الثلاثاء، 8 يونيو 2010

مملكة الصعاليك ـ الصعلوك الأكبر



الطبيعة تخاف الفراغ و التاريخ لا يقبل الصدف،إلاّ في جزيرة العرب،حيث الطبيعة تحتضن الفراغ الأسطوري ، و التاريخ يستلقي على سرير القدر...مكة ،حسب خرافات العرب، لم يبنها بشر...إنما الله ،منذ البدء أوجد مكة على صورة لها في السماء"حيث البيت المعمور يدخله كل يوم و ليلة سبعون ألف ملاك " (الأزرقي ، أخبار مكة 1/34) ،قال مجاهد :لقد خلق الله موضع البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة "و قال كعب الأحبار  "كانت الكعبة غثاء على الماء قبل أن يخلق الله السماوات و الأرض بأربعين سنة" و عن ابن عباس قال"لمّا كان العرش على الماء...بعث الله ريحا...و دحا الأرض فمادت ثم مادت...فكانت مكة أم القرى"..(الأزرقي، أخبار مكة، 1/32ـ35؛78ـ79).و العجب العجاب، أن عمران الله الذي شيده بيديه المقدستين تهدّم و اندثر...و إبراهيم هو من أعاد بناء الكعبة. هو  وابنه إسماعيل...و عندما وصلا إلى المنطقة المباركة لم يجدا للعمران الإلهي أي أثر...لم يجدا منزلا و لا حجرا و لا طريقا معبدة و لا أي شاهد على عمران الواحد القهار...فهل هذا مما يعقل؟؟... هل يعقل أن يصمد العمران البشري الذي شيّده إبراهيم في حين عمران العلي القدير اندثر؟؟ الطبيعة لا تقبل الفراغ ، و التاريخ لا يقوم بالصدف، و الله لا يبني الأعشاش لبني البشر.مكة لم يبنها بشر..و القرآن لم يكتبه بشر..و لا دولة المسلمين أنشأها البشر...إنما كل شيء في عرف العرب يتم بالصدفة و العناية الربانية و هذا ما تأباه العقول و ليس له في الألباب مقر... أما العوامل الخارجة عن الجزيرة فلها اليد العليا في كل ما جرى و يجري  في بلاد العرب و يعزوه المشدوهون و المبهورون إلى الله و الصدفة و القدر.
لقد كان هناك تنافس قوي و صراع مرير بين كل من الفرس و مواليهم من عرب ما بين النهرين من جهة، و الروم و مواليهم من عرب الشام،من جهة ثانية،والحبشة وأتباعهم من أهالي اليمن من جهة ثالثة؛من أجل السيطرة على الأقاليم الصحراوية وسط الجزيرة العربية (نجد و تهامة و الحجاز)، و تحديد مصيرها. ما حذا بالمنطقة؛و في ظل الحفاظ على مصالح كل جهة فيها، و حتى لا تتضرر الطرق التجارية المارة منها؛لتصبح منطقة عازلة منزوعة السلاح. و الملاحظ أن الإمبراطور فيليب العربي الذي حكم روما ما بين 204 و 249 للميلاد كان أول من وجّه أنظار الرومان إلى الطريق المخترقة للصحراء، و أن التجار الرومان بدأوا في استعمالها منذ عهده. و ذلك، لصعوبة المسالك البحرية في البحر الأحمر و سيطرة الساسان على الخليج الفارسي. و الملاحظ أيضا، أن هذه التجارة كانت تكبر و تزدهر في فترات السلم ،وأن أطول مدة سلم بين الفرس و الرومان كانت ما بين 384 و 502م.حيث شهدت هذه الطريق أزهى  و أطول فترات ازدهارها. فلا الصدفة و لا الله و لا وعورة الصحراء أو اشتغال الإمبراطوريتين بالحروب فيما بينهما ،كانت هي العوامل التي نأت بهذه المنطقة عن الحروب، و حالت دون استعمارها من طرف إحدى الإمبراطوريتين...إنما هي المصالح العليا التي اقتضت عزل صحراء العرب و تسخير أهلها في عمليات الربط و التواصل بين الإمبراطوريتين والسخرة و حماية الحدود و التخوم.
و كان الرومان أكثر الأطراف اهتماما بجزيرة العرب.فالإمبراطورية الحبشية كانت تهيمن على بحر الحبشة الممتد من القرن الإفريقي إلى الهند ، بجزره و سواحله. و تحتكر تجارتها البرية صحراء صعيد مصر التي تربط الحبشة (أكسوم) ، بالبحر الأبيض المتوسط..أما فارس فتلك كانت جارة لممالك الهند و الصين ، و تسيطر على بحر عمان و الخليج الفارسي..أما البحر العربي ( الأحمر) فكانت فيه الملاحة شبه مستحيلة بالنسبة للأسطول الروماني ، و بالخصوص في مناطقه الوسطى. لذا كان الرومان يراهنون أكثر من غيرهم على الطريق التي تمر بيثرب و مكة ، و تصل بلاد الشام بنجران التي كانت مستعمرة من طرف الأحباش، من جهة،و ممالك اليمن السعيد و خليج عدن ،من أخرى. فبتواطؤ من الأحباش النصارى، و مساهمة من ممالك حمير و حضر موت و مشاركة عرب الشام و تخوم الرومان أسست الرومان أسطولا تجاريا هاما تموّله القسطنطينية و يسهم فيه اليمنيون و الأحباش، و يسهر على أمنه عرب الشام ومرتزقة البدو المنتشرون في البادية على شكل تجمعات قبلية و عصابات و عشائر، تترحل طلبا للكلأ و الماء. فأثارت الحركة الطارئة الجديدة على ساحل الصحراء انتباه الأعراب المترحلين و القبائل الممحلة بالمنطقة ، بالإضافة إلى مجاميع الخلعاء والصعاليك المنتشرين في أصقاع الصحراء، ما جعلهم يرابضون على طول الممرات و المفاوز التي تقطعها هذه القوافل، يتربصون بها ليغيروا عليها أو ليرتزقوا منها.فنشأت بذلك حركة القرصنة الصحراوية التي أدت إلى عقد أول اتفاق في التاريخ بين شيوخ و أعيان القبائل العربية و فيليب العربي إمبراطور الرومان.والتي سيستغلها محمد فيما بعد ،في عملية إنشاء دولته الكبرى.
في هذه الأثناء كانت بين تلال و أودية الحجاز الفاصلة بين الشام و نجران تتلألأ عين ماء تجدب إليها الراحل و المسافر، فيقصدها الطائر في الأجواء الحارة، و الدّابّ على الرمال القاحلة.كانت العين تقبع في قرطاس من الخرافات و الأساطير...فهي بئر زمزم التي يقال حفرها إسماعيل، جوار كومة الأحجار المكدسة في شكل بيت مكعب يقال، بناه إبراهيم، و سمي ببيت الله الحرام...و نحن نعلم، إنما المدن تنشأ على ضفاف الأنهار و مصابها،و على سواحل البحار و على مفترقات الطرق..و زمزم ماء على ملتقى طريقين ،طريق تربط الشام بنجران و أخرى تربط يثرب بساحل بحر العرب(الأحمر)..فلا الله و لا إبراهيم، لأي أحد منهما اليد في إنشاء مكة..إنما هي الحاجة الموضوعية و الضرورة الملحة ما حذا بمحترفي و مستكشفي هذه الطريق إلى إحداث هذا المكان، الذي هو عبارة عن منتجع ضيق بين جبال ، به بئر و ظلال و يتوسطه خان بدائي يضع فيه الزوار و خصوصا أصحاب القوافل رحلهم،و ينتجعون الظلال حوله. فنسجوا حوله مع الأيام هالة من الأساطير و المخاريق، و أحاطوه بالقدسية و الجلال ليوقعوا الهيبة منه في نفوس السذج من العرب الممتنعين في الجبال و المنتشرين على الطرقات.و جعلوا له حراسا و نساكا يأخذون أجورهم .أما إبراهيم أبو الأنبياء و رمز العقوق و الصعلكة فتلك شخصية، تبقى أسطورية من وحي خيال التوراة إلى إشعار آخر..ذلك أن الدراسات العلمية و الأبحاث الأركيولوجية العديدة التي أجريت في بلاد ما بين النهرين و فلسطين أثبتت جميعها عدم تاريخانية إبراهيم، الشخصية الإنجيلية الذي جعله سفر التكوين الجد الأكبر لبني إسرائيل و العرب و أب الموحدين (أنظر: أبراهام ، موسوعة ويكيبيديا ، فرنسية).كما أن زمزم و كعبته ، من جهة أخرى لم يكونا في واد غير ذي زرع كما يدعي القرآن. إنما الوادي كان معشوشبا خصبا ظليلا، و أنه لم يصبح غير ذي زرع إلا بعد ظهور الإسلام. فلدينا من الأخبار ما يفيد أنه " قد كان حول الحرم شجر ذو شوك نبت من قديم و كوّن غوطة، فقطعها عبد مناف بن قصي، و هو أول من بنى دارا بمكة، و لم تبن دار قبلها،بل كان بها مضارب للعرب من الشعر الأسود.(نزهة الجليس، 1/24).و عند غربلته لروايات الإخباريين المتقدمة عن سعة الحرم و زمان بناء الدور بمكة استنتج جواد علي أن باطن مكة، و هو الوادي الذي فيه البيت، كان حرما آمنا، لا بيوت فيه، أو أن بيوته كانت قليلة حصرت بسدنة البيت و ممن كانت له علاقة بخدمته.لذلك نبت فيه الشجر حتى غطى سطح الوادي، من السيول التي كانت تسيل إليه من الجبال.و لم يكن في وسع أحد التطاول على ذلك الشجر، لأنه شجر حرم آمن.و بقي هذا شأنه يغطي الوادي و يكسو وجهه بغوطة حتى جاء قصي.فتجاسر عليه بقطعه..و خاف الناس من فعله ، خشية غضب رب البيت، و نزول الأذى بهم إن قطعوه. فلما وجدوا أن الله لم يغضب عليهم، و أنه لم ينزل بهم سوءا،اقتفوا أثره، فقطعوا الشجر، و استحوذوا على الأرض الحرام(المصنف 4/53).و سيبقى هذا الغطاء النباتي منتشرا بالأرض الحرام حتى مجيء الإسلام و نزول القرآن.إذ " يتبين من خطبة الرسول عام الفتح و يوم دخوله البيت الحرام و قوله : لا يخلى خلا مكة و يعضد شجرها ..أن حرم مكة كان لا يزال ذا شجر. و لم يكن قد قطع تماما منه في أيام الرسول..(نفس المصدر أعلاه)
كان الوادي إذا ،عبارة عن واحة ظليلة كثيفة الشجر الذي في ظلاله ينصب التجار و المنتجعون خيامهم بعد أن يستودعوا خان زمزم أمتعتهم.وتحيط بالوادي جبال و تلال و أودية من كل جانب تُؤوي أطيافا من البشر في غالبيتهم من البدو و الأحابيش و الخلعاء و المطرودين من بلدان منشئهم."هؤلاء يسميهم القرآن بالأراذل و الأذلة و الأرذلين، وفيهم الفقير و اليتيم و المسكين و ابن السبيل و المحتاج، أما كتب السير و الأخبار فتنعتهم بالصعاليك و الخلعاء و الطرداء و الخلطاء و لصوص البادية و ذؤبان العرب و الشياطين و الفتاك و غير ذلك (تاريخ الواقدي ،457 ؛ تاريخ الطبري، 1/1438 ؛ الأغاني8/65 ؛ النهاية لابن الأثير2/52 ـ 63 ؛أسد الغابة في أسماء الصحابة،5/178).فأهل الأخبار كلهم يجمعون على أن سكان الوادي إنما نزحوا إليه من" مختلف أنحاء الجزيرة المسماة عربية و من الهلال الخصيب و من اليمن و بلاد فارس و الروم و من مصر و الحبشة و السودان و من فينيقيا و فلسطين و بلاد الشام،واختلاطهم هذا أدى إلى اختلاط أديانهم و تنوع معتقداتهم و لغاتهم،فكان منهم يهود و نصارى و صابئة مندائيون و زرادشتيون مجوس كما كان في لغاتهم الحميرية و المسند و الثمودية و اللحيانية و الديدانية و النبطية و الحبشية و الرومية و اليونانية و العبرانية و الآرامية و العربية " (تاريخ اليعقوبي 1/254).هؤلاء النازحون إلى أصقاع الصحراء القاصدون لهذا الوادي عاش معظمهم عشائر و أفرادا، فسكنوا على طرق القوافل التجارية بحثا عن لقمة العيش،إما بواسطة عمل ينالون أجره و إما بواسطة النهب و السلب و الغزو.و جلهم عاش حوالي الكعبة و بالقرب منها، أو على الطريق الممتد بين مكة و المدينة و وادي القرى و تيماء مرورا بالبتراء حتى بلاد الشام. هكذا أنشأت هذه الوفود التجمعات الهائلة و انتشرت من حوالي خان زمزم مستفيدة من مكانته الخرافية و موقعه التجاري.
أما عن تاريخ مكة في السير وعند أهل الأخبار،فإن الناس قد عادوا إليها بعد الطوفان، فقامت فيها قبائل عديدة، و كان أول من اشتهر منهم ، بعلم المؤرخين المسلمين، قبائل يمنية أفسدت الأرض و ما عليها،عرف منها قبيلتا : جرهم و قطورا. هاتان جاءتا في الوقت الذي جاء فيه إبراهيم (العاق) و ابنه إسماعيل (اللقيط) من بلاد الكلدانيين.و نكح إسماعيل في جرهم... و لما توفي إسماعيل تولى أمر البيت بنوه ابتداء بنابت أكبرهم ثم مضاض بن عمرو الجرهمي خال أولاد إسماعيل،ثم تنافست جرهم و قطورا في الملك،و تداعوا إلى الحرب ،فانهزمت قطورا؟؟، ثم تداعوا إلى السلم. ثم أن جرهم بغت في مكة فاستحلوا حراما، و ظلموا من دخلها و أكلوا مال الكعبة .في هذه الأثناء جاء العماليق من سيناء هربا من وجه موسى الذي حاربهم و طردهم إلى نواحي مكة.فسكنوا مع جرهم الذين ملكوا و استبدوا.ثم هجرت خزاعة قبيلة أخرى من اليمن و فرع من الأزد عقب خراب سد مأرب، و وقع بين خزاعة من جهة و جرهم و العماليق من جهة ثانية معارك فكان النصر لخزاعة التي وليت البيت ثلاثمائة سنة، يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى آخرهم حليل بن حبشية (معجم البلدان ، 5/ 185 ـ 187) الذي تزوج قصي بن كلاب بنته حبى بنت حليل
هذه هي الأوضاع المزرية المخيفة التي كانت ترقبها القسطنطينية بعين من الريبة و الحذر و التريث.هذه هي الأوضاع المقلقة التي كانت تقض مضجع الروم، و تجعلهم غير آمنين على مستقبلهم السياسي و مستقبل أوطانهم.فطالما أن المنطقة غير آمنة،لا برا و لا بحرا،فإن هذا يشكل خطرا حقيقيا يهدد بيزنطة في الصميم ، خصوصا و أنها تعيش على إيقاع حروب لا تنهي في الغرب حيث ظهرت أقوام منافسة مثل برابرة الجرمان و الوندال و ظهور الفرانك في بلاد الغال بالإضافة إلى المعارك التي لا تنتهي على حدود الساسان.و لا يغيب عن الأذهان ما كانت تشهده بيزنطة داخليا ، مع ظهور اليعقوبية و النسطورية و الفرق الدينية المختلفة و اشتغال البلاد و العباد بالهرطقة ، من تمزق اجتماعي و انقسام في الصفوف.لم تستطع القسطنطينية فتح جبهة أخرى للحرب ، و كانت رغبتها ملحة في السيطرة على أوضاع خان زمزم و تأطير هذه الحركة الناشئة الخطيرة و المنفلتة عن أي سيطرة و الخارجة عن كل الأعراف و القواعد..في هذا الإطار كلفت القسطنطينية عملاءها من الغساسنة بالتدخل الحاسم الذي من شأنه التحكم في الأوضاع داخل الصحراء و استتباب الأمن ، و ضمان حسن سير الطرق و الإمدادات التجارية على الأمد البعيد، و يمكّن،بالتالي ، من التقرير في مصير المنطقة و السيطرة عليه.و كانت دولة الغساسنة في هذه الأثناء دولة قوية الشوكة شبه مستقلة،و كانت تبسط نفوذها على المنطقة الممتدة من صحراء سوريا شمالا، إلى حدود يثرب جنوبا. و كانت تتخذ مدينة جباليا بالجولان عاصمة .. كما كانت غسان تتربع على عرش تجارة الشرق الأوسط، و يشهد على ذلك ما خلفته غسان من عمران و آثار و وثائق تشهد لها على مكانتها التجارية، عكس مكة و أهلها الذين لا نتوفر على أي دليل مادي يدل على أنهم كانوا يحتكرون التجارة العالمية قرنين من الزمن اللهم ما نستقيه من أخبارهم و سيرهم.
و لعلمهم بالمنطقة و وعورتها، و خان زمزم و قدسيته لدى السذج، و بالبدو و همجيتهم ، فقد آثرت غسان عدم التدخل المباشر و المغامرة بالمال و الرجال،فانتدبت للمأمورية سرية على رأسها مرتزق من ضواحي تبوك يعرف بانتمائه من جهة أمه إلى إحدى قبائل البدو في الحجاز، يلقبونه هناك  بالقرشي و اسمه زيد بن كلاب الذي يدعوه أهل الأخبار قصيا.فقد سأل عبد الملك بن مروان محمدا بن جبير ، متى سميت قريش قريشا ؟قال:حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها، فذلك التجمع التقرش.فقال عبد الملك بن مروان: ما سمعت هذا ، و لكن سمعت أن قصيا كان يقال له القرشي.و لم تسم قريش قبله.(الطبري 2/264 و ما بعدها ؛ المفصل 4/25).لم تكن بعثة فصي اعتباطية و لا ارتجالية، إنما جاءت نتيجة دراسة متأنية للوضع و تهيئ ما يليق به من خطة بليغة، ثم اختيار الشخص المناسب و الوفت المناسب.و كانت الخطوة الأولى أحسم خطوة لما نسبوا قصي إلى كعب بن لؤي.فقالوا هو قصي أو زيد بن كلاب بن مرة ين كعب بن لؤي(ابن الأثير،الكامل 2/8 ، ابن سعد1/68)، و قالوا هو قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان(الطبري،2/661 ، تاريخ الإسلام للذهبي 1/18،أبو الفدا،المختصر1/112).و كعب بن لؤي هو أهم شخصية في هذه السلسلة لدى مبرمجي الخطة لما سمعوا من محاولاته المبكرة توحيد أشتات الذين يسمون قريش المفسدين في البلاد و تأطيرهم و السيطرة عليهم.يذكر أهل الأخبار أن مكة لم تكن ذات منازل، و كانت قريش بعد جرهم و العمالقة ينتجعون جبالها و أوديتها و لا يخرجون من حرمها انتسابا إلى الكعبة لاستيلائهم عليها و تخصصا بالحرم لحلولهم فيه،و لمّا كان كعب بن لؤي بن غالب جمع قريشا و صار يخطب فيها كل جمعة، وكان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية "عروبة" فسماه كعب الجمعة.و بذلك ألف بين قريش حتى جاء قصي ففعل ما فعل (الأحكام السلطانية 162 ) ..فجرهم و العمالقة، إذا، و بنو خزاعة و كنانة بعدهم، و جميع من تجمّع حول مكة لم يكونوا يسكنون البطاح المعشوشبة جوار البيت..إنما كانوا ينتجعون الجبال المجاورة و الأطم، و ينتشرون على جنبات الطرقات و السبل المؤدية إلى مكة، قصد تسوّل القروش.فكانوا كلما مرت بهم قافلة أو أفراد أو جماعات، ينادون عليهم : من فضلك يا قاصدا البيت قرشا..هاي ، قرشا من فضلك.. و كانوا يحبون القروش حبّا جما، و يجمعون المال لمّا لمّا..فتراهم يلحفون في الطلب، و طالما تبعوا الزوار لمسافات طوال، و هم ينادون : قرشا من فضلك!.. قرشا من فضلك!...حتى أضحوا يصرونه استقلالا من قيمته    فيقولون: أي!!! ولو قريشا،حفظتك اللات!!...قريشا من فضلك!!...فمنذ أن يدخل المسافر أرض الحجاز،سواء من شمالها أو من جنوبها،لا تكف أذناه عن سماع قريش من فضلك قريش من فضلك.فما كان من التجار و محترفي هذه الطريق يوميا إلا أن أطلقوا على هؤلاء القوم لقب محبي القريش ،على وزن محبي الحكمة؛ أو أحباب القريش. ثم رخموها مع مرور الوقت حتى أبقوا على قريش. و كان يعرف عن هؤلاء الناس حبهم الشره للمال،و أنهم يجمعونه و لا يصرفونه في أي شيء.فقد ورد في مذكرات سترابون الجغرافي التي يصف فيها رحلة إيلوس جالوس في عهد الإمبراطور سيزار أوغست أن هذا الأخير قال لجالوس:أريد منك أن تستخبر لي أمور هؤلاء العرب الذين سمعت عن غناهم المفرط و الذين يستبدلون عطورهم و أحجارهم الكريمة بكل ذهب و فضة الأمم الأخرى ، دون أن يصرفوا منها على أنفسهم شيئا...( سترابون الجغرافي ،أول رحلة اسكشافية ، معطيات جغرافية، العربية بدون نبي ـ موقع إسلام  وثائق ، فرنسي) .فهم كانوا إنما يعيشون على الصدقات و يلبسون من الصدقات و إذا جاد عليهم أحد بقريش أضافوه إلى ما معهم من القريشات و احتفظوا به...حتى أصبحوا يربون قريشاتهم و يقرضونها لأولئك الذين كانوا بها عليهم يتصدقون، أو يضاربونهم في تجاراتهم و يساهمون في قوافل شركة مكة التي سوف ينشئها قصي ، كما سنأتي على ذكره في مكانه..فلقد قيل سميت قريش من القرش و هو الكسب و التجارة، و حكاه ابن هشام رحمه الله. وقال الجوهري: القرش الكسب و قيل قرش قرش.. (ابن كثير ، البداية و النهاية 2/187)وقال ابن سيده"قرش قِرشا أي جمع و ضمّ من هنا و هنا(عن لسان العرب 6/334،مادة"قريش") ،أما البيهقي فيقول في هذه المسألة ،  قال معاوية لابن عباس: فلم سميت قريش قريشا". قال لدابة تكون في البحر، أعظم دوابه، يقال لها القرش.لا تمر بشيء من الغث و السمين إلا أكلته.و أنشده شعر الجمحي إذ يقول:
و قريش التي تسكن البحر     بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث و السمين و لا      تترك لدي الجناحين ريشا
هكذا هي في البلاد قريش      يأكلون البلاد أكلا كميشا
و لهم آخر الزمان نبي       يكثر القتل فيهم و الخموشا
(ابن كثير ، البداية و النهاية 2/187)
إذا فكلمة قريش لم تكن اسما علما لمجموعة اثنية معينة أو لقبيلة أو عشيرة ،بل كانت صفة يلقب بها الجياع الصياع المتربصون بالمارة على طرقات الحجاز لتسول القريشات.و فيه قول ابن الكلبي :إنما قريش جمّاع  النسب ، ليس بأب و لا بأم و لا حاضن و لا حاضنة (ابن سعد 1/66 ـ69، نهاية الأرب 16/20). و كان  قصي كما سبق ذكره يلقب في صغره عند أخواله بالقرشي.  يقرن أهل الأخبار بين قصي و اسم قريش حبث يقولون أنه هو من جمع أشتات القبائل و العشائر و العصابات التي آوى إليها و سماها قريشا.فإذا صح هذا الخبر فإنه ليس يعني أن الكلمة لم تكن موجودة من قبل، و إنما يعني أن قصيا هو أول من أعطاها صبغة الرسمية و الشرعية فأصبحت اسما علما عوض صفة كاريكاتورية لبدو خان زمزم.أما التسمية فيظهر أنها غسانية ، أطلقها أهل الشام على سكنة الحجاز استهزاء منهم و استخفافا بهم.و أهل غسان جيران يثرب من الشمال، فهم أعلم الناس بأحوال جيرانهم، لدى كانوا يلقبونهم بأحب شيء إلى قلوبهم و هو القرش.
كما أن قريشا كما فصل فيه ابن الكلبي ( و لذلك ينقمون عليه) ليسوا قبيلة و لا عشيرة و لا عائلة و لا أسرة ،بل هم فروع أنساب عديدة و صعاليك  و أشتات قبائل و خلعاء مجرمون كما سبق ذكره ، كانوا مشتتين حول خان زمزم (مكة المكرمة)، يتربصون بالمارة ، ينهبون و يسرقون و أكثرهم  يتسولون ، و منهم مرتزقة عديدون يحاربون مقابل الأجر و تسميهم السير و الأخبار بذؤبان العرب و الشداد. يعرفون باللصوصية والبخل و الشح و حب القرش و تكديس الذهب و الفضة.فالخطة اقتضت أن ينتسب قصي إلى بيت أو كهف من كهوف هؤلاء المرتزقة لتأطيرهم و التأثير المباشر فيهم و تكوين قوة ضاربة بهم .فكان كعب بن لؤي أنسب نسب ، و كان زهرة أنسب كهف ،استقبلوه مستبشرين، و استلحقوه بنسبهم.و كانت العرب تأخذ بمبدأ الاستلحاق في أنسابهم.فلما جمع قصي قريشا و كان أدهى من رئي من العرب قال لهم: هل لكم أن تصبحوا بأجمعكم في الحرم حول البيت؟؟؟فوالله لا يستحل العرب قتالكم و لا يستطيعون إخراجكم منه.و تسكنونه فتسودوا العرب أبدا.فقالوا:أنت سيدنا و رأينا تبع لرأيك ، فجمعهم ، ثم أصبح في الحرم حول الكعبة (قريش من القبيلة إلى الدولة،38) هكذا بايع صعالكة الجبال قصيا البيعة الأولى ،فتمكن قصي من وضع أول رجل له في مكة ، و هو آنذاك ابن العشرين حجة و نيف.فقد ورد في معجم البلدان أن قصيا أول من أصاب الملك من ولد إسماعيل، و ذلك أيام المنذر بن النعمان على الحيرة و الملك بهرام جور في الفرس (5/178)و بهرام جور هو بهرام الخامس الذي تولى الحكم إثر حرب أهلية دامت طوال سنة 420،تولى الحكم في آخرها بعدما قتل جميع أفراد عائلته.في هذه السنة انتقل قصي بسَريته السّرّيّة إلى مكة. و قد ولد قصي سنة 400 و عاش ثمانين سنة ، و عبد مناف ثالث أبنائه ولد سنة 430م(موسوعة ويكيبيديا ـ قصي بن كلاب ـ فرنسية).هكذا أصبح قصي بصعاليكه ينزلون على مكة فيثيرون فيها الفوضى و يحدثون القلاقل و المشاكل ، و يستهزئون بأهلها شيبا و شبابا و ينكلون بأسيادها. فأصبحت أخباره تتناقلها جميع الألسن.ذاك الشاب الأزعر فارع الطول ،عريض المنكبين.قال علي بن برهان الدين الحلبي في وصفه "رجلا جليدا حازما بارعا" ،ذاك النبيل الأبيض البشرة القادم من عالم ما وراء الشمس ، تيّم بمشاكساته و صبيانياته و جماله و صعلكته قلوب نساء قريش و بناتها. فاستمال إليه سيدتهن حبى بنت حليل سيد خزاعة، فتودّد إلى أبيها الذي عرف نسبه(صعلكته) ما أفضى به إلى الإذعان إلى مصاهرته.و به تمّ لقصي وضع ثاني أقدامه في مكة. و يروي الإمام محمد يوسف الصالحي الشامي في موسوعته سبل الهدى و الرشاد في سيرة خير العباد ،فيما يرويه عن مسألة مال قصي فيقول رحمه الله"و كان أول مال أصابه (قصي) مال رجل قدم مكة بأدم (جلود) كثير ، فباعه و حضرته الوفاة و لا وارث له فوهبه لقصي و دفعه له...1/321 ـ 325).
هذه هي الصدف و إلا فلا!!!و هذا هو تاريخ العرب الجميل.فالتاريخ عند العرب عاقل مبدع فنان ،يحدد أهدافه و يخلق شخصياته ثم  يحدث الظروف الملائمة فيقول لها كن فتكون. أما الشخصيات في التاريخ العربي فهي كراكيز جامدة يسيرها التاريخ بواسطة خيوط الصدف و الأقدار.فبالصدفة تربى قصي بالشام وعاد منها صدفة.و بالصدفة العربية وجد قصي نفسه ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي و بالصدفة العربية و العناية الإلهية سيجد قصي نفسه تزوج بنت سيد خزاعة ثم أجلا أهلها عن مكة و نفاهم منها، و بالصدفة التي لا صدفة بعدها و لا قبلها سيجد قصي نفسه أول ملوك الحجاز...و نحن استهللنا هذا القول بأن التاريخ لا يقوم بالصدف. و أنه لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا ،و لا ينال العلا من قدم الحذرا(المتنبي). و أن قصيا لم يجد الملك على طبق من ذهب..إنما لكل شيء ثمنه و لكل حادث علته  و لكل سبب مسببه ، ما سنقف عليه سببا  سببا و علة علة بغية الوقوف على أحقية قصي بلقب الصعلوك الأكبر.
أبو نبي الصعاليك

هناك تعليقان (2):

عشتار يقول...

لم يكونا في واد غير ذي زرع
كما يدعي القرأن ؟؟؟
أنما الوادي كان معشوشبا خصبا ظليلا وانه لم يصبح غير ذي زرع إلا بعد الاسلام .
ابو قثم العزيز
كل ما أقرأ عن فضحك لهذا الدين الصعلوكي صدقني لو كنت اقرأ لمدة شهر ما كنت حصلت على كل هذه المعلومات القيمة
تحياتي ايها المبدع وانتظر جديدك محبة

abou9othoum يقول...

العفو ست عشتار المحترمة
أبو قثم