توفي قصي أول من أقام ملكا بمكة أطاع له به قومه.
توفي قصي الغساني أو زيد القرشي
فتوفي الله
فأيهما تختار
فقصي إله و زيد صنم.
توفي الإله
و الملك تبخر
فقصي رأى حلما من ورق
ما لبث أن عرج في الآفاق
و احترق
توفي قصي لكن بعد أن وصى لبكره بجميع السلطات التي أوحي إليه بها، بعد أن كان قد وزعها في بنيه، و خصّ كلا منهم بمهمة من مهام تسيير شؤون مكة.
توفي قصي المرتزق الذي كان في إطار مهمته تأمين تجارة الروم الشرقية عبر الطريق الصحراوي المخترق لجبال الحجاز، و لهذا الغرض بُعث به من بني عذرة إلى مكة أكبر موقع بالجزيرة تلتقي عنده الطرق الصحراوية و تتقاطع فيه. فلما وضع يده على مكة، سار يتتبع الطرق التي تتفرع عنها شمالا و جنوبا،شرقا و غربا.فعمل ،هو وأبناؤه، على التودّد إلى الصعاليك و الخلعاء الذين يعبثون بأمنها و يسطون على سابلتها.فكانوا يستدعونهم إلى مكة و يستضيفونهم فيها و يحمونهم بحماها و يقتطعون لهم الأراضي فيها، و يسكنونهم البطاح حول بيت مال العرب . فأضحت مكة العارية المفتوحة على كل الجهات، بهذه السياسة الحكيمة، في غنى عن بناء الأسوار و اتخاذ الآطام لحماية نفسها من الغارات.إذ غدت ، بهذه الطريقة، تحمي نفسها بواسطة أولئك الذين يفترض فيهم أن يغيروا عليها.و تلك لعمري ،أخبث وسيلة للدفاع عن النفس.أن تتخذ عدوك ذرعا لك تتقي به دونه، و تدود بواسطته عن نفسك و حوزتك . فتلك أقل ما يقال عنها أنها من أكبر علامات مكر قريش و دهاء قصي...و حماية مكة في الحقيقة لا تتطلب بناء الأسوار و الأبراج ، لأن سلاسل الجبال المحيطة بها تشكل حاجزا طبيعيا منيعا ،يحيط بها من كل الجهات ،إلا من أربعة منافذ تخترقها الطريقان المارتان بمكة و المتقاطعتان وسطها.لذا كان أمن مكة ينحصر في التحكم في تلك المنافذ الموصلة إليها ، و التي لم تكن أبوابا يمكن التحكم في فتحها و إغلاقها و إنما هي طرق معاش أهل مكة التي لا زراعة فيها و لا صناعة غير التمعش على ما يتبرك به الحاج و يتبرع به التاجر و تأتيهم به تلك الطرق. لذا فإن أمن مكة كان يقتضي من القائمين عليه، تأمين كل شبر من الطرق الموصلة إليها و المتفرعة عنها. و وضْع اليد على الصعاليك الذين يهددون أمن تلك الطرق و احتواؤهم إنما يعني تسخيرهم أنفسهم في تحقيق ذلك الأمن و حراسة تلك الطرق و ضمان السير فيها، لمن تختاره قريش، فردا كان أو جماعة ، حاجا كان أو تاجرا..فلا صغيرة و لا كبيرة تحدث على الطريق و لا دابة و لا طير يسير عليها إلا و يصل خبره إلى قريش ، و يسجل عندها. و هذه هي نفس السياسة التي سوف ينتهجها العرب في توسعهم و استعمارهم للمالك و الأقطار من حولهم.ففي إطار احتلالهم للبلدان ، كان العرب يبدءون بالاستيلاء على المسالك و المفاوز و الفجاج ، فيفرضون الحصار على الأهالي، ثم يستقطبون صعاليكهم و مجرميهم و قطاعهم ، و بعد أن يؤطروهم بدينهم الإسلامي و يعمّدوهم في بحر إجرامهم ، يشرّعون لهم الإغارة على أقوامهم و سبي أهاليهم و قتلهم و الإتيان بالغنائم للعرب.فالعرب لم يحموا يوما أنفسهم بأيديهم و لم ينشروا يوما دينا بسواعدهم.إنما كانوا يفعلون ذلك بمكرهم و نفاقهم و بهتهم.حتى مكة مصدر عيشهم و حصن عزتهم و فخرهم و الكعبة بيت مالهم لما استقصدهما أبرهة بفيلته قالوا له إنما للبيت رب يحميه.ثم يدّعون أن الله في علاه تدخل و أرسل من ثكنته السماوية الفانتوم ترمي الفيلة بالصواريخ. ثم من بعد هذا تراهم في كتابهم يعيبون على اليهود أبناء أعمامهم قولهم لموسى الصعلوك أذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.
توفي قصي الذي نكر جميل بني خزاعة إذ آثروه على أنفسهم و أصهروه إليهم و أنكحوه أشرف بيوتاتهم، و رضوا به عليهم شيخا و زعيما.فأخرجهم من مكة شر إخراج و أجلاهم عنها و نفاهم في الأرض جميعا، بعد أن سلب متاعهم و رمّل نساءهم و قتل كبارهم و سبى صغارهم.و جاء من بعدهم بصعاليكه ليقتطع لهم الحرم رباعا ، فأصبحوا هم حماته الحقيقيون بدل الأصنام و الأرواح و الآلهة الوهميين.و أصبحت لهم العزة و المناعة التي وعدهم بها ، فأصبحوا يغيرون و لا يغار عليهم يسبون و لا يُسبون، و يجيرون كل من آوى إليهم من ذوي السوابق و طلاب الطوائل و المجرمين و اللصوص و قطاع الطرق و الذؤبان و الشياطين.فغدت قبائل العرب جميعها تهاب قريش، و أضحت الطرق التي تسري في الجزيرة العربية كلها في ملكية قريش و حوزتها و تحت تصرفها.و أصبح صعاليك الأمس لا يهددون أمن الطرق بل يعملون على تيسير الحركة فيها، و تأمينها من الغرباء و الخلطاء و منتهزي الفرص و الصعاليك الجدد الذين ما فتئت قبائل العرب تفرّخهم بازدياد. فكانوا يغيرون على الأفراد إلا الحاج الساذج و المعتمر الغبي، و على القوافل التجارية عدا قوافل قريش.هكذا غدا كل قرشي ، في عين العرب، صعلوكا ، و كل صعلوك أينما كان قرشيا ، و أصبحت الأرض كلها للصعاليك يفعلون فيها ما يشاءون مقابل حماية مال و قوافل قريش.
هكذا قام قصي بمأموريته أحسن قيام وبأقل التكاليف و في أقل وقت ممكن.فبعث بحفيده هاشم سفيرا إلى الروم ليبلغهم بنجاح المهمة و يطمئنهم على حسن سير الأمور.و في طريقه إليهم أخذ لهم الإيلاف من القبائل التي سيطرت عليها قريش مقابل خراج يدفع لتلك القبائل و حمل بضائعها.فكان هاشم صاحب الإيلاف و العقود و الحبال المشرف على التجارة الداخلية و الخارجية، ما أعطاه مكانة بين جميع أفراد آل قصي.و كان إلى ذلك محبا للصعاليك منادما لهم يصحبونه في حلّه و ترحاله و كان مشجعا لسياسة احتوائهم. فلما توفي قضي و أوصى بمقاليد الزعامة لعبد الدار ،تجرد هاشم من كل سلطاته. و تفرغ لتجارته مستفيدا مما بين يديه من الحبال و الإيلاف. و الظاهر أن عبد الدار الذي لم يكن كما تشير إليه السير و أهل الأخبار ضعيف الإرادة ، الفقير بين إخوته ، و الذي لم يستفد من فترة حكم أبيه، و أن إخوته كانوا أحسن منه حالا و أكثر مالا لذا أوصى إليه قصي بكل الوظائف، كان له رأي في أمر تسيير مكة غير ما نهجه أبوه.فعبد الدار كان تلميذ أبيه في السياسة و تدبير شؤون الحكم، و كان ساعده الأيمن في تسيير أمور مكة من حجابة و رفادة و دار الندوة و نظام المدينة و أمن السابلة. فالظاهر أن موقعه القريب من الحكم خول له الإطلاع أكثر من إخوته على خفايا الأمور و بواطن الأشياء ما كوّن لدبه اعتقادا و قناعات لا تتوافق بالأساس مع سياسة أبيه و خصوصا في مسألة احتواء الصعاليك.ففي حين نجد قصي ينطلق من الأرضية المتاحة و المواد المتيسرة،كان عبد الدار يتشوف إلى تخطي فكرة اعتماد الصعاليك في أمر تأمين مكة إلى إنشاء قوات نظامية تكون مهمتها الدود عن مكة و حماية مصالحها و توفير أمنها.فكان أن استغنى عن الصعاليك و ترفّع عنهم و أحطّ من قدرهم و أهمل جانبهم؛و هم على ما هم عليه من الخطورة و الأهمية؛فهم جند قصي و فاتحوا مكة لمتسولي الظواهر و متسكعي المنتجعات و متسولي القروش.
حدث هذا في الوقت الذي أصبحت فيه مكة ورشا كبيرا للتشييد و البناء، فكانت المنازل و الدور و الأحياء تقام في كل مكان، و السلع و البضائع و الأدوات تستقدم من كل حدب و صوب . فحدث أن تعاظمت التجارة الداخلية و اتسعت الأسواق، و ازداد العملة و الصنعة و البناءون، و ارتفعت المنازل و القصور، و كبرت ثروات التجار و تزايدت أعداد الأغنياء ، و نمت رؤوس أموالهم، و كبرت بهم أرباح شركة هاشم العابرة للقارات ، الذي بقيت بين يديه الإيلافات و الحبال و العهود، فالتجأ إليه كل ذي رأس مال يسهم به في تجاراته الرابحة و المضمونة بحبل وصاله للصعاليك. و حدث أن كبرت الثروات و كثر السادات و تعددت أسماؤهم و تجاراتهم و سهومهم ، و شمخت منازلهم و توسعت عماراتهم فأصبح لديهم الخدم و الحشم و العبيد و الموالي و المأجورون،فاتخذوا منهم حراسا لمنازلهم و مضاربهم و نواطير لأحيائهم . و راحوا يطالبون دار الندوة بضرورة توفير الأمن لأموالهم التي يستودعونها بيت مال الكعبة.فالغرباء و الخلطاء و عابرو السب لتزايدت أعدادهم، و الصعاليك لا يؤمن جانبهم.هذا ما دفع بعبد الدار، و هو الخبير بشؤون تسيير أمور المدينة و المسئول عن أمن البيت و الأموال إلى اتخاذ قراره الحاسم بإنشاء جهاز أمني توكل إليه مهمة حراسة البيت و أمن المدينة.يقول حسين مروة "فإن إقامة شرطة لحراسة البيت كان يعني أمرا غير ما يتبادر إلى الأذهان من رعاية قداستها فحسب، بل هو حماية أموال القرشيين الذين استغلوا هذه القداسة ليودعوا الكعبة خزائن أموالهم، أما إقامة شرطة لحماية منازلهم فكان يعني حمايتها من غضبة الفئات الناقمة في المدينة أي في مكة و لنقمة الحجاج الفقراء.(النزعة المادية في الفلسفة العربية 1/231).فكلف عبد الدار في هذا الإطار أخاه عبد مناف بن قصي باتخاذ القرارات اللازمة لهذا الغرض..فأخذ المهمة عبد مناف بكل حزم و استدعى إليه عمرو بن هلال بن معيط الكناني و تدارسا الأمر مليا فانتهيا إلى تأسيس قوات نظامية سموها بالأحابيش،يقول في شأنها الأستاذ لامانس أنها قوات عسكرية ألفت من العبيد و السود المستوردين من إفريقية و من عرب مرتزقة كونتها مكة للدفاع عن نفسها. و هذا التفسير لا يروق بطبيعة الحال لأهل السير و الأخبار القدماء منهم و المحدثون.ذلك أن مشكل السير عندنا أنها لا تؤرخ شأنها شأن كل السير لأناس أخيار ، إنما هي تؤرخ لعتاة الأشرار.فيجد أهل الأخبار أنفسهم أمام مأزق تقديم الشرّير خيّرا و الخيّر شرّيرا، و مأزق آخر أعظم منه و أخطر ، مأزق تفصيل التاريخ على مقاس القرآن.فعوض أن يفسروا النصوص على ضوء أحداث التاريخ الواقعية تجدهم يجهدون أنفسهم في تطويع الأحداث حتى تتناسب مع نصوص القرآن.فيبخّرون الواقع ليحولوه خيالا و يحوكون المخاريق ليفرضوها واقعا.فقريش ، كما مر بنا ، تعني مرة التجمع و مرة تعني دابة في البحر و في ثالثة رأيناها تعني الكسب و التجارة و ادخار الأموال .و كذلك الحال عندما تسأل أهل الأخبار و السير عن الأحابيش، فإنك لا تظفر منهم بجواب يشفي لك الغليل.و لكنهم لا يقبلون منك أن يكون الأحابيش عبيدا سودا من أفريقية كان أهل مكة يوكلون إليهم حمايتهم و حماية أراضيهم و ممتلكاتهم و بالتالي العيش تحت رحمتهم.إذ مكة حسب رأيهم لا تعيش إلا تحت رحمة رب العالمين.فتورد السير و الأخبار في هذا الباب أن من أهل مكة جماعة عرفت بالأحابيش ، و أنهم من حلفاء قريش ، و هم بنو المصطلق و الحياء بن سعد بن عمرو، و بنو الهون ابن خزيمة، اجتمعوا بذنب حبشي و هو جبل أسفل مكة.فتحالفوا بالله إنا ليد على غيرنا ما سجا ليل و أوضح نهار، و ما أرسى حبشي مكانه.و قيل إنما سموا بذلك لاجتماعهم ، و التحابش :هو التجمع في كلام العرب (العمدة 2/194، اللسان 6/278، حبش).و ذكر أنهم اجتمعوا عند حبشي فحالفوا قريشا. و قيل أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في الحرب التي نشبت بينهم و بين قريش قبل الإسلام. فقال إبليس لقريش إني جار لكم من بني ليث فواقعوا دما، سموا بذلك لاسودادهم،قال:
ليث و دِيل و كعب التي ظأرت
جمع الأحابيش لمّا احمرت الحدق
فلما سميت تلك الأحياء بالأحابيش من قِبَل تجمّعها صار التحبيش في الكلام كالتجميع (اللسان6/678)
من خلال هذه القراءة لمعنى الأحابيش يتبين للمرء مدى الجهد العظيم الذي يبذله أهل الأخبار للتستر و التضليل على معنى الأحابيش .فهم تارة عرب تجمعوا حول جبل حبشي فتسموا به و تحالفوا مع قريش .و هم تارة أخرى أحياء بدون هوية من القارة تحالفوا ضد قريش مع شياطين (صعاليك) بني ليث.و حتى تصبح الأسطورة واقعا و الخرافة حقيقة فترى بأم عينيك الديك حمارا،فإنهم أرجعوا سوادهم إلى أنهم عادوا قريشا وتحالفوا ضدها و واقعوا دما فسموا بالأحابيش.فهم إذا ليسوا سودا عبيدا لأنهم استقدموا من إفريقية إنما حصل لهم السواد و العبودية نتيجة تحالفهم ضد قريش
و عندما أراد الدكتور جواد علي تبرير تذبذب أهل الأخبار في شأن الأحابيش و الرد على مقولة لامانس قال بأن تسمية بني الحارث بن عبد مناة من كنانة و من أيدها من بني المصطلق و بني الهون بالأحابيش قد تكون وردت إليهم من أجل خضوعهم لحكم الحبش، و ذلك بزمن طويل.ذلك أن ذاك الساحل من الجزيرة العربية الذي ذكر بطليموس أن الحبشة كانت تحتله ، إنما هو حسب رأي جواد علي ساحل تهامة و منازل كنانة.و يضيف بأن الحبش قد بقوا فيه طويلا و اختلطوا بسكانه، فيجوز أن تكون لفظة الأحابيش قد لحقت بعض كنانة من خضوعهم للحبش حتى صارت اللفظة لقبا لهم، أو علما لكنانة و من حالفها. و يجوز أن تكون قد لحقتهم و لحقت الآخرين معهم لتميزهم عن بقية كنانة و من انضم إليهم ممن سكن خارج تهامة. أو لتزوّج قسم منهم من نساء حبشيات حتى ظهرت السمرة على سحنهم..و يستطرد قائلا: فليس من اللازم إذا أن يكون الأحابيش كلهم من حبش إفريقية، بل كانوا عربا و قوما من العبيد و المرتزقة ممن امتلكهم أهل مكة (المصنف 4/32 ـ 33) .هكذا لف جواد كل هذا اللف ليصل في الأخير إلى أن الأحابيش عبيد و مرتزقة كما قال لامانس ، و أضاف إليهم قبائل عربية كانت قريش تستعبدهم و تستغلهم في أبشع الأعمال ، و هم قبائل كنانة و بني خزاعة المنهزمتين و اللتين أصبحتا عنوان كل شر مستطير لدى أصحاب السير و أهل الأخبار.
و كما اختلفوا في أمر تسميتهم و أصلهم ، فقد اختلفوا في أسباب تجمعهم و تحالفهم.فقد أورد محمد بن حبيب أن عبد مناف و عمرو بن هلال بن معيط الكناني عقدا حلف الأحابيش( المحبر 246) إلا أن اليعقوبي في إطار وصفه للأحابيش يذكر : أنه لمّا كبر عبد مناف بن قصي جاءته خزاعة و بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة يسألونه الحلف ليعزوا به.فعقد بينهم الحلف الذي يقال له حلف الأحابيش ( تاريخ اليعقوبي 1/212).فبمقتضى الرواية الأولى نجد أن عبد مناف ممثل قريش قد اجتمع بعمرو قائد الأحابيش فتعاقدا على التحالف بين قريش و جماعة الأحابيش.بينما الرواية الثانية تفيد بأن الأحابيش جماعة منفلتة عن السلطة اجتمعوا فيما بينهم و كونوا حلفهم ثم عرضوه على قريش لينال منهم المصداقية ويحظى عندهم بالقبول ، فيضفوا عليه صبغة الشرعية و القانونية.و هذا ما لا يقبله عقل و لا يوافق نظام مكة و قريش.
إلا أن هذه السير تتفق في شيء و هو كون هؤلاء الأحابيش قوات عسكرية عملت لصالح قريش في العديد من الملاحم و الوقائع.فقد ورد في المحبر عن محمد بن حبيب أن المطلب بن عبد مناف بن قصي قاد بني عبد مناف و أحلافها من الأحابيش ـ و هم من ذكرت ـ يوم ذات نكيف، لحرب بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. (المحبر 246). و ذكر الطبري أنهم قد ساهموا في الدفاع عن مكة عام الفتح، و كانوا قد تجمعوا مع بني بكر و بني الحارث بن عبد مناة و من كان من الأحابيش أسفل مكة،كما أمرتهم قريش بذلك، فأمر رسول الله خالد بن الوليد أن يسير عليهم، فقاتلهم حتى هزموا، و لم يكن بمكة قتال غير ذلك (الطبري 3/56،فتح مكة). و مع ذلك نجد جواد علي الذي لا يستبعد أن يكون الأحابيش من الساحل الإفريقي المقابل لجزيرة العرب جاؤوا إليها بالفتوح و بالنخاسة و أقاموا في تهامة إلى مكة، و عاشوا عيشة أعرابية متبدية و تخلقوا بأخلاق عربية حتى صاروا أعرابا.. نجده يتلكأ في مسألة الاعتراف للأحابيش بهذا الدور المتفق عليه بين سائر أهل الأخبار فيقول بأنهم ، أي الأحابيش، و إن ساهموا في تلك الحروب إلا أنهم لم يلعبوا دورا خطيرا فيها.لماذا؟ هل لم يكونوا مدربين بما فيه الكفاية؟ هل كانت تنقصهم الكفاءات القتالية؟ هل كانت تعوزهم المهارات و الأدوات القتالية؟؟ أم أنهم كانوا جبناء رعديدون كلما استعرت وهيج الحروب ولوا الأدبار كما العرب يفعلون؟؟ فيتدخل جواد علي مجيبا لا ليس هذا و لا ذاك ، إنما "لم يكن الأحباش وحدهم قد ساعدوا أهل مكة في حروبهم مع غيرهم فقد ساعدهم أيضا طوائف الأعراب ، أي البدو الفقراء الذين كانوا يقاتلون و يؤدون مختلف الخدمات في سبيل الحصول على خبز يعيشون عليه (المصنف 4/35 ـ 36).فلله درك يا جواد! و لله درك يا سير! لم يرضكم أن يكون العبيد الأحباش قوام قوات قريش و فضلتم أن يكون قوامها الجياع و المعدمون؟؟!فكيف ستكون حال قوات تقاتل على ملئ بطونها؟؟ أيّ ولاء و أيّ لحمة و أيّ عصبية ستؤلف بين أفراد هذه القوات؟ و كيف سيكون حال أمة قوامها الجياع و المحرومون؟؟؟
أما الرأي عندنا فهو كما أوردناه و هو أن قريشا كانت في حاجة ماسة إلى قوات تسهر على حفظ الأمن و تحرس بيت المال و تحمي التخوم و الطرقات.فاقتضت سياسة عبد الدار إنشاء قوات مسلحة لهذا الغرض.فأوكل المهمة لعبد مناف الذي أسس جهازا عسكريا تحت رئاسة القائد عمرو بن هلال بن معيط بن كنانة. و قسمه إلى ثلاثة ألوية ، لواء مختص بحراسة الكعبة بيت المال، قوامه عبيد أحباش غلاظ شداد لا يعصون دار الندوة ما أمرتهم و يفعلون ما يؤمرون ، لا يدينون بولاء لأحد غير ولائهم لبني عبد الدار أصحاب الحجابة قبل و بعد الإسلام. و لواء ثان أوكلت إليه مأمورية حراسة أحياء مكة و تنظيم طرقاتها و تأمين سابلتها و حماية أسواقها. أما اللواء الثالث فذاك أكبر لواء يمكن أن نطلق عليه اسم القوات المسلحة التي ستأخذ على عاتقها مسؤولية أمن الطرق و التخوم و الدفاع عن المصالح العليا لقريش.
إلا أن هناك بين خبايا و سراديب السير شيئا ما يتستر، فهذه رواية شاذة شاردة تلقي بظلالها و تفرض نفسها على كل قارئ بحاث،و لئن صحت هذه الرواية فستكون قد حكمت على كل هذه الأفكار و الآراء بعدم الصواب،فقد أكد ابن سعد في طيات طبقاته أن" الأمر الثابت أن هاشما كان يفد على ملك أو إمبراطور الروم فيكرمه و يحبوه، بل بلغ تقديره إياه أنه كتب إلى النجاشي أن يدخل قريشا في أرضه (الطبقات الكبرى ً 57 ، قريش بين القبيلة و الدولة 52). و يخرج في رواية أخرى عن محمد بن الأسلمي أن "هاشما كان رجلا شهما شريفا ، وهو الذي أخذ الحلف لقريش من قيصر لأن تختلف آمنة، و أما من على الطريق فألفهم على أن تحمل قريش بضائعهم و لا كراء على أهل الطريق.فكتب له القيصر كتابا و كتب إلى النجاشي أن يدخل قريشا أرضه (الطبقات الجزء الثاني) أما لو صحت هذه الرواية فإن إدخال النجاشي قريشا أرضه تعني أن تخضع قريش لحكم الحبشة.و لا يتم الخضوع لحكم إلا بتواجد قوات تمثله.و عليه فإن الأحابيش قد تكون مظهرا من مظاهر تواجد تلك القوة و الخضوع لذلك السلطان.و هذا ما تأباه السير و تحول دونه الأخبار.و الثابت أكثر أن الأحابيش كانوا قوة منظمة ثابتة مستقرة تستنفر وقت الحاجة إليها. فكان لها قواد معروفون دأبت السير على تسميتهم بسادة الأحابيش نذكر منهم ابن الدغنة و هو ربيعة بن رفيع بن حيان بن ثعلبة السليمي الذي أجار أبا بكر و شهد معركة حنين(تاج العروس 9/200،دغن)،و الحليس بن يزيد، يذكره محمد بن حبيب و يذكر أنه من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، و أنه كان من رؤساء حرب الفجار(المحبر 169 و ما بعدها) و منهم حليس بن علقمة الحارثي سيد الأحابيش و رئيسهم يوم أحد و هو من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة (تاج العروس ن4/130 ، حلس) و نذكر كذلك الحليس بن زابان الذي ذكر الطبري أن الرسول لما رآه قال إن هذا من قوم يتألهون (الطبري 2/527). و الثابت كذلك أنهم كانوا ينزلون البطاح و يسكنون الحرم مع ساكنيه و يتسوقون أسواقهم ، و يعيشون معيشتهم و يدينون بدياناتهم و ما ذلك إلا اعتراف ضمني بأحقيتهم و جزاء على حسن فعالهم ،إذ أنزلهم عبد مناف البطاح و اختط لقبائلهم و مجموعاتهم الأرباع فأقاموا عليها لهم المنازل و المصانع و المتاجر.فقد أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال :لما هلك قصي ين كلاب قام عبد مناف بن قصي على أمر قصي بعده. و أمر قريش إليه و اختط بمكة رباعا بعد الذي كان قصي قطع لقومه (الطبقات ج2) .فإذا كان قوم قصي قد قطعت لهم أحياؤهم و مساكنهم فلمن سيخط عبد مناف الأرباع الآن؟؟؟هكذا نزلت بنو الهون و الحياء و بنو المصطلق و خزاعة، البطاح . و أصبحوا عنصرا مكونا للنسيج الاجتماعي لقريش. أخرج ابن حبيب أن الأحابيش الذين ذكرت أسماؤهم كانوا يحضرون مع من يحضر من طوائف العرب مثل قريش و هوازن و غطفان و أسلم سوق عكاظ فيبيعون و يشترون كما أنهم كانوا مثل قريش يقدسون أسافا و نائلة"(المحبر 317 ـ318).و يظهر أخيرا من الروايتين لأخيرتين أن الأحابيش كان منهم المتألهون و الوثنيون.
تلكم هي السياسة التي لم ترق للصعاليك و لم توافق أهواء الذين يأنفون من الانضباط للقوانين و القواعد و يرفضون الأوامر و النواهي.و التي من جهة أخرى قضت على المستقبل السياسي لبني عبد الدار كما سنرى لاحقا.تلكم هي السياسة التي اصطدمت برغبات الصعاليك الرعناء لمّا استهدفت التضييق عليهم داخل مكة و سلب مجالهم الحيوي خارجها. فكان أن تكتل هؤلاء الصعاليك و انتفضوا و تظاهروا و ظهرت عليهم كل علامات السخط و الثورة ما استدعى بني عبد مناف بقيادة هاشم إلى اغتنام الفرصة و تأطير الحركة و تزعم الثورة و مطالبة بني عبد الدار بالتنازل عن الزعامة و هو ما سنفصل فيه القول في الجزء الثاني من هذا المقال
أبو قثم
هناك تعليق واحد:
إستمر في إبداعك عزيزي فرغم أنني اعتبرها وجهة نظر منك إلا أن مايعجبني فيها إحساسي بأنها تلامس واقع الكثير من المجتمعات التي خرجت من نواة هؤلاء الصعاليك التي ذكرت (:
كل التحايا ,, لـئـلك
(:
إرسال تعليق