الخميس، 17 يونيو 2010

مملكة الصعاليك ـ الصعلوك الأكبر ـ الجزء الثاني



بعد انتسابه إلى آل كعب بن لؤي و سطوته على مال الأعرابي تاجر الأدم و زواجه من حبى بنت حليل ،استطاع قصي غرز كل أقدامه في رمال مكة و مدّ جذوره فيها...هنا تدخل ابن هشام راويا"أنه لما استقر أمره و كثر ماله ، هلك حليل بن حبشية، فرأى قصي أنه أولى بالكعبة ، و بأمر مكة من خزاعة، فكلّم قريش و بني كنانة ، و دعاهم إلى إخراج خزاعة من مكة . و بخدعة استطاع أن يشتري من أبي غبشان الخزاعي..و كان شيخا خرفا..مفاتيح الكعبة مقابل زقّ من الخمر و قعود، في ليلة سامرة . قال الحافظ ابن كثير"فاشترى قصي ولاية البيت منه بزقّ من الخمر و قعود ، فكان يقال أخسر من صفقة ابن غبشان"..و يزيد ابن هشام بقوله:"فكان قصي بن لؤي أول من أصاب ملكا من فريش و أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة و السقاية و الرفادة و الندوة فحاز شرف مكة كلها"(ابن هشام1/109، ابن كثير، البداية و النهاية 2/194). و يؤكد الأزرقي أنه"أول من أصاب ملكا من بني كنانة و أطاع به قومه ، فكانت إليه الحجابة و الرفادة و السقاية و الندوة و اللواء و القيادة"(1/108)، "فكان بهذا أول من أعزّ قريشا و ظهر به فخرها،و مجدها و سناها و تقرّشها. فجمعها و أسكنها مكة و كانت قبائل متفرقة الديار ، قليلة العزّ، ذليلة البقاع حتى جمع الله ألفتها و أكرم دارها و أعزّ مثواها"(اليعقوبي 1/240)"ثم كان أمره في قومه كالدين المتّبع في حياته و بعد مماته" فنظم بطون قريش ، و دبّر لهم منازل في مكة و ضواحيها ، فأسكن بغضهم في ظواهر مكة فسموا قريش الظواهر، و كانوا في الغالب فقراء معدمين.و أسكن بعضهم الأخر في بطاح مكة و سموا قريش البطاح، و كانوا أغنياء ميسورين. عُرف القسم الأول بتبديه و فقره و غزواته.و عُرف القسم الثاني باستقراره و غناه  و اهتمامه البالغ بالتجارة"(الحلبية 1/13، الشريف ، مكة و المدينة122) و القسمان يضمان اثنتي عشرة قبيلة لم تنصهر بعضها ببعض تمام الانصهار ، و لم تؤلف جماعة واحدة ذات مصير واحد مشترك،بل بقيت تجمعا(الأستاذ لامنس ، مكة، 148)و في موطن آخر من حلبيتة يضيف ابن سعد" و كان قصي أول من بنى المساكن في مكة و نقض الخيام و حوّلها إلى بيوت ذات أعمدة و ذات أبواب.و هو الذي أمر قريشا أن يبنوا بيوتهم داخل الحرم و حول البيت ، و قال لهم إن فعلتم ذلك هابتكم العرب(أي البدو) و لم تستحل قتالكم" (الحلبية1/19). فثبّت الحكم في عقبه و نظّم شؤون المدينة و قسّم الوظائف على أولاده ، و أوجد لمكة مكانة تجارية واسعة ، و خلق لها نوعا من الإدارة .فاجتمعت إليه الرفادة و هي إطعام الحج و الزائر و تأمين إقامته، فكان أول من فرض قرى الحجاج و زوار البيت تأليفا للقلوب و إشهارا لمكة الجديدة و تلميعا لصورة قريش أمام القبائل الذين يكرهونهم و يتبرمون من خلاعتهم و عنجهيتهم  و تحلّلهم من جميع الأعراف و القوانين.فكانت تلك أول خطوة تعتمدها قريش للتقرب من الأعراب و غيرهم، بعد سيطرتهم غير الشرعية على مقاليد الحكم في خان زمزم.و تكون الرفادة خراجا تخرجه قريش كل موسم من أموالها إلى قصي ليصنع به طعاما للحاج يأكله الفقراء(المصنف 4/59)و يوضح  جواد علي أمر الرفادة فبقول" و قد كان قصي قال لقومه:إنكم جيران الله و أهل بيته، و إن الحاج ضيف الله و زوار بيته، و هم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم شرابا و طعاما أيام الحج حتى بصدروا عنكم" (رواه الطبري2/259،و ابن الأثير 2/10، و  ورد في اللسان2/1814 ، و تاج العروس2/355 و عند الأزرقي1/61 ـ المصنف 4/59)
كما اجتمعت إليه الحجابة و هي الوصاية على مفاتيح البيت و الإشراف على خزائنه و تسيير سدنته و حرّاسه.قالت باتريشيا كراون"لكن مكةهي المدينة التي يقيم فيها الناس بصفة دائمة و التي يوجد فيها البيت الحرام المزود بالحرّاس."(تجارة قريش 174).فالخان إذا ، كان يؤمّن فيه على التجارات و الأموال التي توضع داخله و التي غالبا ما تكون عطورا و ذهبا و فضة و أحجارا كريمة. فالتجارة إنما تتطلب الوثائق كالعقود و الفواتير و المكاتبات و السجلات  و تتطلب الاتفاقيات و المعاهدات و السفارات لدى البلدان، كما أن التجارة تُحدث العمران و التشييد و البناء فتؤثر على المظاهر الاجتماعية و الثقافية.كل هذه الشواهد تنعدم بالنسبة للتجارة المكية ،حتى لا تكاد تجد أي أثر ملموس يدل عليها ، ما يدفع إلى التساؤل الجدي حول ماهية و حقيقة هذه التجارة المهولة التي تشير إليها المصادر العربية و نوعيتها. و تكفي الإشارة هنا  إلى أن الملاحة البحرية الرومانية قد بدأت خلال هذا القرن في الازدهار و أن السفن البيزنطية أصبحت تنتشر في كل المحيطات و البحار بما فيها البحر الأحمر، فتقول باتريشيا في هذا المضمار"إن القمح كان يشحن بالسفن و ينقل من الإسكندرية لروما عبر مسافة تبلغ 1250 ميلا في عصر ديقلديانوس بسعر أقل من سعر نقله برا لمسافة تبلغ خمسين ميلا.و تبلغ المسافة بين نجران و غزة 1250 ميلا دون العروج على مكة"، ثم تضيف باتريشيا قائلة،"لنا أن نتساءل عن أنواع البضائع التي قام أهل مكة بالتجارة فيها؟؟لا بد أنها كانت نادرة جدا تثير الطمع فيها، و بطبيعة الحال خفيفة الحمل و غالية الثمن"(19 قائمة جيروم فرانكان عن المسافات التي تقطعها الرحلة بالأميال والأيام ـ تجارة قريش ،19).على كل و مهما تكن حقيقة هذه التجارة و نوعيتها ، فإن الحجابة تعني السهر على حراسة هذه التجارة و تأمين طرقها و تيسير سبلها و إضفاء الشرعية القانونية عليها. و لهذا الغرض فرض قصي الضرائب و العشور على القوافل المارة بمكة مقابل تأمينهم و تأمين تجاراتهم و توفير السقاية و الرفادة لهم .حدثنا المسعودي عنه ، قال:و استقام أمر قصي و عشّر على من دخل مكة من غير قريش و بنى الكعبة و رتّب قريشا على منازلها في النسب بمكة (مروج الذهب و معادن الجوهر 2/58).ثمّ بدأ في عقد الإيلافات و التي هي عبارة عن معاهدات مع شيوخ القبائل تعمل بموجبها قبائلهم على تأمين قوافل قريش و ضمان حرية تنقلهم مقابل نصيب تأخذه القبائل من أرباح التجارة،إلى جانب العطايا و الهدايا و الرشوات .كما تسمح لأفراد القبائل بالمساهمة في التجارة التي تحملها قوافل قريش سواء بالسلع أ و في رؤوس الأموال و استخلاص أرباحهم كل حسب مساهمته .و به يكون قصي قد أسس نواة أول شركة تجارية مساهمة يسهم فيها كل سكان قريش و القبائل المنضوية تحت  لواء الإيلاف ، بالقليل و الكثير فتأتيهم أرباحهم حسب أسهمهم ، و سميت هذه العملية التجارية بالمضاربة."فصارت قريش بأجمعها بعده تجارا خلطاء ، و قد أخذت عنه مآثر التجارة حتى أصبحت مكة في أيام حكمهم(قريش) ملتقى القوافل من جميع أنحاء العالم المعروف لديهم.و سافر أبناء قصي و أحفاده(في حياته) و تاجروا مع البلدان المجاورة و أخذوا منها العهود.فأخذ هاشم بن عبد مناف بن قصي عهدا من ملوك الروم و الغساسنة و أخذ شمس بن عبد مناف عهدا من نجاشي الحبشة و أخذ عبد المطلب بن هاشم عهدا من ملوك حمير و اليمن، و أخذ نوفل بن عبد مناف بن قصي عهدا من أكاسرة الفرس( أبو موسى الحريري، نبي الرحمة74).وفي معرض حديثهما عن الإيلاف يقول القالي في ذيل الأمالي و النوادر(199) و الثعالبي في ثمار القلوب(1/8 و ما بعدها):قال (هاشم) له (قيصر الروم): أيها الملك:إن قومي تجار العرب، فإن رأيتَ أن تكتبَ لي كتابا يؤمن تجارتهم فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز و ثيابه، فتباع عندكم، فهو أرخص عليكم.فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم.فأقبل هشام بذلك الكتاب، فجعل كلما مرّ بحي من العرب بطريقه إلى مكة،عقد معهم عقدا على أن تقدم قريش إليهم ما يرضيهم من بضائع و هدايا تؤلف بينهم و بين قريش ، فكان الإيلاف"انتهى.و يضيف الثعالبي قائلا". وكان  يأخذ الإيلاف (و يعني به العهد هنا) من رؤساء القبائل و سادات العشائر لخصلتين: إحداهما أن ذؤبان العرب وصعاليك الأعراب وأصحاب الغارات وطلاب الطوائل كانوا لا يؤمّنون على أهل الحرم ولا غيرهم، والخصلة الأخرى أن أناساً من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدراً، كبني طيء و خثعم و قضاعة، وسائر العرب يحجون البيت و يدينون بالحرمة له .ومعنى الإيلاف إنما هو شيء كان يجعله هاشم لرؤساء القبائل من الربح، ويحمل لهم متاعاً مع متاعه، ويسوق إليهم إبلاً مع إبله ليكفيهم مؤنة الأسفار، ويكفي قريشاً مؤنة الأعداء، فكان ذلك صلاحاً للفريقين، إذ كان المقيم رابحاً، والمسافر محفوظاً، فأخصبت قريش،(ثمار القلوب 115 و ما بعدها). وعليه فالإيلاف إذا عقد أمان تبرمه قريش مع زعماء القبائل تؤلفهم بمقتضاه بالمال و الأرباح مقابل عدم التعرض لقوافلهم و العمل على تأمينها على أراضيهم...
.إلا أن الجاحظ يفسر الإيلاف على أنه جعلٌ فرضه هاشم على القبائل لحماية مكة من الصعاليك ومن المتطاولين، إذْ قال: "وقد فسَّره قوم بغير ذلك. قالوا: إن هاشما جعل على رؤوس القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أصل مكة. فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب الطوائل، كانوا لا يؤمنَون على الحرم، لاسيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدراً. مثل طيء و خثعم و قضاعة وبعض بلحارث بن كعب"(رسائل الجاحظ،70، السندوبي)
وإذا صحت هذه الرواية فإنها تعني بالواضح أن وظيفة قريش كانت تنحصر في التحكم في صعاليك الأحياء و ذؤبان العرب و أصحاب الطوائل، و أن قريشا هم الذين كانوا يسلطون الذؤبان و الصعاليك و الخلعاء على القبائل و على تجارات تلك القبائل .و أنهم الوحيدون الذين يستطيعون كف أيديهم عنهم ، مقابل خراج تدفعه تلك القبائل لقريش  لتصرفه في تأليف  أولئك الصعاليك و المحرومين و أبناء السبيل و إجارتهم و تقديم كل التسهيلات لهم، و من تم تجييشهم لصالح تأمين التجارات التي تمر بطرق الحجاز.و تفسير الجاحظ هذا أكثر منطقية و ملائمة للأوضاع التي أمامنا. فقصي إنما تحكّم في الصعاليك الذين كانوا يقطعون الطرق التجارية و لم يخلق لقريش تجارة خاصة بها.بل كان الصعاليك هم العملة التي بدأ قريش يسوقون لها، و تأمين الطرق هي الوظيفة التي أناطها قصي بهم. فأصبحت قريش بهذه السياسة تهيمن على طرق الحجاز بأسرها من خلال أولئك الصعاليك، و تفرض على السلع المارة منها و القبائل المجاورة لها الخراج و العشور مقابل تأمين الأرواح و المتاع.و هذا هو الدور المطلوب القيام به من قصي...كما يساهم هذا التفسير الموضوعي من جهة أخرى في إزاحة بعض شكوك باتريشيا كراون الشرعية حول تجارة قريش وأنواعها و حجومها. فقريش و مكة فعلا،لا يتوفران على شواهد إثبات تثبت أنهما كانا يسيطران على التجارة العالمية ذات يوم. كما أن القالي و الثعالبي يقولان على لسان هاشم أن تجارة قريش مع الروم كانت تقتصر على المتاجرة في الأدم و هي الجلود الخالصة الغير مدبوغة و ثياب الحجاز ، و هاتان البضاعتان لا تصلحان لتشكيل تجارة من الحجم الذي تتحدث عنه المصادر.لكن إذا قبلنا بتفسير الجاحظ مع الأخذ بعين الاعتبار تحفظات باتريشيا جاز لنا أن نقول بأن تجارة قريش  كانت هي تجييش المرتزقة و المحرومين و الصعاليك. و العمل على تسخيرهم في تأمين تجارة حلفاء قريش و كل من يؤدي حق قريش .و بيع خدماتهم لكل من يؤدي عليها.و تلك لعمري كانت هي تجارة قريش الحقيقية. أما ما عدا ذلك  فكل تجارة أمنتها قريش و أخذت خراجها تنسبها إليها و تسميها تجارة قريش فتصير لتلك التجارة صفة القانونية و الشرعية على طول الطرق التي تؤمّنها قريش.
.وهذا النوع من التجارة الذي نفترض أن قريشا كانت تمارسه لا يتطلب مع كل الأسف الوثائق التقليدية التي يبحث عنها المؤرخون، و لا الشواهد و لا العهود و لا الاتفاقيات .كما أنه ليس تجارة خلق و إبداع و تبادل و تلاقح و انفتاح من شأنها أن تغني الذوق في مكة و ترتقي بالإنسان فيها إلى مصاف التحضّر و الرقي، إنما هي كانت تجارة سطو و نهب و تخريب وهدم ،تجارة يمكن تصنيفها من قبيل ما لا تبقي و لا تذر،لهذا لا تملك مكة اليوم دلائل ملموسة على أنها كانت تتربع على عرش التجارة لقرنين من الزمن.
كما أن لقريش أنشطة تجارية أخرى و من نوع آخر.فلقد كانت تقرض الأموال بالربا و تجري المرابحات ، و كانت تجمع أموالها و أموال التجار و الحجاج في الكعبة و تضع عليها الكتبة و الحراس، حتى الأصنام إنما استُجلبوا ليُساهموا في تأمين خان زمزم، حيث تُجمع الأموال و تخزن الفضة و الذهب.و مما يزيد من تأكيد هذا الطرح ما أتى على لسان الجاحظ في قوله وهو يفسر الإيلاف على أنه جعلٌ فرضه هاشم على القبائل لحماية مكة،فيقول: إن هاشما جعل على رؤوس القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أصل مكة.فما علاقة رؤساء القبائل بمكة حتى يؤدوا الخراج لتُحمى به مكة و أصولها.الجواب التقليدي يقول بأن السبب هو تواجد أصنام تلك القبائل بالكعبة و قداسة مكة و ما إلى ذلك من التفاسير المستهلكة.و لكن إذا افترضنا أن أموال تلك القبائل كانت هي الأخرى تخزن في الكعبة، ستصبح مسألة حماية القبائل لمكة و الكعبة مسألة منطقية و مقبولة عقليا.فالقبائل كما نعرفها تترحل يوميا إما للرعي أو للغزو.و في كلتي الحالتين يجب على رجالها التخلص مما يزيد على حاجتهم من المال و المتاع و العتاد.و لمّا كان السبي بينهم كثيرا و النهب، فإنهم يلجأون إلى خزن أموالهم في الأماكن الآمنة البعيدة عن العيون.و الكعبة حرم آمن بالقوة و الأعراف و الأصنام و هالة القداسة المحيطة به.فليس هناك مكان على الأرض أأمن منه و أكثر منه مناعة و حرمة لذلك أراهم كان يحتفظون بذهبهم و فضتهم بالكعبة مقابل أجر يؤدونه  لقريش،وقد يضاربون بها قريشا في تجاراتهم.و عليه فإن مناعة و قداسة الكعبة قد استمدتها من هذه الوظيفة الخطيرة التي كانت تقوم بها وظيفة خزن الأموال و ترويجها..
 ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن هاشما بن عبد مناف، هذا الذي تكثر من ذكره السير و الأخبار في شأن الإيلاف، لم يعش بعد موت جده قصي بن كلاب إلا 19 عاما، و أنه قد توفى سنة 497 و هذا يعني أن هاشما قد عايش جده ردحا من الزمان ما يؤكد أن الإيلافات التي عقدها كانت بأمر من قصي وفي حياته. و أن هاشما إنما كان سفيرا لجده.و هذا ما سنقف عليه في مكانه.
إلى هنا و لا زالت السير و الأخبار تتستر على علاقة قصي بأهل غسان.فتصور لنا الأمر كما لو أنه كانت هناك قطيعة بينه و بين غسان في الشمال.و لكن الواقع يقول أن الاتصال بين قصي و الغساسنة لم ينقطع طوال هذه المدة.بل لقد كانت التقارير تُرفع يوميا إلى غسان و المراسلات تتم أولا بأول:فكان الغساسنة يتتبعون ما يجري يوميا بمكة و يعدّون له العدد و يهيئون الإمدادات.فلولا تموين الغساسنة و تمويلهم ما كان لمشاريع قصي أن ترى النور أو تتحقق.
ففي إطار تعزيز سلطته السياسة الفتية و تثبيتها التفتّ قصي إلى البيت الذي اشترى مفاتيحه بزق خمر،ابتغاء السيطرة على الوظيفة الدينية التي كانت بيد بني صوفة.فكان اعتناؤة البليغ بشعيرة الحج و هيمنته عليها يدخل في باب استغلال الدين في تدعيم و نشر التماسك بين قبائل العرب، باعتبار أن الحج هو الشعيرة الوحيد التي تُجمع عليها جميع قبائل العرب و تتوحد فيها دياناتهم، بخلاف الأصنام التي ترمز إلى التعددية و استقلالية القبائل و تحررها..كما كان اعتناؤه بشعيرة الحج يدخل ،من جهة أخرى، في باب توظيف الجانب الديني الروحي و السحري في فرض سلطته الفردية و تكريسها. و لأجل بلوغ هذا المرام النبيل قام قصي بن كلاب بأول انقلاب عسكري في تاريخ العرب.جمع له أولا صعاليكه من الشعاب و الأودية و الجبال و اعترض بهم بني صوفة و غلبهم على ما بأيديهم من أمور الحج.يقول جواد علي"وترجع بعض الروايات نزاع خزاعة مع قصي إلى عامل آخر غير ولاية البيت، فتذكر إن خزاعة كانت قد سلمت لقصي بحقه في ولاية البيت، وأنها زعمت أن "حليلاً" أوصى بذلك قصياً، وبقيت على ولائها له، إلى إن اختلف "قصي" مع "صوفة". وكانت "صوفة" وهي من "جرهم" تتولى أمر الإجازة بالناس من عَرَفَة. فتجيزهم إذا نفروا من "منى" تولت ذلك من عهد جرهم وخزاعة. فلما كان قصي، أتاهم مع قومه من قريش وكنانة و قضاعة عند العقبة، فقالوا: نحن أولى بهذا منكم، فناكروه، فناكرهم، فقاتلوه، فاقتتل الناس قتالاً شديداً، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك، وحال بينهم وبينه، فانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي بن كلاب، وعرفوا انه سيمنعهم كما منع صوفة، فوقع من ثم ما وقع على نحو ما مرّ"(المصنف 4/43)
والذي وقع حقيقة هو أن قصيا أبرق إلى عملائه الغساسنة و أعلمهم أن اللحظة الحرجة في الخطة قد حانت، وأن الدقيقة الصفر قد وصلت، فاستنفروا كتيبة من المرتزقة المدججين بالعدة و العتاد و المدربين أحسن التدريب تحت قيادة المدعو رزاح بن ربيعة أخي قصي، و بعثوا بها على الفور.أما بنو خزاعة و بنو بكر لما استفاقوا من خداع قصي لهم ، و ذلك على هول ما أصاب بني صوفة،انحازوا عن قصي و حاولوا لمّ صفوفهم و استنفار أنصارهم، و لكن يعد أن فات الأوان.فلقد كانوا في ثقتهم العمياء بقصي أغفل من ابن غبشان.فما أن صحوا من غفلتهم حتى وصل الدعم و المدد و العدة و الرجال لقصي ،فخاضوا حربا غير متكافئة لم يكونوا في مستواها و ما كانوا لها مستعدين.فكانت الهزيمة النكراء حليفهم و التنكيل و التهجير مصيرهم
.يقول الإمام محمد بن يوسف الصالحي على لسان الرشاطي في موسوعته :فبادر قصي و استصرخ أخاه رزاح بن ربيعة فحضر هو و إخوته ...فخرجت خزاعة و بنو بكر فالتقوا و اقتتلوا اقتتالا شديدا.ثم إنهم تداعوا إلى الصلح و أن يحكّموا رجلا من العرب ، فحكّموا يعمر بن عوف بن كعب، المعروف بالشداخ.فقضى بينهم بأن قصيا أولى بالكعبة و أمر مكة من خزاعة.و أن كل دم أصابته قريش من خزاعة موضوع يشدخ تحت قدميه. و أن ما أصابته خزاعة و بنو بكر من قريش و كنانة ففيه الدّية.فودّوا خمسمائة و عشرين دية و ثلاثين جريحا و أن تخلي بين قصي  و بين البيت (سبل الهدى و الرشاد 1/325ـ332 ، قريش بين القبيلة و الدولة32ـ40).
هكذا فرض قصي نفسه ملكا على مكة و رئيسا و زعيما ،فاقتطعها أرباعا على أنصاره" يذكر الإخباريون أن" قصياً بعد أن تمت له الغلبة، جمع قومه من الشعاب والأودية والجبال إلى مكة، فسُميّ لذلكُ مجمّعاً، وانه حكم منذ ذلك الحين فيهم، وملك عليهم. فكان قصي أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكاً، وأطاعه قومه به، وأنه قسم مكة أرباعاً بين قومه، فبنوا المساكن، وأن قريشاً هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده، وأعانوه..."( الطبري2/257وما بعدها، ابن الأثير ، الكامل2/13 و ما بعدها، ابن هشام ، السيرة 2/124 و ما بعدها ـ المصنف 4/45)..ثم أمر بالكعبة فهدمها و جدّد بناءها بما يناسب أهداف الحكم الجديد و التوسع التجاري المرتقب،فتتفق جميع الموارد الإسلامية من سير و أخبار على" أن قصيا هو أول من بنى الكعبة بعد بناء تبع لها، و كان سمكها قصيرا فنقضه و رفعها. و إذا صحت الرواية، يكون قصي من بناة الكعبة و من مجدديها.." و ذُكر أنه أول  من جدّد الكعبة من قريش، و أنه سقّفها بخشب الدّوم و جريد النخل.و قد أشير إلى هذا البناء في شعر ينسب إلى الأعشى..و هذه الرواية تناقض بالطبع ما يرويه الإخباريون من أن الكعبة لم تكن مسقفة ، و أنها سقفت لأول مرة عندما جدد بناؤها في أيام شباب رسول الله و هو يومئذ ابن خمس و ثلاثين سنة"( الأحكام السلطانية 160 ، الطبري 2/283)و يضيف جواد علي"و في رواية أن قصيا أول من أظهر الحجر الأسود و كانت إياد دفنته في جبال مكة(الطبري 2/283ـ المصنف4/ 53ـ54)
هكذا تمكن قصي من خان زمزم، قلب الصحراء، أم القرى ، كهف القطاع و قبلة الصعاليك و الخلعاء و طلاب الطوائل.فابتنى لنفسه دارا قرب الكعبة و بدأ يصرف منها أمور دولته الصغيرة، فسماها دار الندوة."فكانت قريش لا تعقد أمرا إلا في داره، كما لا تنكح امرأة و لا رجل إلا في داره، و لا يتشاورون في أمر ينزل بهم إلا في داره، و لا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، و يعقدها لهم بعض ولده، و لا تدّرّع جارية إذا بلغت إن تدّرّع  من قريش إلا في داره ،يشقّ عليها درعها ثم تدرعه ثم يُنطلق بها إلى أهلها . فكان أمره في قومه من قريش في حياته و بعد موته كالدين المتبع لا يعمل بغيره تيمنا بأمره و معرفة بفضله و شرفه.و اتخذ قصي لنفسه دار الندوة و جعل بابها إلى مسجد الكعبة ، ففيها كانت قريش تقضي أمورها "( الطبري2/257 و ما بعدها،الكامل 2/13 و ما بعدها ـ المفصل 45) ؛ وفيها كانت تحسب رعاياها و تتتبع أخبارهم فردا فردا من مهودهم إلى لحودهم، فكانت دار الندوة أول مركز مخابرات في دولة مكة الناشئة. و أظن أن الفكرة اصطحبها معه قصي من كنائس الشام. و دار الندوة هي من جهة ثانية دار مشورة في أمور السلم و الحرب ،عرفت على أنها" مجلس المدينة التي عرف رؤساؤها كيف يحصلون على الثروة و كيف يستعيضون  عن فقر أرضهم بتجارة تدرّ عليهم أرباحا عظيمة، و بخدمة يقدمونها إلى عابدي الأصنام جاءت إليهم بأموال وافرة من الحجيج.في هذه الدار يجتمع الرؤساء و أعيان البلاد للتشاور في الأمور و البت فيها ..و في هذه الدار أيضا تجري عقود الزواج و تعقد المعاملات.فهي دار مشورة و دار حكومة في آن واحد، يديرها الملأ الأعلى  و هم مثل أعضاء مجلس شيو خ أثينا الذين يجتمعون في المجلس.(الأحكام السلطانية 162، نزهة الجليس 1/24)و الذين يمثلون زعماء الأسر و رؤساء الأحياء و أصحاب الرأي و المشورة (واط ص9،أوليري ص183)."و في رواية أنه كان لا يدخلها إلا ابن الأربعين أو ما زاد"(الاشتقاق 97)
و لم يبق لقصي لأن يكون دولة على النمط الحديث إلا إنشاء القوة العسكرية ، و نحن نعلم أن قصي لم يستول على الحكم إلا بالقوة و السلاح و أن جيشه كان يتكون من فرسان العرب ،الصعاليك و الخلعاء إلى جانب فرسان الغساسنة المدججين بالسلاح و العتاد.لهذا فرض قصي على أنصاره و أتباعه من المستفيدين خراجا تخرجه قريش مرتين في السنة من أموالها يطعم منه الحاج و المعتمر و يصرف ما تبقى منه على الصعاليك و الجياع و المجرمين المستجيرين بالكعبة و الخلعاء و الخلطاء و الأحابيش الذين سيشكلون النواة الأولى لقوة نظامية في مكة.قال أبو عبيدة: و لما ولي قصي أمر مكة قال : يا معشر قريش إنكم جيران الله و جيران بيته و أهل حرمه. و أن الحجاج زوار بيت الله ، فهم أضياف الله و أحق الأضياف بالكرامة.فترافدوا و اجعلوا لهم طعاما و شرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم ، و لو كان مالي يسع ذلك قمت به.ففرض عليهم خراجا تخرجه قريش مرتين من أموالها، فتدفعه إليه ، فيصنع به طعاما و شرابا و لبنا و غير ذلك للحاج بمكة و عرفة(قريش من القبيلة إلى المدينة 32/40 سبل الهدى و الرشاد321/325)
تلكم كانت قراءتنا لشخصية قصي أول حاكم و زعيم في قريش.قراءة توخينا فيها البراءة و الصدق و عدم المحاباة.فقصي لدينا مرتزق بعثه الغساسنة تحت طلب قيصر بيزنطة ، ليقيم بتهامة و الحجاز حكما تابعا لهم يؤمن تجارتهم البرية و البحرية و يحمي حدودهم  و تخومهم.فآزروه على ذلك و أمدوه بالأموال و العدة و العتاد و الرجال الأشداء.يقول رزاح أخو قصي و هو يصف  حملته على مكة لمؤازرة قصي:
ولما أتى من قصي رسول * فقال الرسول أجيبوا الخليلا
نهضنا إليه نقود الجياد * ونطرح عنا الملول الثقيلا
جمعنا من السر من اشمذين * ومن كل حي جمعنا قبيلا
فلما انتهينا إلى مكة * أبحنا الرجال قبيلا قبيل
نعاورهم ثم حد السيوف * وفي كل أوب خلسنا العقولا
نخبّزهم بصلاب النسور * خبز القوي العزيز الذليلا
قتلنا خزاعة في دارها * وبَكرا قتلنا وجيلا فجيلا
نفيناهم من بلاد المليك * كما لا يحلون أرضا سهولا
فأصبح سيبهم في الحديد * ومن كل حي شفينا الغليلا
(خبر قصي بن كلاب و ارتجاعه ولاية البيت..البداية و النهاية ـ الجزء الثاني)
فهذا الشعر يبين لنا إلى أي مدى كان يعمر الشداخ حكيما في قضائه بين قصي و خزاعة.فما كان حكمه لصالح قصي ، و هو المتطاول على الحكم و المسيطر على حقوق الغير ، بالحكم الاعتباطي الغير العادل، بقدر ما كان حكما متعقلا رزينا يبغي الخير لخزاعة التي كادت تفنى عن آخرها.فحكم الشداخ دليل على أن الفريقين لم يكونا متكافئين و على أن جنود قصي كانوا منظمين و مسلحين بما لا قبل للشداخ و لا لخزاعة به.و أن خزاعة كانت أمام جيش قصي ضئيلة الحجم  هزيلة القوة منعدمة العتاد .فلا سلاح تملكه و لا جيشا منظما تقوده و لا فرسان تفخر بهم . و مع ذلك فقد استطاعت خزاعة أن تقتل من هذا الجيش العتيد المعتدي خمسمائة و عشرين فارسا وتجرح منهم ثلاثين . فقدمت فديتهم حقنا للدماء و نزولا عند حكم الشداخ.فآل حكم مكة إلى قصي الذي كلّف أبناءه في حياته بوظائف الزعامة من رفادة و حجابة و سقاية و لواء و ندوة.فبعثهم سفراء إلى القبائل لبعقدوا اتفاقيات الإيلاف التي ستؤمن الطرق التجارية باسم قريش و لصالح قريش. فكان قصي أول حاكم عسكري و ديكتاتور عربي يصعد سدة الحكم في مكة بواسطة تمرد شعبي و انقلاب عسكري مؤلف من المرتزقة و الجياع و اللصوص و الصعاليك ، و يقيم بهم نواة مشروع لإمبراطورية إثنية دينية في تلك المنطقة الصحراوية، القليلة السكان، والمنعزلة عن العالم.
و أظن أن قراءتنا هذه أعدل في حق الرجل و حق مآثره و محاسنه. فأهل السير و الأخبار إنما يصفون الرجل بالصعلوك العاق الذي تنكر لجميل من ربّوه و آووه، فنبذهم و خلع نفسه منهم ، تماما كما فعل موسى مع فرعون ،.فقصي حسب السير و عند أهل الأخبار ناكر جميل متمرد شرير آوى إلى الخلعاء و المطرودين و أصحاب الطوائل في جبال تهامة، فتزعم فيهم و نشرهم في طرقات الحجاز من الطائف إلى يثرب للسيطرة عليها ،ثم سلطهم على خزاعة الذين صاهروه و آثروه على أنفسهم، فأفنوهم عن بكرة أبيهم، واحتلوا مكانهم. و استحلوا حرم البيت فتجاسروا على بيئته و شجره ، فخبروا بيئته و قطعوا شجره و أقاموا فيه لهم الغرف و المنازل، و نكحوا فيه قرب الكعبة بعدما كان محرما عليهم.فقصي إذا ثائر متمرد في بلاد غير بلده، قلب الأوضاع بمكة و أقام نظام البروليتاريا والعبيد والجياع و اللصوص.
و قبل أن نطوي ورقة فصي أرى أنه من اللازم الإدلاء بملاحظتين مفصليتين في هذا الموضوع.أما أولاهما فتتعلق باسم قصي الذي لا يرد في المصادر العربية إلا مرة واحدة في التاريخ.فلا قصي تجده قيل قصي بن كلاب و لا قصي بعده..أما جواد علي فروي في هذا الصدد أن هذا الاسم لم يرد في نصوص المسند(بمعنى أنه ليس يمنيا) و إنما ورد في النصوص النبطية. و هذا الاسم هو اسم صنم في الأصل بدليل ورود اسم عبد قصي.ثم يستطرد مضيفا"و يلاحظ أن الاسم الذي زعم الإخباريون أنه اسم قصي الأصلي الذي سمي به يوم ولد بمكة و هو زيد فقد نص أهل الأخبار على أن زيدا هو صنم من أصنام العرب(الاشتقاق 13 ـ المصنف 4/57).و ثاني الملاحظات هي سكوت أهل الأخبار عن ديانة المدعو قصي.و إنما اكتفوا بذكر دفنه في الحجون مدفن الحنفاء من آل قريش حيث قبر عبد المطلب جد النبي .إلا أن هناك أمرين يفرضان الشك في أمر حنفية قصي أولهما أن قصيا تزوج مرة واحدة في حياته ، و كانت زوجته الوحيدة و أم أولاده هي حبى بنت حليل، بعكس الحنفاء الذين يعتمدون نظام التعدد في الزواج سيرا على هدي أبيهم الأكبر الصعلوك الأعظم إبراهيم الأسطورة عليه السلام.و ثانيهما أن قصيا قد أوصى  لابنه البكر عبد الدار بن قصي قبل وفاته بكل مقاليد الزعامة و الحكم ، بعدما كانت وظائفها موزعة على أبنائه و أحفاده.و هذا كذلك ليس دأب الأحناف الذين يوزعون الإرث على أصحاب الحقوق. و إنما ذاك دأب النصارى و أتباع المسيح..

أبو قـــثم



الثلاثاء، 8 يونيو 2010

مملكة الصعاليك ـ الصعلوك الأكبر



الطبيعة تخاف الفراغ و التاريخ لا يقبل الصدف،إلاّ في جزيرة العرب،حيث الطبيعة تحتضن الفراغ الأسطوري ، و التاريخ يستلقي على سرير القدر...مكة ،حسب خرافات العرب، لم يبنها بشر...إنما الله ،منذ البدء أوجد مكة على صورة لها في السماء"حيث البيت المعمور يدخله كل يوم و ليلة سبعون ألف ملاك " (الأزرقي ، أخبار مكة 1/34) ،قال مجاهد :لقد خلق الله موضع البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة "و قال كعب الأحبار  "كانت الكعبة غثاء على الماء قبل أن يخلق الله السماوات و الأرض بأربعين سنة" و عن ابن عباس قال"لمّا كان العرش على الماء...بعث الله ريحا...و دحا الأرض فمادت ثم مادت...فكانت مكة أم القرى"..(الأزرقي، أخبار مكة، 1/32ـ35؛78ـ79).و العجب العجاب، أن عمران الله الذي شيده بيديه المقدستين تهدّم و اندثر...و إبراهيم هو من أعاد بناء الكعبة. هو  وابنه إسماعيل...و عندما وصلا إلى المنطقة المباركة لم يجدا للعمران الإلهي أي أثر...لم يجدا منزلا و لا حجرا و لا طريقا معبدة و لا أي شاهد على عمران الواحد القهار...فهل هذا مما يعقل؟؟... هل يعقل أن يصمد العمران البشري الذي شيّده إبراهيم في حين عمران العلي القدير اندثر؟؟ الطبيعة لا تقبل الفراغ ، و التاريخ لا يقوم بالصدف، و الله لا يبني الأعشاش لبني البشر.مكة لم يبنها بشر..و القرآن لم يكتبه بشر..و لا دولة المسلمين أنشأها البشر...إنما كل شيء في عرف العرب يتم بالصدفة و العناية الربانية و هذا ما تأباه العقول و ليس له في الألباب مقر... أما العوامل الخارجة عن الجزيرة فلها اليد العليا في كل ما جرى و يجري  في بلاد العرب و يعزوه المشدوهون و المبهورون إلى الله و الصدفة و القدر.
لقد كان هناك تنافس قوي و صراع مرير بين كل من الفرس و مواليهم من عرب ما بين النهرين من جهة، و الروم و مواليهم من عرب الشام،من جهة ثانية،والحبشة وأتباعهم من أهالي اليمن من جهة ثالثة؛من أجل السيطرة على الأقاليم الصحراوية وسط الجزيرة العربية (نجد و تهامة و الحجاز)، و تحديد مصيرها. ما حذا بالمنطقة؛و في ظل الحفاظ على مصالح كل جهة فيها، و حتى لا تتضرر الطرق التجارية المارة منها؛لتصبح منطقة عازلة منزوعة السلاح. و الملاحظ أن الإمبراطور فيليب العربي الذي حكم روما ما بين 204 و 249 للميلاد كان أول من وجّه أنظار الرومان إلى الطريق المخترقة للصحراء، و أن التجار الرومان بدأوا في استعمالها منذ عهده. و ذلك، لصعوبة المسالك البحرية في البحر الأحمر و سيطرة الساسان على الخليج الفارسي. و الملاحظ أيضا، أن هذه التجارة كانت تكبر و تزدهر في فترات السلم ،وأن أطول مدة سلم بين الفرس و الرومان كانت ما بين 384 و 502م.حيث شهدت هذه الطريق أزهى  و أطول فترات ازدهارها. فلا الصدفة و لا الله و لا وعورة الصحراء أو اشتغال الإمبراطوريتين بالحروب فيما بينهما ،كانت هي العوامل التي نأت بهذه المنطقة عن الحروب، و حالت دون استعمارها من طرف إحدى الإمبراطوريتين...إنما هي المصالح العليا التي اقتضت عزل صحراء العرب و تسخير أهلها في عمليات الربط و التواصل بين الإمبراطوريتين والسخرة و حماية الحدود و التخوم.
و كان الرومان أكثر الأطراف اهتماما بجزيرة العرب.فالإمبراطورية الحبشية كانت تهيمن على بحر الحبشة الممتد من القرن الإفريقي إلى الهند ، بجزره و سواحله. و تحتكر تجارتها البرية صحراء صعيد مصر التي تربط الحبشة (أكسوم) ، بالبحر الأبيض المتوسط..أما فارس فتلك كانت جارة لممالك الهند و الصين ، و تسيطر على بحر عمان و الخليج الفارسي..أما البحر العربي ( الأحمر) فكانت فيه الملاحة شبه مستحيلة بالنسبة للأسطول الروماني ، و بالخصوص في مناطقه الوسطى. لذا كان الرومان يراهنون أكثر من غيرهم على الطريق التي تمر بيثرب و مكة ، و تصل بلاد الشام بنجران التي كانت مستعمرة من طرف الأحباش، من جهة،و ممالك اليمن السعيد و خليج عدن ،من أخرى. فبتواطؤ من الأحباش النصارى، و مساهمة من ممالك حمير و حضر موت و مشاركة عرب الشام و تخوم الرومان أسست الرومان أسطولا تجاريا هاما تموّله القسطنطينية و يسهم فيه اليمنيون و الأحباش، و يسهر على أمنه عرب الشام ومرتزقة البدو المنتشرون في البادية على شكل تجمعات قبلية و عصابات و عشائر، تترحل طلبا للكلأ و الماء. فأثارت الحركة الطارئة الجديدة على ساحل الصحراء انتباه الأعراب المترحلين و القبائل الممحلة بالمنطقة ، بالإضافة إلى مجاميع الخلعاء والصعاليك المنتشرين في أصقاع الصحراء، ما جعلهم يرابضون على طول الممرات و المفاوز التي تقطعها هذه القوافل، يتربصون بها ليغيروا عليها أو ليرتزقوا منها.فنشأت بذلك حركة القرصنة الصحراوية التي أدت إلى عقد أول اتفاق في التاريخ بين شيوخ و أعيان القبائل العربية و فيليب العربي إمبراطور الرومان.والتي سيستغلها محمد فيما بعد ،في عملية إنشاء دولته الكبرى.
في هذه الأثناء كانت بين تلال و أودية الحجاز الفاصلة بين الشام و نجران تتلألأ عين ماء تجدب إليها الراحل و المسافر، فيقصدها الطائر في الأجواء الحارة، و الدّابّ على الرمال القاحلة.كانت العين تقبع في قرطاس من الخرافات و الأساطير...فهي بئر زمزم التي يقال حفرها إسماعيل، جوار كومة الأحجار المكدسة في شكل بيت مكعب يقال، بناه إبراهيم، و سمي ببيت الله الحرام...و نحن نعلم، إنما المدن تنشأ على ضفاف الأنهار و مصابها،و على سواحل البحار و على مفترقات الطرق..و زمزم ماء على ملتقى طريقين ،طريق تربط الشام بنجران و أخرى تربط يثرب بساحل بحر العرب(الأحمر)..فلا الله و لا إبراهيم، لأي أحد منهما اليد في إنشاء مكة..إنما هي الحاجة الموضوعية و الضرورة الملحة ما حذا بمحترفي و مستكشفي هذه الطريق إلى إحداث هذا المكان، الذي هو عبارة عن منتجع ضيق بين جبال ، به بئر و ظلال و يتوسطه خان بدائي يضع فيه الزوار و خصوصا أصحاب القوافل رحلهم،و ينتجعون الظلال حوله. فنسجوا حوله مع الأيام هالة من الأساطير و المخاريق، و أحاطوه بالقدسية و الجلال ليوقعوا الهيبة منه في نفوس السذج من العرب الممتنعين في الجبال و المنتشرين على الطرقات.و جعلوا له حراسا و نساكا يأخذون أجورهم .أما إبراهيم أبو الأنبياء و رمز العقوق و الصعلكة فتلك شخصية، تبقى أسطورية من وحي خيال التوراة إلى إشعار آخر..ذلك أن الدراسات العلمية و الأبحاث الأركيولوجية العديدة التي أجريت في بلاد ما بين النهرين و فلسطين أثبتت جميعها عدم تاريخانية إبراهيم، الشخصية الإنجيلية الذي جعله سفر التكوين الجد الأكبر لبني إسرائيل و العرب و أب الموحدين (أنظر: أبراهام ، موسوعة ويكيبيديا ، فرنسية).كما أن زمزم و كعبته ، من جهة أخرى لم يكونا في واد غير ذي زرع كما يدعي القرآن. إنما الوادي كان معشوشبا خصبا ظليلا، و أنه لم يصبح غير ذي زرع إلا بعد ظهور الإسلام. فلدينا من الأخبار ما يفيد أنه " قد كان حول الحرم شجر ذو شوك نبت من قديم و كوّن غوطة، فقطعها عبد مناف بن قصي، و هو أول من بنى دارا بمكة، و لم تبن دار قبلها،بل كان بها مضارب للعرب من الشعر الأسود.(نزهة الجليس، 1/24).و عند غربلته لروايات الإخباريين المتقدمة عن سعة الحرم و زمان بناء الدور بمكة استنتج جواد علي أن باطن مكة، و هو الوادي الذي فيه البيت، كان حرما آمنا، لا بيوت فيه، أو أن بيوته كانت قليلة حصرت بسدنة البيت و ممن كانت له علاقة بخدمته.لذلك نبت فيه الشجر حتى غطى سطح الوادي، من السيول التي كانت تسيل إليه من الجبال.و لم يكن في وسع أحد التطاول على ذلك الشجر، لأنه شجر حرم آمن.و بقي هذا شأنه يغطي الوادي و يكسو وجهه بغوطة حتى جاء قصي.فتجاسر عليه بقطعه..و خاف الناس من فعله ، خشية غضب رب البيت، و نزول الأذى بهم إن قطعوه. فلما وجدوا أن الله لم يغضب عليهم، و أنه لم ينزل بهم سوءا،اقتفوا أثره، فقطعوا الشجر، و استحوذوا على الأرض الحرام(المصنف 4/53).و سيبقى هذا الغطاء النباتي منتشرا بالأرض الحرام حتى مجيء الإسلام و نزول القرآن.إذ " يتبين من خطبة الرسول عام الفتح و يوم دخوله البيت الحرام و قوله : لا يخلى خلا مكة و يعضد شجرها ..أن حرم مكة كان لا يزال ذا شجر. و لم يكن قد قطع تماما منه في أيام الرسول..(نفس المصدر أعلاه)
كان الوادي إذا ،عبارة عن واحة ظليلة كثيفة الشجر الذي في ظلاله ينصب التجار و المنتجعون خيامهم بعد أن يستودعوا خان زمزم أمتعتهم.وتحيط بالوادي جبال و تلال و أودية من كل جانب تُؤوي أطيافا من البشر في غالبيتهم من البدو و الأحابيش و الخلعاء و المطرودين من بلدان منشئهم."هؤلاء يسميهم القرآن بالأراذل و الأذلة و الأرذلين، وفيهم الفقير و اليتيم و المسكين و ابن السبيل و المحتاج، أما كتب السير و الأخبار فتنعتهم بالصعاليك و الخلعاء و الطرداء و الخلطاء و لصوص البادية و ذؤبان العرب و الشياطين و الفتاك و غير ذلك (تاريخ الواقدي ،457 ؛ تاريخ الطبري، 1/1438 ؛ الأغاني8/65 ؛ النهاية لابن الأثير2/52 ـ 63 ؛أسد الغابة في أسماء الصحابة،5/178).فأهل الأخبار كلهم يجمعون على أن سكان الوادي إنما نزحوا إليه من" مختلف أنحاء الجزيرة المسماة عربية و من الهلال الخصيب و من اليمن و بلاد فارس و الروم و من مصر و الحبشة و السودان و من فينيقيا و فلسطين و بلاد الشام،واختلاطهم هذا أدى إلى اختلاط أديانهم و تنوع معتقداتهم و لغاتهم،فكان منهم يهود و نصارى و صابئة مندائيون و زرادشتيون مجوس كما كان في لغاتهم الحميرية و المسند و الثمودية و اللحيانية و الديدانية و النبطية و الحبشية و الرومية و اليونانية و العبرانية و الآرامية و العربية " (تاريخ اليعقوبي 1/254).هؤلاء النازحون إلى أصقاع الصحراء القاصدون لهذا الوادي عاش معظمهم عشائر و أفرادا، فسكنوا على طرق القوافل التجارية بحثا عن لقمة العيش،إما بواسطة عمل ينالون أجره و إما بواسطة النهب و السلب و الغزو.و جلهم عاش حوالي الكعبة و بالقرب منها، أو على الطريق الممتد بين مكة و المدينة و وادي القرى و تيماء مرورا بالبتراء حتى بلاد الشام. هكذا أنشأت هذه الوفود التجمعات الهائلة و انتشرت من حوالي خان زمزم مستفيدة من مكانته الخرافية و موقعه التجاري.
أما عن تاريخ مكة في السير وعند أهل الأخبار،فإن الناس قد عادوا إليها بعد الطوفان، فقامت فيها قبائل عديدة، و كان أول من اشتهر منهم ، بعلم المؤرخين المسلمين، قبائل يمنية أفسدت الأرض و ما عليها،عرف منها قبيلتا : جرهم و قطورا. هاتان جاءتا في الوقت الذي جاء فيه إبراهيم (العاق) و ابنه إسماعيل (اللقيط) من بلاد الكلدانيين.و نكح إسماعيل في جرهم... و لما توفي إسماعيل تولى أمر البيت بنوه ابتداء بنابت أكبرهم ثم مضاض بن عمرو الجرهمي خال أولاد إسماعيل،ثم تنافست جرهم و قطورا في الملك،و تداعوا إلى الحرب ،فانهزمت قطورا؟؟، ثم تداعوا إلى السلم. ثم أن جرهم بغت في مكة فاستحلوا حراما، و ظلموا من دخلها و أكلوا مال الكعبة .في هذه الأثناء جاء العماليق من سيناء هربا من وجه موسى الذي حاربهم و طردهم إلى نواحي مكة.فسكنوا مع جرهم الذين ملكوا و استبدوا.ثم هجرت خزاعة قبيلة أخرى من اليمن و فرع من الأزد عقب خراب سد مأرب، و وقع بين خزاعة من جهة و جرهم و العماليق من جهة ثانية معارك فكان النصر لخزاعة التي وليت البيت ثلاثمائة سنة، يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى آخرهم حليل بن حبشية (معجم البلدان ، 5/ 185 ـ 187) الذي تزوج قصي بن كلاب بنته حبى بنت حليل
هذه هي الأوضاع المزرية المخيفة التي كانت ترقبها القسطنطينية بعين من الريبة و الحذر و التريث.هذه هي الأوضاع المقلقة التي كانت تقض مضجع الروم، و تجعلهم غير آمنين على مستقبلهم السياسي و مستقبل أوطانهم.فطالما أن المنطقة غير آمنة،لا برا و لا بحرا،فإن هذا يشكل خطرا حقيقيا يهدد بيزنطة في الصميم ، خصوصا و أنها تعيش على إيقاع حروب لا تنهي في الغرب حيث ظهرت أقوام منافسة مثل برابرة الجرمان و الوندال و ظهور الفرانك في بلاد الغال بالإضافة إلى المعارك التي لا تنتهي على حدود الساسان.و لا يغيب عن الأذهان ما كانت تشهده بيزنطة داخليا ، مع ظهور اليعقوبية و النسطورية و الفرق الدينية المختلفة و اشتغال البلاد و العباد بالهرطقة ، من تمزق اجتماعي و انقسام في الصفوف.لم تستطع القسطنطينية فتح جبهة أخرى للحرب ، و كانت رغبتها ملحة في السيطرة على أوضاع خان زمزم و تأطير هذه الحركة الناشئة الخطيرة و المنفلتة عن أي سيطرة و الخارجة عن كل الأعراف و القواعد..في هذا الإطار كلفت القسطنطينية عملاءها من الغساسنة بالتدخل الحاسم الذي من شأنه التحكم في الأوضاع داخل الصحراء و استتباب الأمن ، و ضمان حسن سير الطرق و الإمدادات التجارية على الأمد البعيد، و يمكّن،بالتالي ، من التقرير في مصير المنطقة و السيطرة عليه.و كانت دولة الغساسنة في هذه الأثناء دولة قوية الشوكة شبه مستقلة،و كانت تبسط نفوذها على المنطقة الممتدة من صحراء سوريا شمالا، إلى حدود يثرب جنوبا. و كانت تتخذ مدينة جباليا بالجولان عاصمة .. كما كانت غسان تتربع على عرش تجارة الشرق الأوسط، و يشهد على ذلك ما خلفته غسان من عمران و آثار و وثائق تشهد لها على مكانتها التجارية، عكس مكة و أهلها الذين لا نتوفر على أي دليل مادي يدل على أنهم كانوا يحتكرون التجارة العالمية قرنين من الزمن اللهم ما نستقيه من أخبارهم و سيرهم.
و لعلمهم بالمنطقة و وعورتها، و خان زمزم و قدسيته لدى السذج، و بالبدو و همجيتهم ، فقد آثرت غسان عدم التدخل المباشر و المغامرة بالمال و الرجال،فانتدبت للمأمورية سرية على رأسها مرتزق من ضواحي تبوك يعرف بانتمائه من جهة أمه إلى إحدى قبائل البدو في الحجاز، يلقبونه هناك  بالقرشي و اسمه زيد بن كلاب الذي يدعوه أهل الأخبار قصيا.فقد سأل عبد الملك بن مروان محمدا بن جبير ، متى سميت قريش قريشا ؟قال:حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها، فذلك التجمع التقرش.فقال عبد الملك بن مروان: ما سمعت هذا ، و لكن سمعت أن قصيا كان يقال له القرشي.و لم تسم قريش قبله.(الطبري 2/264 و ما بعدها ؛ المفصل 4/25).لم تكن بعثة فصي اعتباطية و لا ارتجالية، إنما جاءت نتيجة دراسة متأنية للوضع و تهيئ ما يليق به من خطة بليغة، ثم اختيار الشخص المناسب و الوفت المناسب.و كانت الخطوة الأولى أحسم خطوة لما نسبوا قصي إلى كعب بن لؤي.فقالوا هو قصي أو زيد بن كلاب بن مرة ين كعب بن لؤي(ابن الأثير،الكامل 2/8 ، ابن سعد1/68)، و قالوا هو قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان(الطبري،2/661 ، تاريخ الإسلام للذهبي 1/18،أبو الفدا،المختصر1/112).و كعب بن لؤي هو أهم شخصية في هذه السلسلة لدى مبرمجي الخطة لما سمعوا من محاولاته المبكرة توحيد أشتات الذين يسمون قريش المفسدين في البلاد و تأطيرهم و السيطرة عليهم.يذكر أهل الأخبار أن مكة لم تكن ذات منازل، و كانت قريش بعد جرهم و العمالقة ينتجعون جبالها و أوديتها و لا يخرجون من حرمها انتسابا إلى الكعبة لاستيلائهم عليها و تخصصا بالحرم لحلولهم فيه،و لمّا كان كعب بن لؤي بن غالب جمع قريشا و صار يخطب فيها كل جمعة، وكان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية "عروبة" فسماه كعب الجمعة.و بذلك ألف بين قريش حتى جاء قصي ففعل ما فعل (الأحكام السلطانية 162 ) ..فجرهم و العمالقة، إذا، و بنو خزاعة و كنانة بعدهم، و جميع من تجمّع حول مكة لم يكونوا يسكنون البطاح المعشوشبة جوار البيت..إنما كانوا ينتجعون الجبال المجاورة و الأطم، و ينتشرون على جنبات الطرقات و السبل المؤدية إلى مكة، قصد تسوّل القروش.فكانوا كلما مرت بهم قافلة أو أفراد أو جماعات، ينادون عليهم : من فضلك يا قاصدا البيت قرشا..هاي ، قرشا من فضلك.. و كانوا يحبون القروش حبّا جما، و يجمعون المال لمّا لمّا..فتراهم يلحفون في الطلب، و طالما تبعوا الزوار لمسافات طوال، و هم ينادون : قرشا من فضلك!.. قرشا من فضلك!...حتى أضحوا يصرونه استقلالا من قيمته    فيقولون: أي!!! ولو قريشا،حفظتك اللات!!...قريشا من فضلك!!...فمنذ أن يدخل المسافر أرض الحجاز،سواء من شمالها أو من جنوبها،لا تكف أذناه عن سماع قريش من فضلك قريش من فضلك.فما كان من التجار و محترفي هذه الطريق يوميا إلا أن أطلقوا على هؤلاء القوم لقب محبي القريش ،على وزن محبي الحكمة؛ أو أحباب القريش. ثم رخموها مع مرور الوقت حتى أبقوا على قريش. و كان يعرف عن هؤلاء الناس حبهم الشره للمال،و أنهم يجمعونه و لا يصرفونه في أي شيء.فقد ورد في مذكرات سترابون الجغرافي التي يصف فيها رحلة إيلوس جالوس في عهد الإمبراطور سيزار أوغست أن هذا الأخير قال لجالوس:أريد منك أن تستخبر لي أمور هؤلاء العرب الذين سمعت عن غناهم المفرط و الذين يستبدلون عطورهم و أحجارهم الكريمة بكل ذهب و فضة الأمم الأخرى ، دون أن يصرفوا منها على أنفسهم شيئا...( سترابون الجغرافي ،أول رحلة اسكشافية ، معطيات جغرافية، العربية بدون نبي ـ موقع إسلام  وثائق ، فرنسي) .فهم كانوا إنما يعيشون على الصدقات و يلبسون من الصدقات و إذا جاد عليهم أحد بقريش أضافوه إلى ما معهم من القريشات و احتفظوا به...حتى أصبحوا يربون قريشاتهم و يقرضونها لأولئك الذين كانوا بها عليهم يتصدقون، أو يضاربونهم في تجاراتهم و يساهمون في قوافل شركة مكة التي سوف ينشئها قصي ، كما سنأتي على ذكره في مكانه..فلقد قيل سميت قريش من القرش و هو الكسب و التجارة، و حكاه ابن هشام رحمه الله. وقال الجوهري: القرش الكسب و قيل قرش قرش.. (ابن كثير ، البداية و النهاية 2/187)وقال ابن سيده"قرش قِرشا أي جمع و ضمّ من هنا و هنا(عن لسان العرب 6/334،مادة"قريش") ،أما البيهقي فيقول في هذه المسألة ،  قال معاوية لابن عباس: فلم سميت قريش قريشا". قال لدابة تكون في البحر، أعظم دوابه، يقال لها القرش.لا تمر بشيء من الغث و السمين إلا أكلته.و أنشده شعر الجمحي إذ يقول:
و قريش التي تسكن البحر     بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث و السمين و لا      تترك لدي الجناحين ريشا
هكذا هي في البلاد قريش      يأكلون البلاد أكلا كميشا
و لهم آخر الزمان نبي       يكثر القتل فيهم و الخموشا
(ابن كثير ، البداية و النهاية 2/187)
إذا فكلمة قريش لم تكن اسما علما لمجموعة اثنية معينة أو لقبيلة أو عشيرة ،بل كانت صفة يلقب بها الجياع الصياع المتربصون بالمارة على طرقات الحجاز لتسول القريشات.و فيه قول ابن الكلبي :إنما قريش جمّاع  النسب ، ليس بأب و لا بأم و لا حاضن و لا حاضنة (ابن سعد 1/66 ـ69، نهاية الأرب 16/20). و كان  قصي كما سبق ذكره يلقب في صغره عند أخواله بالقرشي.  يقرن أهل الأخبار بين قصي و اسم قريش حبث يقولون أنه هو من جمع أشتات القبائل و العشائر و العصابات التي آوى إليها و سماها قريشا.فإذا صح هذا الخبر فإنه ليس يعني أن الكلمة لم تكن موجودة من قبل، و إنما يعني أن قصيا هو أول من أعطاها صبغة الرسمية و الشرعية فأصبحت اسما علما عوض صفة كاريكاتورية لبدو خان زمزم.أما التسمية فيظهر أنها غسانية ، أطلقها أهل الشام على سكنة الحجاز استهزاء منهم و استخفافا بهم.و أهل غسان جيران يثرب من الشمال، فهم أعلم الناس بأحوال جيرانهم، لدى كانوا يلقبونهم بأحب شيء إلى قلوبهم و هو القرش.
كما أن قريشا كما فصل فيه ابن الكلبي ( و لذلك ينقمون عليه) ليسوا قبيلة و لا عشيرة و لا عائلة و لا أسرة ،بل هم فروع أنساب عديدة و صعاليك  و أشتات قبائل و خلعاء مجرمون كما سبق ذكره ، كانوا مشتتين حول خان زمزم (مكة المكرمة)، يتربصون بالمارة ، ينهبون و يسرقون و أكثرهم  يتسولون ، و منهم مرتزقة عديدون يحاربون مقابل الأجر و تسميهم السير و الأخبار بذؤبان العرب و الشداد. يعرفون باللصوصية والبخل و الشح و حب القرش و تكديس الذهب و الفضة.فالخطة اقتضت أن ينتسب قصي إلى بيت أو كهف من كهوف هؤلاء المرتزقة لتأطيرهم و التأثير المباشر فيهم و تكوين قوة ضاربة بهم .فكان كعب بن لؤي أنسب نسب ، و كان زهرة أنسب كهف ،استقبلوه مستبشرين، و استلحقوه بنسبهم.و كانت العرب تأخذ بمبدأ الاستلحاق في أنسابهم.فلما جمع قصي قريشا و كان أدهى من رئي من العرب قال لهم: هل لكم أن تصبحوا بأجمعكم في الحرم حول البيت؟؟؟فوالله لا يستحل العرب قتالكم و لا يستطيعون إخراجكم منه.و تسكنونه فتسودوا العرب أبدا.فقالوا:أنت سيدنا و رأينا تبع لرأيك ، فجمعهم ، ثم أصبح في الحرم حول الكعبة (قريش من القبيلة إلى الدولة،38) هكذا بايع صعالكة الجبال قصيا البيعة الأولى ،فتمكن قصي من وضع أول رجل له في مكة ، و هو آنذاك ابن العشرين حجة و نيف.فقد ورد في معجم البلدان أن قصيا أول من أصاب الملك من ولد إسماعيل، و ذلك أيام المنذر بن النعمان على الحيرة و الملك بهرام جور في الفرس (5/178)و بهرام جور هو بهرام الخامس الذي تولى الحكم إثر حرب أهلية دامت طوال سنة 420،تولى الحكم في آخرها بعدما قتل جميع أفراد عائلته.في هذه السنة انتقل قصي بسَريته السّرّيّة إلى مكة. و قد ولد قصي سنة 400 و عاش ثمانين سنة ، و عبد مناف ثالث أبنائه ولد سنة 430م(موسوعة ويكيبيديا ـ قصي بن كلاب ـ فرنسية).هكذا أصبح قصي بصعاليكه ينزلون على مكة فيثيرون فيها الفوضى و يحدثون القلاقل و المشاكل ، و يستهزئون بأهلها شيبا و شبابا و ينكلون بأسيادها. فأصبحت أخباره تتناقلها جميع الألسن.ذاك الشاب الأزعر فارع الطول ،عريض المنكبين.قال علي بن برهان الدين الحلبي في وصفه "رجلا جليدا حازما بارعا" ،ذاك النبيل الأبيض البشرة القادم من عالم ما وراء الشمس ، تيّم بمشاكساته و صبيانياته و جماله و صعلكته قلوب نساء قريش و بناتها. فاستمال إليه سيدتهن حبى بنت حليل سيد خزاعة، فتودّد إلى أبيها الذي عرف نسبه(صعلكته) ما أفضى به إلى الإذعان إلى مصاهرته.و به تمّ لقصي وضع ثاني أقدامه في مكة. و يروي الإمام محمد يوسف الصالحي الشامي في موسوعته سبل الهدى و الرشاد في سيرة خير العباد ،فيما يرويه عن مسألة مال قصي فيقول رحمه الله"و كان أول مال أصابه (قصي) مال رجل قدم مكة بأدم (جلود) كثير ، فباعه و حضرته الوفاة و لا وارث له فوهبه لقصي و دفعه له...1/321 ـ 325).
هذه هي الصدف و إلا فلا!!!و هذا هو تاريخ العرب الجميل.فالتاريخ عند العرب عاقل مبدع فنان ،يحدد أهدافه و يخلق شخصياته ثم  يحدث الظروف الملائمة فيقول لها كن فتكون. أما الشخصيات في التاريخ العربي فهي كراكيز جامدة يسيرها التاريخ بواسطة خيوط الصدف و الأقدار.فبالصدفة تربى قصي بالشام وعاد منها صدفة.و بالصدفة العربية وجد قصي نفسه ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي و بالصدفة العربية و العناية الإلهية سيجد قصي نفسه تزوج بنت سيد خزاعة ثم أجلا أهلها عن مكة و نفاهم منها، و بالصدفة التي لا صدفة بعدها و لا قبلها سيجد قصي نفسه أول ملوك الحجاز...و نحن استهللنا هذا القول بأن التاريخ لا يقوم بالصدف. و أنه لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا ،و لا ينال العلا من قدم الحذرا(المتنبي). و أن قصيا لم يجد الملك على طبق من ذهب..إنما لكل شيء ثمنه و لكل حادث علته  و لكل سبب مسببه ، ما سنقف عليه سببا  سببا و علة علة بغية الوقوف على أحقية قصي بلقب الصعلوك الأكبر.
أبو نبي الصعاليك