الثلاثاء، 4 نوفمبر 2008

قثوميـــــات

مقال جيد لو أنه اتخذ الواقع المر منطلقا له؛ ذاك الواقع الذي ينطق بلغة الأفعال و المعاملات لا بلغة العنعنات و المراوغات.فمن منا من لم يجاور يهوديا أو نصرانيا. و من منا من لم يضطرّ يهوديا إلى أضيق طريق. و من منا من لم يضرب و لم يشتم و لم يحتقر يهوديا.و الأنكأ من هذا و ذاك من منا من لم يأمره فقيه الكتّاب بازدراء أهل الذمة و الاعتداء عليهم و التربص بهم . ثم من منا من لم يسمع علماءنا و فقهاءنا الذين لا ينطقون عن الهوى، من على عيدانهم يتوعدون الخنازير و القردة و يسبونهم في المساجد و يدعون لهم بالويل و الثبور في كل منبر.

كان بإمكان المقال أن يكون أجود لو أنه متح من التاريخ الذي لا يحبه أمثال كاتبه.فلو أنه كلف نفسه استقراء تاريخ المغرب، لوجد على سبيل المثال لا الحصر أن الملّاحات؛ كلما اشتد القحط، وعمّ الجذب، و أخذ الناس العوز؛ أفرغت من أهلها بدعوى أن فجورهم و فسادهم و صدهم عن السبيل، هو ما سبب غضب الله على الأرض.و أن استرضاءه سبحانه لا يتمّ إلا بالقصاص له من أهل الذمة؛ ذاك قولهم الذي يقولونه بأفواههم و تشهد عليه ألسنتهم ..فيوزعون كل خيرات اليهود بينهم و يسكنون منازلهم و يستغلون أملاكهم ؛ حتى الورعون و الثقاة من أهل العلم و الفقه لديهم ، و المتنسكون ، و السجد الركوع ؛ يصيبون أنصبتهم حلالا طيبا. و يمكثون فيما هم فيه؛ يسرفون من خيرات غيرهم حتى تنضب منهم و تتهدم المنازل من فوقهم و يبور بأيديهم ما نهبوهم من التجارة و الصناعة و المصالح..أما اليهود المرحلون إلى الفيافي و القفار فيبقون على استعطاف السلطان؛ يقدمون الفداء تلو الفداء ؛ و الهدايا تلو الهدايا. حتى إذا ما عطف عليهم و رحمهم، اقتطع لهم أرضا غير التي كانوا فيها.ثم حتى إذا ما عمروها و رفعوا بنيانها ،و عاد الجذب و حل القحط ،سلبوها منهم مرة أخرى؛ و هكذا دواليك. فالتاريخ الذي يتكلم عربي لا يسير إلى أمام ، بل هو قابع في مكانه، يعيد ، و يكرر نفسه دائما.

لكن المقال عوض هذا أو ذاك ارتأى الانغماس في بطون كتب السنة و الحديث متوخيا الضبابية و التعويم درا للرماد في العيون.فجانب الصواب الذي ينم عنه الواقع و تنطق به أحداث التاريخ و تزخر به المتون التي اتخذها دليلا.و جعل يسبح في عالم المثل العلوية و الأحلام الساحرة. و لكم وددت أن أسبح مثله و أهيم؛ لكن الوثيقة العمرية بشروطها المذلة و المهينة و المحطة بكرامة الإنسان أبت علي إلا غير ذلك.فمعاهدة عمر بن الخطاب التي خطها عبد الرحمن بن غنم تشترط فيما تشترطه أ لا يعلّم أهل الذمة أولادهم القرآن، و لا يمنعونهم من الإسلام إن أرادوا. و تشترط عليهم توقير المسلمين و ألا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد منهم ثلاث ليال، و يطعمونهم؛ و ألا يتكنوا بكناهم ؛ و أن يقوموا لهم من مجالسهم إن هم أرادوا الجلوس ؛ و ألا يتشبهوا بهم في شيء من لباسهم. كما أوجبت عليهم أن يجزوا مقادم رؤوسهم، و يلزموا زيهم حيثما كانوا، و أن يشدوا الزنانير على أوساطهم، و ألا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين...

أما ابن القيم الجوزية في معرض تعليقه على الوثيقة في كتابه أحكام أهل الذمة ـ باب وجوب البراء من أهل الذمة فيقول :عقيدة التوحيد الإسلامي تستوجب أن يتبرأ المسلم إلى الله من كفر اليهود و النصارى و أن يبعض ما هم عليه من كفر و يبغضهم لكفرهم بغضا شرعيا لا بغضا شخصيا لمجرد دواعي الهوى أي أن يبغضه لمجرد كفره ، و الدليل على ذلك قوله تعالى : قد كانت لكم إسوة حسنة في إبراهيم و الذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم و مما تعبدون من دون الله كفرنا بكم و بدا بيننا و بينكم البغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله. إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك و ما أملك لك من الله من شيء . . . (الممتحنة 4) ؛ و التي أعقبها بالآية الرابعة عشر بعد المائة من سورة التوبة: و ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه؛ فلما تبين أنه عدو الله تبرأ منه؛ إن إبراهيم لأواه حليم...فالبغض و العداء في الدين ركن من أركان التوحيد..و لا يجتمع حب الله و حب عدو الله. قال تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حادّ الله و رسوله و لو كانوا آبائهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم..(المجادلة 22)...ثم يضيف قائلا: إن عقد الذمة ليس تقريرا لهم على الكفر و إنما هو قهرهم على النزول على حكم الله في الدنيا و تمكينهم من الدخول تحت مظلة حكم الإسلام. قال (ص) لا تبدأوا اليهود و النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه.(سنن الترمذي ـ كتاب السير ـحديث 1528 قال أبو عيسى حسن صحيح)

هذا بعض مما تزخر به بطون الكتب التي غرق في لجّها كاتبنا، دون أن يظفر منها بما يحجب به النظر و يزيف به الواقع.فهي لا تنطق إلا بما فيها و ليس حسب أهواء قارئيها.ثم إلى متى سنظل نخادع و نكذب عل أنفسنا.هذا إذا كان المقال يخاطبنا نحن المسلمين.أما إذا كان يخاطب غيرنا فليعلم أن أكثرهم يعرفون عنا ما لا نعرفه عن أنفسنا.إذا كنا فعلا نود إصلاح أنفسنا، فإن أيسر و أقصر طريق إلى ذلك هو نهج الشجاعة في قول الحق و الاعتراف بالخطأ و الإقرار بالذنب و الاعتذار عند الضرورة.

أبوقثم


ليست هناك تعليقات: