فنّان المضيرة
من العزل إلى الفتنة
ما أن عزله عمر ، لعدم أمانته و سوء أخلاقه و نذالة طبعه ، عن ولاية البحرين ، و اقتسمه ماله ، و رمى به صاغرا مستصغرا؛ حتى انتهى إلى مسمعه اللئيم ، و علمه الزنيم ، أن بالمدينة حِبرا من أكابر أحبار اليهود ، حديثَ العهد بالإسلام ، يدعى كعبا الأحبار. استطاع أن يحوز على ثقة عمر الذي كان يسمع عنه أخبار التوراة . فعلا شأنه بين الناس ونال مرتبة عظيمة.
كما أن كعبا هذا، بعد أن قال للمدعو قيس بن خرشة :
ـ ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي أنزلت على موسى ما يكون عليه و ما يخرج منه
( رواه الطبري و البيهقي في الدّلائل)
داع صيته بين جمهور المسلمين المتعطّشين لمعرفة ما جهل من دينهم ، الذي يحيلهم قرآنه و نبيه على مصادر الأمم من قبلهم، من توراة و إنجيل ، إذ يقول : و اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . فغدا هذا الحبر نجما ساطعا في المدينة يقصده الدّاني و القاصي. وقد بلغ من علوّ شأنه أن أصبح يلقي دروسه في المسجد.
فقد نقل أحمد أمين في الصفحة الثامنة و التسعين بعد المائة من فجر الإسلام عن طبقات ابن سعد حكاية رجل دخل المسجد فإذا عامر بن عبد الله بن عبد القيس جالس إلى كتب و بينها سفر من أسفار التوراة و كعب يقرأ
(ص 79 ج7 طبقات بن سعد)
فما كان من فنّاننا بعد أن سمع ما سمع إلا أن سال لعابه، فخفّ من فوره، حاث الخطى يبحث عن هذا الكنز العظيم الذي لم يخطر له على بال من قبل.
روى ابن سعد في طبقاته الكبرى عن عبد الله بن شقيق أنّ أبا هريرة جاء إلى كعب يسأل عنه ، و كعب في القوم ، فقال كعب ما تريد منه ؟ فقال : أما إني لا أعرف أحدا من أصحاب رسول الله أن يكون أحفظ لحديث رسول الله منّي !! فقال كعب : أما إنك لم تجد طالب شيء إلا سيشبع منه يوما من الدّهر، إلا طالب علم أو طالب دنيا ! فقال أبو هريرة : أنت كعب ؟ فقال : نعم ، قال :لمثل هذا جئتك
( ص 57 ج4 الطبقات الكبرى لابن سعد)
هكذا و بكل ما أوتي من السفالة و الوضاعة تراه يعرض على كعب ما حفظه زورا عن النبي مقابل أن يعلّمه كعب ما يعرفه من التوراة. على أن كعبا بدهائه و فطنته قد تبيّن غباء فنان المضيرة و سذاجته فتبناه و قبله تلميذا عنده ، ينفث فيه أكاذيبه ، و يرسله ليبثها في الناس تحت اسم ـ علم كعب ـ و ساعده في ذلك حبر المحدّثين عبد الله بن عباس الذي يذكر عنه طه حسين في كتابه الشيخان ( ص254/255) أن كعبا كان مولى لأبيه العباس بن عبد المطلب لمّا قدم المدينة ليسلم أيام عمر.
فكان فناننا و عبد الله بن عباس من أكثر من نشروا علم كعب الأحبار هذا و مكّنوا له.و يبدو أن فنّاننا كان أكثر نجابة من غيره ، و أكثر توافقا مع رغبات كعب الذي سلّط عليه دهاءه و استحوذ عليه بجميل القول فيه
ذكر الذهبي في طبقات الحفّاظ و في أعلام النبلاء في ترجمة أبي هريرة أنّ كعبا الأحبار قال في أبي هريرة:
ـ ما رأيت أحدا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة
(ص432ج 2 أعلام النبلاء و ص34 ج1من تذكرة الحفاظ)
وقال في سير أعلام النبلاء :
ـ إن أبا هريرة قد حمل عن كعب الحبر
(ص408 ، ج2)
و أخرج البيهقي في المدخل عن طريق بكر بن عبد الله عن أبي رافع عن أبي هريرة قال :
إن أبا هريرة لقي كعبا فجعل يحدّثه و يسأله: فقال كعب : ما رأيت رجلا لم يقرأ التوراة أعلم بما في التوراة من أبي هريرة
(ص205 ، ج5 الإصابة)
يقول محمود أبو رية في كتابه شيخ المضيرة أبو هريرة :
و قد بلغ من دهاء كعب الأحبار و استغلاله لسذاجة أبي هريرة و غفلته أن كان يلقّنه ما يريد بثّه في الدّين الإسلامي من خرافات و أساطير ، حتّى إذا رواها أبو هريرة ، عاد هو فصدّق أبا هريرة ، ليؤكد هذه الإسرائيليات و ليمكّن لها في عقول المسلمين كأن الخبر قد رواه أبو هريرة عن النبي و هو في الحقيقة عن كعب الأحبار
(ص 111، شيخ المضيرة أبو هريرة)
و لمّا انتهى كلّ هذا إلى علم عمر ؛ الذي يؤثر عنه أنه قال: أقلّوا الحديث عن رسول الله ، و أنه زجر غير واحد من الصحابة عن بث الحديث ؛ استدعاهما و زجرهما ، و لم يلبث أن أدمى مرّة ثانية بدرّته ،ظهر فنّان المضيرة الذي تعنت و تنطع كعادته
أخرج بن عساكر من حديث السائب بن يزيد أنه سمع عمرَ يقول لأبي هريرةـ
ـ لتتركنّ الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس
و قال لكعب الأحبار:
لتتركنّ الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض القردة
(ص433/ج2 أعلام النبلاء للذهبي و ص106/ج8 من البداية و النهاية)
و قد غضب على أبي هريرة من أجل إكثاره فضربه بالدّرة زجرا له و وبّخه بقوله :
أكثرت يا أبا هريرة و أحر بك أن تكون كاذبا عن رسول الله
( ص 360 من شرح النهج لابن أبي الحديد)
و مما يجدر بالإشارة هنا هو عدم حكم عمر عليهما بالرجم الشيء الذي بدأ يحدث في العصر العباسي الثاني
.و الظاهر أنه لو عاش فيه أبو هريرة لحدث له أكثر مما حدث للحلاج
و قد جاء مثل هذا النهي و الإنذار من عثمان إليهما ، و لكن عثمان ليس كعمر في صرامته و شدّته و لا يحمل دِرة مثل درته
(ص 133 من كتاب المحدث الفاصل بين الراوي و الواعي للقاضي أبي محمد الحسين بن عبد الرحمن الرامهزري)
لهذا كثرت أحاديث فناننا بعد وفاة عمر و انقطاع درته ، ممّا أنطقه متعجبا :
إني لأحدّث أحاديث لو تكلمت بها في زمن عمر لشجّ رأسي ، رواه عنه ابن عجلان
و عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه قال :
ما كنّا نستطيع أن نقول : قال رسول الله (ص) حتى قبض (مات ) عمر، كنّا نخاف السياط
و كان يقول:
أ فكنت محدّثكم بهذه الأحاديث و عمر حيّ؟ أما و الله لأيقنت أن المخفقة ستباشر ظهري.
و في رواية
لو كنت أحدّث في زمان عمر مثل ما أحدّثكم لضربني بمخفقته
و أظن أن هذه المخفقة قد باشرت ظهر فنّاننا أيام النبي و بعد عزله عن ولاية البحرين . على أن هذه الأخبار جميعها تبقى مبسوطة في الجزء الثامن من البداية و النهاية و الجزء الثاني من أعلام النبلاء لمن يريد الإطلاع أكثر
هكذا نلمس أن أبا هريرة لم يكن ذا شأن ؛ كما شهد هو على نفسه ، زمن النبي و لا زمن الخلفاء ، و أنه لم يستطع أن يحدّث عن النبي إلا بعد وفاة عمر . كما أنه لم يجرؤ على الإفتاء أو التلفظ بكلمة في الدّين إلا بعد أن توفّي عثمان . أمّا إكثاره من التحديث فلم يكن إلا في زمن بني أمية ، لمّا خلا له الجوّ ، و أصبح من دعاتهم و أنصارهم؛ هو و جماعة من الصحابة ،على رأسهم العبادلة الثلاث؛ عبدالله بن عباس، و عبد الله بن عمر، و عبد الله بن عمرو بن العاص.
قال ابن سعد في طبقاته يترجم لعبد الله بن عباس:
ـ كان ابن عبّاس ، و ابن عمر ، وأبو سعيد الخدري ، و أبو هريرة ، و عبد الله بن عمرو بن العاص، و جابر بن عبد الله ، و رافع بن خديج ، و سلمة بن الأكوع ، و أبو واقد الليثي و عبد الله بن بحينة مع أشباه لهم من أصحاب رسول الله ، يفتون بالمدينة و يحدّثون عن رسول الله من لدن توفي عثمان إلى أن توفّوا..
(ص734 / ج2 سير أعلام النبلاء)
إلى لقاء آخر مع جزء آخر من الهريريات
أبو قثم
هناك تعليقان (2):
العزيز أبو قثم
معلومات قيمة كالعادة
شكرا لجهودك
والعقل المستعان
يا هلا بالأخ بن عقل
أشكر لك تعاطفك الجميل أيها المحترم
شكرا على الزيارة
أبو قثم
إرسال تعليق