند من قرى مرو في خراسان ، فتكون نسبته آنذاك الراوندي المعروفة و الشائعة عنه (القاموس المحيط ، الفيروز آبادي ، ج1 ص297)
يقال أنّ عائلته يهودية ، هاجرت إلى البصرة ، و سكنت حي الخراسانية ، و قد أسلم جدّه و حسن إسلامه و كان والده و عمّه من المعتزلة . و عندما هاجمه الخياط في كتاب الانتصار قال عنه:
(كان من أصحابنا و لا زال عمّه منّا)
هو يحيى بن إسحق الراوندي المزداد في مدينة البصرة عام 212 ه الموافق ل827 م
اعتمدت الرواية التي جاءت في كتاب النجوم الزاهرة:أنه عاش مدة ست و ثمانين سنة و أنه توفي سنة298 للهجرة الموافق ل 911 ميلادية (النجوم الزاهرة ، ابن تفري بردي ،ج2 ص185).فاستبعدت كلَّ الروايات التي تقول أنه عاش حوالي39 أو45 عاما.و رجّحت أنه عاش عمرا مديدا أتاح له كتابة هذه المؤلفات ذات التأثير الفكري العميق في الفكر الإسلامي
ولد ابن الراوندي في عصر المأمون، في عصر أسست فيه دار الحكمة، و ترجمت فيه علوم الأوائل. و كان الخليفة مثالا للرجل العالم.فكان يأمر كبير قضاته( يحيى بن أكثم )أن يحضر له رجالا يحسنون الفقه و السؤال و ردّ الجواب ، فيدخلون عليه، و هو على فراش الملك جالس ، ثمّ ينزع ثيابه ، و ينزعون قلانسهم و يقول لهم :
إنّما بعثت إليكم معشر القوم للمناظرة(العقد الفريد ، ابن عبد ربه ،ج3 ص 42)، و قد أباح حرية القول، قال الجاحظ:
و ما يمنع الناظر للحقّ من القيام بما يلزمه، و قد أمكن القول ، و صلح الدهر ، و خوى نجم التقية، و هبت ريح العلماء ، و كسد العيّ و الجهل و قامت سوق البيان و العلم (كتاب الحيوان ، الجاحظ ، ج1 ،ص97)
يحكي ابن عوف البصري المتوفى سنة(151 ه /
قال الجاحظ
لا تذهب إلى ما تريك العين ، و اذهب إلى ما يريك العقل ، و للأمور حكمان ، حكم ظاهر للحواسّ و حكم باطن للعقول و هو الحجة(كتاب الحيوان ، ج1 ص97)
و في هذا القرن تطوّرت العلوم ، ومنها علم الكلام
و لكن المجتمع رغم تطوّره و ازدهاره اقتصاديا فقد كان ذلك على حساب الريف . كان مُلّاك الأراضي يعيشون بالمدن في ثراء<يأكلون الدّجاج المغذى بالجوز و اللوز و المسقي بالحليب>(ابن قتيبة ،أعلام العرب ، عبد الحميد سند الجندي ، ص74) ، بينما العلماء يعيشون عيشة الكفاف. قال ابن قتيبة: صار العلم عارا على صاحبه ، و الفضل نقصا ، و أموال الملوك وقفا على شهوات النفوس ، و الجاه الذي كان زكاة الشرف يباع بين الخلق(ص 64 ابن قتيبة ، أعلام العرب)
في هذا المجتمع البصري درس ابن الراوندي مبادئ العربية على كبار علماء العصر في اللغة و الفقه و النحو ، فدرس على أبي العباس المبرد (كتاب المقتضب) في النحو ، و هو أكبر مصنّفات المبرد و أنفسها.
يقول ياقوت الحموي
ويزعمون أن سبب عدم انتفاع المبرد بكتابه لأن هذا الكتاب أخذه ابن الراوندي الزنديق عن المبرد ، و تناوله الناس عنه ، فكأنما عاد إليه شؤمه فلا ينتفع منه.
(معجم الأدباء ، ياقوت الحموي ،ج3 ، ص133)
و قد نسب إلى ابن الراوندي كتاب في الردّ على النحويين
قال عنه أبو حيان التوحيدي
سمعت في مجلس أبي سعيد السيرافي في البصرة شيخا من أهل الأدب يقول :
إنّ ابن الراوندي لا يلحن و لا يخطئ لأنه متكلم بارع و جهبذ ناقد، و بحّاث جدل ، و نظار صبور ، و قد استطاع باقتداره على علل النحويين لأنه رآها مفروضة بالتقريب و موضوعة على التمثيل لأنها تابعة للغة جيل من الأجيال و مقترنة بلسان أمة من الأمم ، فلم يكن للعقل مجال إلا بمقدار الطاقة في إيضاح الأمثال.
(البصائر و الذخائر ، أبو حيان التوحيدي تحقيق :إبراهيم الكيلاني)
درس ابن الراوندي الاعتزال على يد أبي الهذيل العلاف و إبراهيم النّظّام ، و لازم هشام بن الحكم و أبا عيسى الورّاق و أبا حفص الحداّد و أبا شاكر الديصاني و غيرهم.
قال عنه أبو القاسم البلخي المتوفى(319 ه/921 م) في كتابه محاسن خراسان:
لم يكن في نظرائه في زمنه أحذق منه بالكلام: و لا أعرف بدقيقه و جليله، و كان في أول أمره حسن السيرة جميل المذهب، كثير الحياء، ثمّ انسلخ من ذلك كله لأسباب عرضت له
(كتاب الفهرست ، ابن النديم ، ص223)
فما هي هذه الأسباب؟
قال ابن المرتضى اليماني(1373 ـ 1436 )
إن سبب كفر ابن الراوندي يعود إلى فاقة لحقته.
(باب ذكر المعتزلة ، توماس أرلوند ص 62)
لم يقبل ابن الراوندي بالحكمة القائلة : إنّ الله تعالى بقدر ما يعطي من الحكمة يمنع من الرزق
لم يقبل ابن الراوندي بهذه الحكمة السخيفة و إن نسبت إلى أفلاطون، فهي تبرير لغنى الغني و فقر الفقير و ليست علاجا
قال أبو حيان التوحيدي:
و قد ابتلي الناس فيها و هي حرمان الفاضل و إدراك الناقص، و لهذا المعنى خلع الراوندي ربقة الدين
(الهوامل و الشوامل ، أبو حيان التوحيدي ،ص 212 ، تحقيق: إبراهيم الكيلاني
و قال شعرا عبّر فيه عن احتجاجه ، قال:
قَسَّمْتّ بيْن الورى معيشَتَهم
قِسْمَةَ سَكــــــرانٍ بَيِّنِ الغلطِ
لو قَسَّـــــمَ الرٍّزْقَ هكذا رجلٌ
قلنا له : قد جُــــننْتَ فاستعطِ
قال ذلك عندما سمع بقصة ابن الجصّاص و المعتضد ، الذي سأله :
أتعـــرف مرارة الخسارة؟
قال ابن الجصّاص: لا.
قال له
تضمَّنْ تمر الكوفة و بعه في البصرة! ففعل.
و شاءت الأقدار أن يسوء موسم الكوفة و ربح الجصّاص المال الوفير ، فقال المعتضد:
سبحان الله ، كلّ إنسان يأكل بعقله إلا الجصّاص يأكل بحظه.قال ابن الراوندي(معاهد التنصيص ، أبو الفتح عبد الرحمن العباسي ، تحقيق : محمد محي الدين عبد الحميد ـ القاهرة 1947):
سبحان من أنزل الأيام منزلــــــها
و صيّر الناس مرفوضا و مرموقا
كم عاقل في الورى أعيت مذاهبـه
و جاهل في الورى تلقاه مرزوقـــا
هذا الذي ترك الأوهام حائــــــــــرة
و صيّر العالــــــــم النحرير زنديقــا
علّق الحافظ عبد الوهاب السبكي على هذا الشعر قائلا
قبّحه الله ما أجرأه على الله(طبقات الشافعية الكبرى ج3 ص97 ، عبد الوهاب السبكي))
عاش ابن الراوندي العالم حياة بؤس و تشرد ، و لكنه رغم فقره كان محبّا للحكمة و الفكاهة مع أنه لم يعرف الفرح أو طعم السرور و قد عبّر عن حالته شعرا
(معاهد التنصيص ج6 ص158)
محن الزمان كثيرة لا تنقضي
و سروره يأتيــــــــك كالأعياد
مــلك الأكارم فاسترقّ رقابهم
و تراه رقّــــا في يـد الأوغــاد
كما أنه عبّر عن سخطه بصوّر كلامية جميلة أشبه بصور كاريكاتورية عصرية
قال ابن كثير
و قد أسندت إليه حكايات من المسخرة و الاستهتار و الكفر و الكبائر، منها ما هو صحيح عنه، ومنها ما هو مفتعل عليه ، ممن هم على شاكلته و طريقته ومسلكه في الكفر و التستّر في المسخرة يخرجونها في قوالب سخرة و قلوبهم مشحونة بالكفر و الزندقة
(البداية و النهاية ، ابن كثير ، ج11 ص 113)
و من هذه الحكايات الساخرة التي تحكى عن الراوندي نذكر
حكاية : ما تجرّأ الله علينا لولاكم
وقف ابن الراوندي يوما عند رجل يبيع الباقلاء (الفول النابت) فنظر إلى رجل غني اشترى الباقلاء ، و أكل لبّها و رمى قِشْرَها ، و مضى من غير حمد و لا شكر. فأتى بعده رجل فقير فالتقط القشور و أكلها حامدا شاكرا لله. فقرب إليه ابن الراوندي و صفعه صفعة محرقة و قال: ما تجرّأ الله علينا معاشر المساكين إلا منك و من أمثالك إذ علم منكم الشكر و أكل القشور
(زهر الربيع ، السيد نعمة الله الشوشتري الجزائري ، ص38)
حكاية : دعوتك بأن تسهّل لي من يحملني فسهلت لي من أحمله
ذكر المسعودي: أنّ الأتراك كانت تؤدي العوام بمدينة السلام بجريها بالخيول في الأسواق، و ما ينال الضعفاء و الصبية من ذلك، فكان أهل بغداد ربما ثاروا ببعضهم فقتلوه عند صدمه لامرأة،أو شيخ كبير أو ضرير.فعزم المعتصم على النقلة منهم إلى موضع ـ سر من رأى ـ
(مروج الذهب ، المسعودي ،ج2 ص272 ، تحقبق محمد محي الدين عبد الحميد).
و فيها قال ابن الراوندي"
أعياني التعب فدعوت الله أن يسهّل لي من يحملني على دابته، و إذا أقبل رجل من جنود السلطان ، و كانت فرسه في ذلك الوقت ولدت فلوا لا يقدر على المشي من الولادة.نادى الجندي ابن الراوندي:
احمل هذا الفلو على رقبتك حتى نصل إلى البلد! فامتنع . فعلاه الرجل التركي بالسوط ، و أقبل عليه بالضرب.
فقال ابن الراوندي مناجيا:
يا رب دعوتك بأن تسهّل لي من يحملني ، فسهّلت لي من أحمله
(زهر الربيع ص 163)
هذا نموذج مما كانت العامة تتندر به من قصص ابن الراوندي و يضحكون منها و لكن ابن الوردي قال
و العجب أن العوامّ يضحكون لأقواله و يغفلون عن كونه سبّ النبي في مصنّفاته في عدّة مواضع
(تتمة المختصر ، ابن الوردي ،ج1 ص248)
في حلقة مقبلة سنرى موقف المعتزلة من الراوندي و موقفه من الاعتزال ،و سنعرّج على تشيّعه لآل البيت دون التعريف بمؤلفاته
أبو قثم
هناك 9 تعليقات:
تحب النت
تحب القراءة
تحب الاطلاع على كنوز الزمن الماضي
تحب ان تقراء كتابات نظيفة
فعليك ان تزور بيت الشيخ الجليل
ابو القثم المعزز
يااخي هنيالك صدقني احسدك على كل هذه
المعلومات كم من المراجع قرأت
يااخي هذا الاسلام كل ماارى كتاب مثلك وبرجاحة عقلك وعمق تفكيرك اللامحدود
اتأسف على ضياع كل هذا الوقت بأشياء تعطل تقدم البشرية فلولا هذا الدين المتسلط لكنت الان وانني متأكد تسطر احرفك من ذهب في مجالات تستفاد منها البشرية جمعاء
لومهما كتبت واثنيت على قلمك فلن اوفيك حقك
اعجبني هذا المقال كثيرا وخصوصا انه يزيل الغبار عن شخصيات تاريخية رفضت الظلم والاستعباد وأنكرت وجود الله والانبياء منذ ازمنة لم تعرف فيها كل هذه التكنولوجيا
اعيب عليك عدم مشاركتك معنا في منتديات الراوندي
قلمك الرائع سيجمله
تحياتي
اخوك البابلي او الراعي كما احببت
يا هلا بك با حبيب
كل من ذوقك يا سيد الرجال
و الله في كل حين تخجل تواضعنا يا سيد الرجال
أهلا بك يا عظيم
أبو قثم
يا سيد الرجال
مشكل هذه الأمة و أسفين عجلة تقدمها يكمن في تلك الكتب و الأسفار الصفراء المهملة ، التي نظن أن الزمن قد عفى عليها.و لكن هيهات
إنها تحكمنا با سيد الرجال في كل صغيرة و كبيرة
‘إنها تتحكم في مجتمعاتنا بشكل رهيب يجعل المجتمعات كراكيز و لعبا في أيدي تلك الكتب تلهو بها كيفما تشاء و تفككها كيفما يحلو لها و تركّب
لا مستقبل لهذه المجتمعات دون تعطيل مفعول تلك الأسفار . و حتى نتمكن من ذلك يجب الاعتناء بها بالإحياء و الدراسة و النقد
أمّا إهمالها فهو ما أعطاها فرصة الاستشراء و الانتشار و بالتالي التحكم في الناس و في عقولهم و أحوالهم و مجتمعهم
أمّا عن المنتدى يا صديقي فإنّ هذا المقال مهبأ له ، و قد تجده منشورا هناك
أبو قثم
هلا بالعزيز بو قثم
شكراً على مقالك الرائع
الراوندي ليس يهودي وإنما عربي قح ولكنهم كعادتهم يحاولون تشويه سمعته بالقول أنه يهودي ولو كان يهودي لكان هذا شرف له ولكنه ليس كذلك
والدليل كلامه وشعره ولي مقال طويل عنه ولكنه ضمن كتابي الراجم
دمت لنا سالماً غانماً بعيداً عن أوباش الإسلام
وسلامي لأخي البابلي الكبير
سلام حار من كل قلبي لثلاثتكم أبو قثم + الروندي 1 والروندي2
مقال جميل
نحتاج لنبش التراث واخراج الكنوز منه
فقد ملننا التراث النتن الذي يوزع مجانا ولا يباع هههه
تحياتي لك
يا هلا بشسخي الكبير
القول بأن ابن الراوندي ذو أصول يهودية ليس بعني بتاتا أنه يهودي ، بل القول أن الراوندي معتزلي مرّة و شيعي أخرى لا يدع مجالا للشك في إسلام الرجل سابقا
كما أنّ العروبة لا علاقة لها باليهودية.فكم من العرب لا زالوا يهودا و مسيحيين و صابئة و غير ذلك.
أمّا عن مداخلتك في الراجم فلم أستطع إليها لحدّ الآن سبيلا، لكثرة الصفحات ،رغم أني وضعت اسم عبد الأمير الأعسم كما نصحتني من قبل
دمت لنا يا شيخنا الكبير
أبو قثم
يا مرحى أعزّ جارة
احتراماتي و تقدبراتي سيدتي الكبيرة
أبو قثم
بيلسانكس
با مرحبا
نوّرت سماء المدوّنة
شكرا ألف شكر أيتها العزيزة
أبو قثم
إرسال تعليق