كان عبد الله لا يقبل في رباطه إلا من توسّّم فيه ضعف النفس و دناءة السمعة و قلة الأدب و كره المجتمع . التحق به بادئ الأمر خمسة من صعاليك كدالة ، ثم ما لبثوا أن أصبحوا زهاء الألف منقطعين عن ذويهم و أهلهم ومجتمعهم ، و منعزلين بين الأدغال ، يتشربون من مواعظ و دروس إمام الحق الذي يدعو إلى التمسك بالإسلام الصحيح، إسلام الجهاد و القتل و السبي و التخريب.و كم يحلو للذين يفصّلون التاريخ على مقاس تاريخ العرب و الإسلام أن يقاربوا بين هذه المرحلة من مغامرة إرهابينا وخطة محمد و منهجه في بناء دولة الإسلام ، فيقرنون اختلاء عبد الله بن ياسين في الأدغال واختفاء محمد بدار الأرقم بن الأرقم، فيجعلون عبد الله بن ياسين كالنبي محمد يجلس مع صحابته في السرّ ليعلمهم الإسلام، ثم يجعلونه يقسّم أتباعه في الرّباط إلى مجموعات مكوّنة من خمسة من المرابطين، يشرف على كل مجموعة وال . ويقسم الولاة إلى مجموعات من خمسة ولاة يشرف على كل واحدة أمير ، ثم يقسم مجموعة الأمراء إلى مجموعات من خمسة أمراء ، يجعل على رأس كل مجموعة نقيبا يتصل بإمام الحق مباشرة.هذه التراتيبية الإدارية الصارمة كانت تضمن سلاسة و سهولة انتقال تعاليم الإمام و أوامره بين جميع أتباعه.و في رباطه كان إمام الحق يُلزم المُنضَمَّ إلى رباطه بأن يطهّر نفسه من الرجس والدنس و من كل ما اقترفه من ذنوب وآثام، ثم يطلب منه أن يتوب من ذنوبه قائلا: قد أذنبت ذنوباً كثيرة في شبابك؛ فيجب أن يقام عليك حددوها؛ فإذا أقرّ بذنب أقيم عليه حدّه. فإن كان غير محصن وزنى، مثلا ، جلد مائة جلدة؛ أو أقر بشرب الخمر وقع عليه حدها. وكان أحيانا يطلب من الواحد منهم أن يسلم إسلاما جديدا.هكذا كان إمام الحق يغسل أدمغة مريديه و يفرغها من ذاكرتها و يقطعها عن هويتها. ثم يباشر بعدها غرس بذور العداء لكل ما هو إنساني في نفوسهم بما يبثه فيهم من الآيات و الأحاديث و ما يحكيه من المآثر و الملاحم .و كان يحثهم على إقران الإيمان بالعمل ، فالإسلام الصحيح هو التطبيق الفعلي لتعاليمه و التمسك بما سار عليه السلف الصالح . فكان يحثهم على التقيد بالصلاة و الصوم و قيام الليل و الدعوة في القبائل بالمعروف و النهي عن المنكر و جمع الزكوات و أداء فريضة الجهاد ؛التي في إطارها استباح لإرهابييه أراضي مضيفيه من السنغاليين و الغانيين ، تماما مثلما فعل نبيه مع أهل بني قريضة و بني قينقاع.فبدأت فلول أتباعه تسطو على القبائل الزنجية و تخربها و تسبي أهاليها.وما لبثت أخبار الرباط و أهله أن ملأت الآفاق و وصلت إلى أبي بكر بن عمر اللمتوني أخي يحيى بن عمر اللمتوني شيخ ثاني أكبر قبيلة صنهاجية .كان أبو بكر بن عمر فتى مغمورا مزهوا بنسبه و تاريخ أجداده. فكان يتطلع إلى إحياء عهد مملكة أجداده التي دمر الغانيون أحلامها،و يتطلع إلى كنوز أوداغست الذهبية التي هو أدرى بها. قال ابن أبي زرع : أول من ملك الصحراء من لمتونة تيولوتان، وملك بعده يلتان . انتهى. و كان أخوه يحيى شيخ لمتونة شيخا هرما طاعنا في السن ما جعله يعتمد على أخيه في شؤون تسيير القبيلة.ولما كانت الأخبار التي تأتي من الرباط توافق هوى أبي بكر و تطلعاته فقد حفز أخاه على الالتحاق بالرباط .فما كان من يحيى إلا أن جمع كل أفراد قبيلته و التحق برباط إمام الحق ، الذي استقبله بالبهجة و الفرح و النصر المبين.و كالعادة يحلو لكهنة التاريخ المسلمين أن يؤاخوا بين يحيى بن عمر اللمتوني هذا و بين سعد بن معاذ الأنصاري الذي فتح بيته للإسلام و رهنه ماله و عشيرته.فكان فضل انضمام يحيى إلى رباط عبد الله بن ياسين عندهم بمرتبة فضل إسلام سعد على الإسلام.و الأكيد أنه بمقدم يحيى بن عمر هذا و أخيه تغيرت السياسة داخل الرباط الذي أصبح ثكنة عسكرية ، و أصبح المرابطون جنودا منظمين يقاتلون و يوّحدون الأرض.و في هذا الإطار توجهوا نحو جدالة حيث ثأر إمام الحق من معارضيه،و قتلهم شر مقتل بيد أبنائهم و أهليهم، و ضم شبابهم إلى جنوده.ثم اتجهوا لغانة فاستعمروا اوداغست الصحراوية حيث مناجم الذهب و استباحوا أهلها عام 447هـ، 1055م، وكومبي صالح عاصمة غانا عام 469هـ، 1076م وأقاموا عليها حاكمًا مسلمًا، .ثم عرج المرابطون نحو الشمال ، صوب حوض درعة ليستخلصوا سجلماسة من ملكها مسعود بن وانودين و يذبحوا أهلها و يخربوا عمرانها، فدانت لهم جميع صنهاجة التي جندوها لتشفي صدر الإمام من حقده على المصامدة المتشيعين الذين يحرفون الدين حسب دعواه. و ما لبث أن مات الشيخ يحيى بن عمر فخلفه أخوه فازداد حماس إمام الحق لما توسّم في أبي بكر من العدوانية و الشراهة في القتل و التصميم على تحقيق الأهداف.فالشيخ يريد القضاء على الشيعة و مذهبهم، و أبو بكر همّه السيطرة على المسالك التجارية الساحلية الرابطة بالأندلس و التي تحتكرها القبائل المصمودية التي يتهمها إمام الحق بالتشيع.هكذا توحدت الأهداف فالداعية المسلم يحتاج دوما إلى سيف ينشر به دعوته و الإرهابي المسلم يحتاج دائما إلى سند شرعي يبيح له الإرهاب و التخريب.فانطلق الرجلان يخترقان السوس بجيوشهما الجرارة التي تبيد الحرث و تحرق الأرض قاصدين قبائل برغواطة المصمودية التي تنتشر على ربوع تامسنا. و تامسنا هي مجموعة الهضاب و السهول الساحلية التي تحدها سلسلة الأطلس شرقا و سلسلة الريف شمالا و بلاد سوس جنوبا، و هذه المنطقة تعتبر اليوم قلب المغرب النابض.
كانت برغواطة إمارة أمازيغية مصمودية اعتنفت الإسلام إبان الفتح مع جيل عقبة بن نافع و موسى بن نصير. فكان أن احتفظت باستقلاليتها و هويتها و أرضها إبان عصر الولاة . و في إطار تنافسها مع إمارة هرغة الإدريسية اعتنقت برغواطة المذهب الشيعي إبان التدخل الفاطمي.ثم تحالفت معهم على إسقاط إمارة فاس و محاربة أمويي الأندلس.فكانت لهم السيطرة على شمال المغرب طيلة التواجد الفاطمي بأفريقية. بعد رحيل الفاطميين سيقتص السنيون على طول الشمال الإفريقي من كل الإمارات المحالفة للفاطميين و ذلك في شكل ثورات عارمة كتلك التي قضت على الزيريين خلفاء الفاطميين في المهدية، و حركة عبد الله بن ياسين ضد إمارة برغواطة التي انخرط مع جيوشها في معارك طاحنة سقط قتيلا في إحداها سنة 451هـ، 1059م،
يقول الذهبي قي تاريخه
وصل الخبر إلى عبد الله بن ياسين ما عليه أهل برغواطة من معتقدات فاسدة؛ فقد كانوا يبيحون التزوج بأكثر من أربع نسوة، ويتعاملون بالسحر، وحرموا أكل كل رأس، وأكل الدجاج وغير ذلك مما كانوا عليه، فرأى أن الواجب تقديم جهادهم على جهاد غيرهم، فسار إليهم في جيوش المرابطين، فكانت بين ابن ياسين وأمير برغواطة ملاحم عظام، مات فيها من الفريقين خلق كثير، وأصيب عبد الله بن ياسين، فقضى بذلك نحبه، فاستشهد رحمه الله تعالى.
وبعد وفاته قام أبو بكر بن عمر لقتال برغواطة حتى أخذ الثأر منهم، "فأثخن فيهم قتلاً وسبيًا حتى تفرقوا في المكامن والغياض، واستأصل شأفتهم، وأسلم الباقون إسلامًا جديدًا، ومحا أبو بكر بن عمر أثر دعوتهم من المغرب، وجمع غنائمهم وقسمها بين المرابطين، وعاد إلى مدينة أغمات
تجهزت القبائل لمواجهة عبد الله بن ياسين ومن معه من مجاهدين، وثبت المسلمون في هذه الحرب وقد فرت برغواطة أمامه في جبالهم وغياطهم. وتقدمت العساكر في طلبهم، وانفرد عبد الله في قلة من أصحابه، فلقيه منهم جمع كثير، فقاتلهم قتالاً شديدًا. فاستشهد رحمه الله، وذلك سنة خمسين وأربعمائة و ليلحق بركب المجاهدين المناضلين ويكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
انتهى
هكذا ينتهي مسار إرهابي تتبع منهج محمد في الترهيب و التخريب ، إلا أن إرهابينا الأمازيغي هذا لم يمت كمحمد شهيد السم صريع النساء بل سقط في ما يمكن الاصطلاح عليه بساحة الشرف و الاستشهاد في سبيل الهدف ، و هذا ما فات كهنة التاريخ المسلمين ذكره في إطار المقاربة بين محمدهم و إرهابينا
أبو قثم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق