سيطرت مكة على التجارة العالمية
تربعت مكة على عرش التجارة العالمية
لا يمكن تصور مدى ما بعتري كاتبنا العربي و باحثنا الإسلامي من الفخر و العزة بالنفس و هو يخط هذه الجملة المبهمة التي أضحت بفضل التاريخ الثانوي و الروايات الكلاسيكية من أبده المسلمات التي لا يرقى إليها شك و لا يلفها غموض
سيطرت مكة على التجارة العالمية.
كلمتان خفيفتان على اللسان، عسيرتان على الهضم، ثقيلتان على الفهم . لا يستطيع العقل العادي، مع كل الأسف لكل رواتنا و إخباريينا الموقرين، أن يستوعبهما بهذه السهولة. فالتجارة ليست شعرا و لا نثرا و لا كلاما في السحر أو الماورائيات. إنما التجارة نشاط بشري ملموس و إنتاج حضاري مادي تنعكس آثاره على الفرد و المجتمع. فأينما ازدهرت التجارة ارتفع التخلف و انقشع الكسل و الخمول و حل البناء و التشييد و انتشر الأمن و الأمان و شمخ العمران.
سيطرت مكة على التجارة العالمية
فرية لم تستطع أعتا المدن و أكثرها قدما و تجدرا في التاريخ أن تدعيها
فلا روما ادعت يوما أنها فعلت ما فعلته مكة. و لا الإسكندرية تجرأت على القول بما قالته مكة ، و لا دمشق و لا أثينا بلغت بهما الوقاحة مقدار ما بلغته مكة.
قد يقبل أهل اليمن أن تسلبهم قريش تاريخهم و تتبنى حضارتهم .و قد يقبل أهل العراق و الشام أن تكون قريش سيدتهم و أميرتهم.لكن الحبشة لو تُبعث اليوم حية ، و تسمع بمثل هذا الافتراء،ما أظنها إلا ستنتفض مذهولة و تحتج رافضة أن تسلبها مكة الحقيرة مكانتها التجارية التي احتلتها في القرن السادس، خصوصا و أن كل المصادر تقف بجانبها و تعزز موقفها بما فيها مصادر أهل قريش نفسها. فالمرء يحار لسماعه أن قبيلة مغمورة مثل قريش تسكن قرية صغيرة مثل مكة في صحراء خالية متخلفة مثل صحراء العرب استطاعت يوما من الأيام أن تقصي الإثيوبيين عن البحر، و تنتزع منهم و من العالم البيزنطي المترامي الأطراف السبق التجاري الذي كانوا يحضون به.فالكل يعرف أهمية إثيوبيا في القرن السادس الميلادي و التاريخ يشهد لها بالسيادة الكاملة على البحر الأحمر بعد سقوط البطالمة و السيطرة على المحيط الهندي من سواحل شرق إفريقيا إلى الهند و سيلان . و ما حروبهم مع الفرس و استيلاؤهم على ممالك اليمن إلا جزء من هذا النفوذ العظيم الذي كانت تحظى به إثيوبيا .فأي تجارة هذه التي احتكرتها أو سيطرت عليها قريش؟
إن مجرد ذكر كلمة التجارة يفجر في عقل المتتبع للأخبار عدة أسئلة موضوعية لا تستطيع الروايات أن تسعفه بأي إجابة عنها .فالتجارة تتطلب الطرق المعبدة و تتطلب المواصلات و رؤوس الأموال و توفر الأسواق المنظمة و سن القوانين التجارية و تنظيم المعاملات ،كما تقتضي التجارة العهود و المواثيق و المكاتبات و المحاسبات و السجلات، هذا إن كانت تجارة عادية . أما والحال أننا نتحدث عن تجارة على الصعيد العالمي فإن هذه ستقتضي من القائمين عليها توفير أساطيل عسكرية تسهر على حمايتها و تأمين طرقها البرية و البحرية.فلا يعقل أن تكون هناك تجارة عالمية و لا تكون بجانبها قوة عسكرية تضمن حركيتها و تؤمن نشاطها!!.كما تتطلب التجارة كذلك سك النقود و إنشاء المصارف و جباية الضرائب و المكوس. و كل هذه المتطلبات شروط مادية يفترض أن تكون لها آثار تشهد عليها و توثق لها.فما هي الشواهد و الآثار الباقية التي تدل على تجارة مكة؟؟ أين هي الطرق التي بلطتها مكة ؟أين هي آثار مواصلات أهل مكة و بقايا نقودهم ، أين هي مكاتباتهم و معاهداتهم ، أين هي قوانينهم التجارية؟ ففي حين نجد في اليمن أثارا للطرق المبلطة و النقود المسكوكة و النقوش المدونة و التي تدل على الأنشطة التجارية و غيرها و تحمل الأسماء و التواريخ و المعاملات ، و في حين نجد كتابات اللاتين و الإغريق و السريان و الأقباط و الآشوريين تتحدث عن اليمن السعيد وعن غناه و ثرواته، وعن أهل الحبشة و مدنهم و موانئهم و تجارتهم .فإننا بالمقابل لا نجد أي شيء يذكر في تلك المصادر عن قريش و لا عن هاشم وإيلافه و لا عن تجارة مكة. اللهم هذا الكم التلاطم من الأخبار المتناقضة و المتراكبة الوارد في أسفارنا المقدسة .. فمتى كانت قريش تتاجر إذا؟؟ و في ماذا كانت تتاجر؟ و مع من كانت تتبادل تجارتها؟ و أين هي طرقها التجارية؟ و ماذا عن نقودها و معاهداتها و قوانينها التجارية ؟ هل هناك من لقى أو آثار تدل عليها؟؟ و مما يؤسف له أنك لا تجد أي إجابة شافية مقنعة على أي سؤال من هذه الأسئلة، لا لدى الرواة و أهل الأخبار و لا حتى لدى المستشرقين الكبار، الذين في جلهم انساقوا وراء بريق الرواية و سحر البلاغة، فاكتفوا مشقة التدقيق و التمحيص، و البحث و التنقيب و البرهنة و النقد النزيه، و غدوا مثل رواتنا مطبلين مهللين لنظرية تربع مكة على عرش التجارة العالمية.
هذه المقولة ـ النظرية يتخذها الرواة و أهل الأخبار بديهية و مسلمة ، فيجعلونها مقدمتهم الكبرى التي ينطلقون منها ليستدلوا على أن أهل مكة كانوا تجارا مهرة حاذقين و أن مكة كانت تتوسط الطريق التجارية التي تربط الهند ببيزنطة ، وأنها استطاعت في القرن السادس للميلاد بعبقريتها و حنكتها أن ترث الطرق التجارية التي تمر بها بعد أن اختلت الدول في اليمن و خارت عظمة بيزنطة و الساسان نتيجة الحروب بينهما و الاقتتال. و هكذا ينتهوا بك في الأخير إلى أن مكة قد تربعت على عرش التجارة العالمية..نعم.. و في هذا المقام ، و قي إطار تقديمه لتجارة مكة، يعلق العلامة جواد علي قائلا في هذا الصدد:"فمورد الكسب الأول عند العرب هو الغزو على رأي أهل الأخبار، و قد ترفعت قريش عنه، و صرفت نفسها إلى التجارة. "(المصنف 7/286) .و يضيف في نفس التعليق أن الجاحظ قد نسب سبب تركهم الغزو إلى "كونهم أهل حمس ديانيين لذلك تركوا الغزو لما فيه من الغصب و الغشم واستحلال الأموال و الفروج من العرب" (كتاب البلدان 468). فبواسطة الدين إذا زهد ت قريش في الغزو و ابتعدوا عنه و استغفروا لذنوبهم و تابوا منه إلى التجارة،ثم أفاء الله عليهم بطرق أهل اليمن يرثونها حلالا مطيبا ، فأصبحوا ملوك التجارة العالمية. هكذا و بكل البساطة يختزل الجاحظ التاريخ و يزدري التجارة و يجعل الدين أداة سحرية تحول قريش بين عشية و ضحاها من غزاة مغيرين غاصبين غاشمين إلى تجار أذكياء حاذقين كرماء جوادين. فعن أي دين يتحدث الجاحظ، كان يتحمس فيه أهل مكة في هذا الإبان الذي نتحدث فيه.؟؟ و نحن نعلم ما أخرجه اليعقوبي في تاريخه من إجماع أهل الأخبار على أن معظم سكان مكة كانوا دخلاء عليها و نازحين إليها من الخارج.فهم كما يقول من مختلف نواحي الجزيرة المسماة عربية و من الهلال الخصيب و من اليمن و بلاد فارس و الروم و من مصر و الحبشة و السودان و من فينيقيا و فلسطين و سوريا و بلاد ما بين النهرين، لدى يستنتج أن اختلاطهم هذا أدى إلى اختلاط أديانهم و تنوع معتقداتهم و لغاتهم، فكان منهم يهود و نصارى و صابئة مندائيون و زرادشتيون مجوس ، (اليعقوبي 1/254). ففي أي ديانة كان أهل مكة يتحمسون إذا؟...أما قريش فخلطاء ! نعم !! و هذا ما يؤكده ابن الكلبي في قوله: إنما قريش جماع النسب ليس بأب و لا بأم و لا حاضن و لا حاضنة (ابن سعد 1/66،69،71...نهاية الأرب 1/20) و يعني أنهم ليسوا من أصل واحد و لا من قبيلة واحدة و أن قريش ليس جدا و لا جدة لينتسبوا إليه. و إنما هم بإجماع كل أهل الأخبار"في غالبيتهم من البدو و الأحابيش و الخلعاء و المطرودين الذين يسميهم القرآن بالأراذل و الأذلة و الأرذلين، و فيهم الفقير و اليتيم و المسكين و ابن السبيل و المحتاج أما كتب السير و الأخبار فتنعتهم بالصعاليك و الخلعاء و الطرداء و الخلطاء و لصوص البادية و ذؤبان العرب و الشياطين و الفتاك و غير ذلك(الواقدي457 ،الطبري 1/1438 ، الأغاني 8/65 ،النهاية لابن الأثير2/52 أسد الغابة في أسماء الصحابة5/178). و كلنا يذكر أن قصي بن كلاب جمع هذه العينة من البشر و خطب فيهم قائلا لهم: هل لكم أن تصبحوا بأجمعكم في الحرم حول البيت؟؟فوالله لا يستحل العرب قتالكم و لا يستطيعون إخراجكم منه، و تسكنونه فتسودوا العرب أبدا.فقالوا أنت سيدنا و رأينا تبع لرأيك، فجمعهم ثم أصبح في الحرم حول الكعبة.(السيرة الشامية 1/321 ـ 325) و نذكر أن أول مال أصابه قصي هذا كان حسب السيرة الشامية مال رجل قدم مكة بأدم (جلود) كثير ، فباعه و حضرته الوفاة و لا وارث له فوهبه لقصي و دفعه له إلا أن ابن حبيب يصحح هذا الرواية مصرحا بكل الشجاعة أنه " قام قصي بقتل أحد النبلاء الأحباش و نهب ثروته و كان قادها لمكة من أجل التجارة.(المنمق ، 108).هذا هو قصي أبو هاشم صاحب الإيلاف، و هؤلاء هم قريش قوم هاشم، و هذا هو مالهم الذي يفتخرون به على العباد، و هذا هو المجتمع القرشي المتصدع الذي يفترض أن القرآن جاء لإصلاح ذات البين بين أغنيائه و فقرائه. و المفارقة العجيبة هي أن القرآن فعلا يتحدث عن خلقية تجارية ويخاطب في شقه المكي قوما تجارا جشعين مستبدين. فهل كان القرآن يخاطب قريش هؤلاء الذين قدمناهم الآن، أم أنه كان يخاطب قريشا آخرين؟؟ فهؤلاء القريش الذين نعرفهم، أو بالأحرى تعرفنا عليهم السير،إنما هم قوم لصوص غزاة مغيرون!! فكيف بالقرآن الذي نزل فيهم يخاطب قوما تجارا؟؟؟؟يقول الأستاذ سليمان الكتاني في كتابه " محمد شاطئ و سحاب""ولد محمد في مكة يوم كانت مكة تعجن الطحين من كل غبار يتطاير من زحف أقدام الحجاج إلى حرم مكة، يوم كانت تتلمس بركة قطيع من الأصنام المشرورة حول هذه الجدران، يوم كانت تنام صديانة (شديدة العطش) تنتظر رجوع النوق من رحلاتها إلى الشام و العراق لتأخذ من حليبها المنهوك جرعة ري. (ص 31) فإذا كانت هذه حال مكة عشية ولادة النبي فيها سنة 570م.فأين هي آثار التجارة التي قامت و ازدهرت فيها منذ هاشم الذي توفي سنة 497م .ألم يكن قرنا من الزمان كافيا لتظهر تجارة مكة عن حضورها من خلال التأثير في الأوضاع و تحسين الأحوال؟؟. قريش لم يكونوا تجارا و لم يكفوا يوما عن الغزو و السلب و النهب، لأن ذاك هو أمرقصي الذي صار فيهم دينا، حتى أصبحوا يتحمسون فيه كما ورد عن الجاحظ. فالسؤال الذي نبتغي الوصول إليه من خلال هذا السياق هو هل يمكن للصوص المحترفين و الناجحين في فنهم أن يتحولوا إلى تجار مغمورين يتذللون بالأدم والأسمال المتهرئة بين القبائل الفقيرة والأسواق الكاسدة.؟؟هل يعقل هذا؟؟ هل يعقل أن يتخلى اللص عن الأرباح السهلة التي يجنبها من وراء صنعته التي لا يتقنها سواه، و يغامربالمقابل بما سرق طول حياته في عمليات تجارية غير مضمونة العواقب و لا مأمونة الجانب، و هو أعلم بما يحذق بالأموال من المصائب و الأهوال؟؟؟ ثم من جهة أخرى هل يعقل أن يستقر اللص في مكان معلوم حيث يكون عرضة للعيون و الحراس وغرضا سهل المنال لأصحاب الثأر والأعداء؟؟. فخطبة قصي السالفة الذكر لا تفيد بالضرورة أن لصوصه قد نزلوا الأبطح و استقروا فيها و بنوا لأنفسهم الدور و المنازل. فهذه باتريشيا كراون في كتابها تجارة مكة و ظهورالإسلام تعتقد إن الأمان إنما هو أمان لأهل مكة يرجع فيه الفضل إلى التحالفات التي عقدت مع أفراد قريش، و ليس لسبب القداسة التي افترضت في أراضي مكة.(ص319).فهي بذلك تأخذ برواية أن قريشا لم ينزلوا بمكة و أن أهل مكة من خزاعة و بني بكر لم يغادروها، بل إنهم رضوا بالعيش تحت كنف و وصاية قريش الذين بقوا في جبالهم يحيطون بمكة من كل جانب و يتربصون بأهلها في كل حين.و هذا أقرب إلى طبيعة اللصوص عن الاستقرار الذي من شيم التجار.كما أن اللصوصية ،ولمن يجهلها،فإنها كالتجارة فن و علم و صناعة و أدب و نمط من العيش يناقض بالتمام و الكمال نمط العيش عند التجار.و هذا مأزق القرآن الذي يقول أنه نزل على قريش المجتمع التجاري الذي بمكة ، بينما القرائن التي بين أيدينا لحد الآن تنفي عن مكة الصبغة التجارية، ولا تثبت أن قريشا كانوا يسكنون و يتجرون في مكة، و تؤكد على أن قريشا كانوا لصوصا أشداء محترفين. و نحن نضيف أن اللصوص لا يمكنهم أن يكونوا تجارا و لا يمكن لأرباح أي تجارة كانت أن تعوضهم عما يجنونه من السرقة و السلب و النهب . و لو افترضنا أن هذا حدث، و أن لصوص مكة أجمعوا على الثواب و أرادوا الاتجار تكفيرا عن الذنوب فما هي هذه التجارة التي ستستهوي هذه العينة من البشر؟؟؟ ما هو نوع هذه التجارة التي ستتلاءم مع طبيعة اللصوص سابقا فيقبلون عليها بكل ترجيب ، و تعوضهم عن اللصوصية و إغراءاتها ؟؟ فاللصوص كما نعلم لو يتاجرون فإنهم يتاجرون في الممنوعات و المحرمات و المهربات و السلع المغشوشة.كما أنهم يتاجرون في المخدرات و الخمور. و على ذكر الخمور فقد ورد عن علماء اللغة أن العرب تسمي بائع الخمر تاجرا، و أن أصل التاجر عندهم الخمار يخصونه من بين التجار.(تاج العروس 3/66). كما يتاجر اللصوص في الذمم و الرقاب و الزور و في النخاسة و القوادة . و لنا في تجار قريش المرموقين أمثال عبد الله بن جذعان و العباس الخمار عم النبي مادة دسمة للدرس و التمحيص في مقتبل فقرات هذا البحث الميمون.
هذه هي طبيعة البشر الذين يفترض أنهم أصبحوا ملوكا للتجارة العالمية.. و هذه هي خاصيات المجتمع الذي يفترض أنه تربع على عرش التجارة العالمية.. و الآن علينا أن نتعرف على هذه التجارة المزعومة ، أشكالها و أنواعها ، بضائعها و أماكن إنتاجها، طرق نقلها و أسواق تصريفها. و علينا أن نتتبع تلك الطرق التجارية التي تزعم مكة أنها تتوسطها و أنها و رثتها عن ممالك اليمن السعيد، لنحصيها و نحدد مساراتها واتجاهاتها و أعمارها.. و علينا كذلك أن نستقصي تلك الحروب المزعومة التي كانت بين الروم و الساسان من جهة و بين هؤلاء و الأحباش من جهة أخرى لنقف على مدى تأثيرهم على التجارة العالمية و على الدور المزعوم الذي لعبوه في إنشاء تجارة مكة. و لكم علي ألا أدع صغيرة و لا كبيرة تفيد من بعيد أو من قريب في تزيين سمعة تجارة مكة إلا أحصيتها لكم و و ضعتها بين أيديكم .و إلى ذالك الحين ها هو أبو نبي الصعاليك يحييكم .
تشاو
أبو قثم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق