ما كنت لأظنّ أنّ هناك شيئا معلوما في الدّين لا يتّفق في شأنه بلهاء الإيمان مع مشايخهم و علمائهم و مراجعهم
ما كنت لأظنّ أنّ من يصدّق أن النّمل ينطق و أن الحمير تبصر بالأشعة فوق البنفسجية، سوف يرفض من إمامه و مرجعه ، فكرة موت نبيّه مسموما أو مقتولا
فلماذا يا ترى يرفض المؤمنون هذه الفكرة ، و لا يقبلونها؟ و لماذا تشكّل لهم ضيقا نفسيا و أزمة عصبية ، يحاولون التخلّص من مناقشتها و تداولها حتى مع أئمّتهم و مشايخهم المبجّلين؟
و الحقّ ، الحقّ، أن قوّله :و الله يعصمك من النّاس ، إذا ما شفعته بفكرة تسميم رسوله الأعظم من طرف يهودية، كما يقول قسم من أهل السنة و الجماعة ،أو بواسطة اللد على يد عائشة و حفصة ، كما يصرّح قسم من الشيعة ، فإنّ الخليط المحصّل عليه يكون ممزوجا، مرفوضا، لا دسم فيه، و لا طعم له . إلا أن العجيب هو أنّ هذا التّناقض ، على مرارته ، يشكّل بالنسبة لمشايخ الأمّة و علمائها مادّة شهية، يقبلون عليها بكل فهاهة ،إقبال المتلهف على الماء
ـ و الله يعصمك من النّاس ـ لا تستقيم و سحر النبي ، فكيف بها تستقيم عند أهل السنة مع فكرة تسميمه من طرف يهودية؟ و كيف بها تستقيم عند أئمة الشيعة مع التآمر على شخصه من طرف زوجتيه و تسميمهما له ؟
هذا ما استخلصته من الجلبة التي أحدثتُها في حشد من المشيّعين ، الذين جاءوا
ليشفوا صدورهم بموت جاري الغنيّ الملحد السّكّير، الذي لم تطأ قدماه يوما مفنسا و لا عرف الصوم له مسلكا
أعرف جاري السّبعينيّ العمر ، لأكثر من أربعين سنة خلون.عرفته شابّا وسيما عريض المنكبين، صبوح الوجه ، عالي الهامة ، تتفنّن مراهقات المدينة في تتبع حركاته و يتنافسن على مرافقته. و عرفته أبا ،رجل أعمال ناجحا ،قلّ أن لا تمرّ الصّفقات التي غيرت معالم مدينتي من بين يديه.و عرفته ذاك المتقاعد الذي يلزم يوميا رأس الدّرب متكئا في مقعده الوثير من سيارته الرباعية الدّفع ، التي كانت رهن إشارة النفساء و المريض و المعلول ، و الطفل الذي فاته وقت المدرسة ، و الأب المحزون ، و كلّ من ضاقت به الأرض بما رحّبت
لم يمرض جاري ، و لم يعتره الزهايمر ، و لم تصبه حمىً و لا ذات جنب . منذ أسبوع سقاني الصّهباء في سيارته على أنغام (الروكن رول)التي كانت تزيد المكان رونقا و حيوية.تجاذبنا الحديث كعادتنا لساعات طوال .تحدّثنا في كلّ الأشياء ، لم نترك أنبياء و لا أولياء و لا حديث و لا قرآن. تحدّثنا عن ماركس عن أفلاطون عن فرويد و نيوتن و عن هيجل.. تحدّثنا عن أبي قثم ـ على فكرة فجاري هذا كان يحبّ كثيرا قراءة تعاليق صديقي الراوندي. كان كلّما وجدته يسألني أن أفسّر له بعضا من كلامه
فيقهقه كلّ مرّة و يقول لي : حقّا ، إن الأعراب لأشدّ كفرا، ياهذاـ .. ـ و كان أكره ما يكرهه جاري مقابر المسلمين، فكلّما سمع بموت صديق أو حبيب إلا و يقول :مسكين فلان ، سيرمونه في المزبلة , ثم تعلوه حسرة شديدة و يضيف : لقد نسوا ضرائبه و جباياته و صدقاته ، إذ أصبح الآن كومة عظام لا تصلح لديهم لشيء..كان دائما يقول لي :المسلم حشرة و هو حي يا أبا قثم ،ونجاسة إذا مات،يتخلّص منها المؤمنون بسرعة و يتوضأون منها...لا كرامة للمسلم حيّا و لا حرمة له ميّتا، أنظر إلى مقابرنا و قارنها بمقابر الكفار الذين غضب الله عليهم و أحبط أعمالهم.. أ ليست مقابرهم أشبه بالجنان التي يعدها الرحمان بلهاء الإيمان؟!!. كان جاري لا يمرّ بسيّارته قرب مقابر المسلمين ، ليس حذر الموت ، و لكن اتقاء النّكد و القرف الذي تبعثه في نفوس النّاظرين.
في ذاك اليوم المشؤوم الذي سيغادرنا فيه جاري، خرجت كدأبي كلّ يوم لأستقلّ سيّارة أجرة تقلّني إلى عملي ... لاحظت حركة غريبة ، لم أفهمها ؛ و ... تواجدا غير عادي لم أستوعبه .. إذ بي ألمح من بعيد ابن جاري البكر يلوّحّ بيده إليّ مناديا . فخففت نحوه. حيّيته؛ فحيّاني بحرارة، و قال هامسا جهة أذني، و كأنه يهمّ تقبيل كتفي : إن الوالد يريد أن يراك... دلفت المنزل الفخم خلفه .. فلاحظته أصمت ممّا كنت أعهده ، بينما كان التواجد فيه كثيفا. في كلّ حجرة مررت بها كنت أسمع همسا . و البهو ، على طوله ، و أنا أجتازه ؛ لا حظت أني قابلت فيه أشخاصا. و بعد أن صعدنا الدّرج و توسّطنا الدار و واجهتنا حجرة نوم أبيه بادرني الإبن قائلا: الله يهدي الوالد يرفض أن نشغّل القرآن ، فهلاّ أ قنعته ، يا أستاذ !! فدفع الباب ، لأجد نفسي داخل الحجرة، و أنا لم أستوعب بعد شيئأ...فإذا بي أمام جاري المتهالك فوق فراشه الذي لزمه ليومين بعد وعكة قلبية شديدة ، ألمّت به ،لم يعلم بها أحد من الجيران .. أعلمه الأطباء بفقدان الأمل فعاد من توّه ليلة الأمس. وجدته يضحك مع أحفاده الذين جلسوا على سريره الأبيض الوثير بينما تقتعد إحدى بناته أريكة جانبه .. لمّا رآني شاخصا أمامه قهقه قهقهة إهتزّ لها كيان الحجرة الخامل قائلا بصوته الجهوري : يا هلا يا هلا بأبي قثم
تسمّرت في مكاني ، كانت ضحكاته أثقالا تهوي على متني فتثنيني لأنكسر أمام هول المشهد.. لم أنبس ببنت شفة ، نسيت نفسي، ضاعت مني حواسّي إلا البصر الشارد عنّي، فإذا بصدى ضحكه يعيدني إلى الرّشد ، لأجده يقول بمرحه المعهود : ها أنت ذا ترى ، يا جاري ، سوف يرمونني في المزبلة بعد قليل ... ثمّ قهقه قهقهة خفيفة و صمت قليلا .. ثم مدّ يده جهتي و هو يقول : لقد وصل دوري ...فوداعا يا جاري ، المسامحة يا جاري ،.. أوصيك .. أوصيك بأبنائك خيرا.. و بقي مادّا يده التي لايتحرّك منها إلا الخنصر و البنصر إليّ كي يعانقني..ما صدّقت ما أسمع و لم أعد أحس بألأرض التي تحملني.. وحدها يده الممدودة نحوي هي التي كانت تشدّني إلى الواقع. هويت عليه و الدّمع مني يتهاطل في صمت، فضمّني إليه ضمّة لن تفارقني حرارتها ما حييت ، ثمّ خضّني، و همس في أذني : إضحك يا راجل إضحك يا راجل..
خرجت خارّ القوى، مهزوم الفرائص، منهوك الأعصاب ، فاقدا مفهومي الزّمان و المكان .. سرت لخطوات أبحث عن الأنا الذي مني ضاع.. ألملم مفاصلي المبعثرة أتلمّس المكان الذي يحتويني
ملّيت النظر .. ملّيته أكثر ، لأجد الشارع قد امتلأ أكثر فأكثر... السيارات من كل الأنواع و الأحجام ، أمّا الناس فمنهم من أعرفه و منهم من لم أره قطّ . إنهم من كل الطوائف ومن كل الطبقات ..الفقراء ، الأغنياء ،التجار ، الصناع ... المسلمون و غير المسلمين ، أصحاب اللحي و الحليقون .. كلّ طوائف المجتمع أصبحت مجتمعة في الدرب
قصدت دكّان البقالة ، مطأطأ الرأس ، طلبا للسجائر.. لمّا سحبت علبتي و فتحتها أوقدت أول لفافاتي التي كدت أكملها في نفسين . خلفي كان يتحلّق جماعة من المتديّنين حول ملتح وهابي خبيث. بينما كان فمُه يشتغل مع مريديه المنتبهين إليه،كانت عيناه تصولان من فوق رؤوسهم في الشارع، و تجولانه طولا و عرضا، متراقصتين، لا تغفلان عن صغيرة و لا تفلتان كبيرة . و لسرعة حركتهما و حركة شفتيه، تخاله مذيعا يغطي أطوار مقابلة و المتحلقون حوله عمي ، يبصرون من خلاله..و أنا أجرع نفسا من سيجارتي ،إذ يسترق سمعي جملة من حديثه أفقدتني ما بقي لدي من توازن، فلم أتمالك نفسي ... لقد سمعته يقول لهم : اليوم لن ينفعه ماله و لا بنوه... فلم أدر متى قطعت حديثه و صحت في وجهه:و ما ذا نفعت النبوة رسولكم؟؟ ألم يمت نبيّك حبيب الله و صفيّه ، فلماذا تستكثر الموت في حقّ جاري؟ لا .. ألم يمت نبيك مسموما ؟!!! فماذا نفعته نبوّته ؟؟؟ ثمّ لماذا لم يرفع ربك نبيك كما رفع موسى و عيسى ؟
لم يجد الملتحي الخبيث غير ابتسامة استعراضية ماكرة هشّ بها في وجهي و قال مسترسلا كأنه شريط مسجّل : هداك الله يا أخي.. استغفر لذنبك يا فلان .. ما هذا الذي تقول ،يا أستاذ .. أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم ..! كيف لمن اختاره الله و اصطفاه و فضله على العالمين أن يموت مقتولا بالسم؟؟ كيف ؟؟.. يا راجل ... و حتى إذا ما حدث فإنه يعتبر شهيدا ، يا هذا!!و ما منكم إلا قتيل و شهيد ...! لقد مات سيّد البشر شهيدا و ليس مسموما..!! كاد الرّجل يُفَجّرني بغباءه ، و كدت أسمعه ما لا قِبَلَ له به ؛ فإذا بالصياح يعلو من دار جاري، وإذا بكاسيت القرآن يُشَغّل .. لقد فارقنا جاري لغير رجعة..نظرت إلى محدّثي ، فوجدته أبهج ممّا كان عليه ، و ابتسامته أعرض ممّا كانت عليه . فما أن التقى نظري ببصره حتى بش في وجهي قائلا و البهجة تعلوه: إنّا لله و إنّا إليه راجعون ، كأني به كمّن كان يحمل على كتفيه ثقلا فتخلّص منه بعد مكروه.!! فبادرت أخي مصمّما العزم على أن أنتزع من وجهه تلك الابتسامة الماكرة، و أسوّد يومه،و أغيظه غيظ الكفار
فقلت له
ما أجمل ميتة جاري . لقد مات سعيدا ضاحكا مستبشرا ، ودّع القريب و البعيد، الغريم و الصّديق، مات وسط أبنائه و بين أحفاده ،يحكي لهم النكت و النوادر حتى فارق الحياة. أمّا محمد سيد المرسلين فقد مات ميتة جاهلية، معذبة. سواء أمات بسم اليهودية أو بسمّ المؤامرة أو مات من الحمّى أو ذات الجنب . ففي أمر موته لا تتفقون كلكم إلا على أنه مات ميتة قاسية شديدة لا يتمنى المرء مثلها و لو لعدوّه فما بالك بنبيه,؟
فأيهما تتمنى لنفسك يا فقيه ،ميتة جاري السكير الملحد أم ميتة نبيك المختار؟
تركته و الذين معه تعصرهم سورة من الغضب يدمدمون و يحوقلون ، و رحت للمشاركة الفعلية في مراسيم تأبين جاري
على أن نتحدّث في أمر موت نبي الإسلام لاحقا
أبو قثم
هناك 8 تعليقات:
احزنني موت جارك , لكن عادت لي الابتسامة بعد تكملة الباقي من مقالك , جارك قد استمتع بالحياة كما انه قد بنى نفسه بها فهذا بيته وهؤلاء احفاده تلك تجارته, يكفي انه قد ودع الحياة بضحكة :)
يا مرحبا عزيزي راي
و الله لك وحشة يا أخي
شكرا على تعاطفك الكبير يا بوقلب كبير
أبو قثم
:( أدمعت عيناي يا أبو قثم
أسلوبك جميل في الرواية
ولأول مرة أقرأ لك باستمتاع
تخيلتك وأنت بكل الحالات التي مررت بها في هذا البوست
أرغب في قراءة المزيد لما تمر به في يومياتك
خسارة الواحد مننا يموت
الموت ينبغي يكون اختيار
مش كدا؟
يا هلا بك جمبلة النت
سلامتك من كلّ ضر أخيتاه
شكرا على تعاطفك الجميل
مودتي و تحياتي
أبو قثم
هلا أبو قثم
نأسف لموت هذا الجار الملحد الجريء وأمثاله قليلون إن لم يكونوا معدومين
وكما تعلم فمن الصعب إيجاد أو تكوين ملحد أما المفنسين فهم بلا عدد وهم أكثر من الهم على القلب كالأوباش الذين تجمعوا حول جارك ينصحونك وهم بنفس الوقت مسرورين طرباً لذهابه
ولا شك أن فراق الشخص المحبب للقلب والعقل كارثة حيث لا عزاء من الهمج والرعاع والمعتوهين واللصوص المستفيدين
إن ذهاب ملحد جريء بالتأكيد سيبقي فراغاً لن يسده أحد
فراق العقلاء والعاقلات كارثة حيث أن هذا الفراق ينقص من كياننا ويجعل بنفوسنا هوةً كبيرة لا مجال لسدها بأي شخص وحقيقة لا عزاء ينفع لفقد مثل هذا لذلك لن أعزيك
يا سلام الراوند هنا
يا مرحبا يا مرحبا
كنت أودّ أن أنقل الموضوع إلى عين حمئة لتقرأه يا راوند
و ها أنت ذا قد قصّرت عليّ المسافة
إن زبارتك للمدوّنة هو عزائي يا صديقي
أبو قثم
عزيزي أبو قثم
لابد بأن رحيل صديقك سيترك فراغاً في نفسك,, عندما يرحل شخص عزيز لايتبقى لنا إلا الذكرى,, ستذكر تلك اللحظات التي قضيتموها معاً وستتذكر دائماً بأنه أرسل إبنه في طلبك قبل أن يغادر وستتذكر أيضاً ضحكه وقهقهته وشجاعته في ملاقاة الموت
يا هلا سوسنتي
والله شرفتينا يا ست
شكرا على تعاطفك
أبو قثم
إرسال تعليق