الخميس، 17 يونيو 2010

مملكة الصعاليك ـ الصعلوك الأكبر ـ الجزء الثاني



بعد انتسابه إلى آل كعب بن لؤي و سطوته على مال الأعرابي تاجر الأدم و زواجه من حبى بنت حليل ،استطاع قصي غرز كل أقدامه في رمال مكة و مدّ جذوره فيها...هنا تدخل ابن هشام راويا"أنه لما استقر أمره و كثر ماله ، هلك حليل بن حبشية، فرأى قصي أنه أولى بالكعبة ، و بأمر مكة من خزاعة، فكلّم قريش و بني كنانة ، و دعاهم إلى إخراج خزاعة من مكة . و بخدعة استطاع أن يشتري من أبي غبشان الخزاعي..و كان شيخا خرفا..مفاتيح الكعبة مقابل زقّ من الخمر و قعود، في ليلة سامرة . قال الحافظ ابن كثير"فاشترى قصي ولاية البيت منه بزقّ من الخمر و قعود ، فكان يقال أخسر من صفقة ابن غبشان"..و يزيد ابن هشام بقوله:"فكان قصي بن لؤي أول من أصاب ملكا من فريش و أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة و السقاية و الرفادة و الندوة فحاز شرف مكة كلها"(ابن هشام1/109، ابن كثير، البداية و النهاية 2/194). و يؤكد الأزرقي أنه"أول من أصاب ملكا من بني كنانة و أطاع به قومه ، فكانت إليه الحجابة و الرفادة و السقاية و الندوة و اللواء و القيادة"(1/108)، "فكان بهذا أول من أعزّ قريشا و ظهر به فخرها،و مجدها و سناها و تقرّشها. فجمعها و أسكنها مكة و كانت قبائل متفرقة الديار ، قليلة العزّ، ذليلة البقاع حتى جمع الله ألفتها و أكرم دارها و أعزّ مثواها"(اليعقوبي 1/240)"ثم كان أمره في قومه كالدين المتّبع في حياته و بعد مماته" فنظم بطون قريش ، و دبّر لهم منازل في مكة و ضواحيها ، فأسكن بغضهم في ظواهر مكة فسموا قريش الظواهر، و كانوا في الغالب فقراء معدمين.و أسكن بعضهم الأخر في بطاح مكة و سموا قريش البطاح، و كانوا أغنياء ميسورين. عُرف القسم الأول بتبديه و فقره و غزواته.و عُرف القسم الثاني باستقراره و غناه  و اهتمامه البالغ بالتجارة"(الحلبية 1/13، الشريف ، مكة و المدينة122) و القسمان يضمان اثنتي عشرة قبيلة لم تنصهر بعضها ببعض تمام الانصهار ، و لم تؤلف جماعة واحدة ذات مصير واحد مشترك،بل بقيت تجمعا(الأستاذ لامنس ، مكة، 148)و في موطن آخر من حلبيتة يضيف ابن سعد" و كان قصي أول من بنى المساكن في مكة و نقض الخيام و حوّلها إلى بيوت ذات أعمدة و ذات أبواب.و هو الذي أمر قريشا أن يبنوا بيوتهم داخل الحرم و حول البيت ، و قال لهم إن فعلتم ذلك هابتكم العرب(أي البدو) و لم تستحل قتالكم" (الحلبية1/19). فثبّت الحكم في عقبه و نظّم شؤون المدينة و قسّم الوظائف على أولاده ، و أوجد لمكة مكانة تجارية واسعة ، و خلق لها نوعا من الإدارة .فاجتمعت إليه الرفادة و هي إطعام الحج و الزائر و تأمين إقامته، فكان أول من فرض قرى الحجاج و زوار البيت تأليفا للقلوب و إشهارا لمكة الجديدة و تلميعا لصورة قريش أمام القبائل الذين يكرهونهم و يتبرمون من خلاعتهم و عنجهيتهم  و تحلّلهم من جميع الأعراف و القوانين.فكانت تلك أول خطوة تعتمدها قريش للتقرب من الأعراب و غيرهم، بعد سيطرتهم غير الشرعية على مقاليد الحكم في خان زمزم.و تكون الرفادة خراجا تخرجه قريش كل موسم من أموالها إلى قصي ليصنع به طعاما للحاج يأكله الفقراء(المصنف 4/59)و يوضح  جواد علي أمر الرفادة فبقول" و قد كان قصي قال لقومه:إنكم جيران الله و أهل بيته، و إن الحاج ضيف الله و زوار بيته، و هم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم شرابا و طعاما أيام الحج حتى بصدروا عنكم" (رواه الطبري2/259،و ابن الأثير 2/10، و  ورد في اللسان2/1814 ، و تاج العروس2/355 و عند الأزرقي1/61 ـ المصنف 4/59)
كما اجتمعت إليه الحجابة و هي الوصاية على مفاتيح البيت و الإشراف على خزائنه و تسيير سدنته و حرّاسه.قالت باتريشيا كراون"لكن مكةهي المدينة التي يقيم فيها الناس بصفة دائمة و التي يوجد فيها البيت الحرام المزود بالحرّاس."(تجارة قريش 174).فالخان إذا ، كان يؤمّن فيه على التجارات و الأموال التي توضع داخله و التي غالبا ما تكون عطورا و ذهبا و فضة و أحجارا كريمة. فالتجارة إنما تتطلب الوثائق كالعقود و الفواتير و المكاتبات و السجلات  و تتطلب الاتفاقيات و المعاهدات و السفارات لدى البلدان، كما أن التجارة تُحدث العمران و التشييد و البناء فتؤثر على المظاهر الاجتماعية و الثقافية.كل هذه الشواهد تنعدم بالنسبة للتجارة المكية ،حتى لا تكاد تجد أي أثر ملموس يدل عليها ، ما يدفع إلى التساؤل الجدي حول ماهية و حقيقة هذه التجارة المهولة التي تشير إليها المصادر العربية و نوعيتها. و تكفي الإشارة هنا  إلى أن الملاحة البحرية الرومانية قد بدأت خلال هذا القرن في الازدهار و أن السفن البيزنطية أصبحت تنتشر في كل المحيطات و البحار بما فيها البحر الأحمر، فتقول باتريشيا في هذا المضمار"إن القمح كان يشحن بالسفن و ينقل من الإسكندرية لروما عبر مسافة تبلغ 1250 ميلا في عصر ديقلديانوس بسعر أقل من سعر نقله برا لمسافة تبلغ خمسين ميلا.و تبلغ المسافة بين نجران و غزة 1250 ميلا دون العروج على مكة"، ثم تضيف باتريشيا قائلة،"لنا أن نتساءل عن أنواع البضائع التي قام أهل مكة بالتجارة فيها؟؟لا بد أنها كانت نادرة جدا تثير الطمع فيها، و بطبيعة الحال خفيفة الحمل و غالية الثمن"(19 قائمة جيروم فرانكان عن المسافات التي تقطعها الرحلة بالأميال والأيام ـ تجارة قريش ،19).على كل و مهما تكن حقيقة هذه التجارة و نوعيتها ، فإن الحجابة تعني السهر على حراسة هذه التجارة و تأمين طرقها و تيسير سبلها و إضفاء الشرعية القانونية عليها. و لهذا الغرض فرض قصي الضرائب و العشور على القوافل المارة بمكة مقابل تأمينهم و تأمين تجاراتهم و توفير السقاية و الرفادة لهم .حدثنا المسعودي عنه ، قال:و استقام أمر قصي و عشّر على من دخل مكة من غير قريش و بنى الكعبة و رتّب قريشا على منازلها في النسب بمكة (مروج الذهب و معادن الجوهر 2/58).ثمّ بدأ في عقد الإيلافات و التي هي عبارة عن معاهدات مع شيوخ القبائل تعمل بموجبها قبائلهم على تأمين قوافل قريش و ضمان حرية تنقلهم مقابل نصيب تأخذه القبائل من أرباح التجارة،إلى جانب العطايا و الهدايا و الرشوات .كما تسمح لأفراد القبائل بالمساهمة في التجارة التي تحملها قوافل قريش سواء بالسلع أ و في رؤوس الأموال و استخلاص أرباحهم كل حسب مساهمته .و به يكون قصي قد أسس نواة أول شركة تجارية مساهمة يسهم فيها كل سكان قريش و القبائل المنضوية تحت  لواء الإيلاف ، بالقليل و الكثير فتأتيهم أرباحهم حسب أسهمهم ، و سميت هذه العملية التجارية بالمضاربة."فصارت قريش بأجمعها بعده تجارا خلطاء ، و قد أخذت عنه مآثر التجارة حتى أصبحت مكة في أيام حكمهم(قريش) ملتقى القوافل من جميع أنحاء العالم المعروف لديهم.و سافر أبناء قصي و أحفاده(في حياته) و تاجروا مع البلدان المجاورة و أخذوا منها العهود.فأخذ هاشم بن عبد مناف بن قصي عهدا من ملوك الروم و الغساسنة و أخذ شمس بن عبد مناف عهدا من نجاشي الحبشة و أخذ عبد المطلب بن هاشم عهدا من ملوك حمير و اليمن، و أخذ نوفل بن عبد مناف بن قصي عهدا من أكاسرة الفرس( أبو موسى الحريري، نبي الرحمة74).وفي معرض حديثهما عن الإيلاف يقول القالي في ذيل الأمالي و النوادر(199) و الثعالبي في ثمار القلوب(1/8 و ما بعدها):قال (هاشم) له (قيصر الروم): أيها الملك:إن قومي تجار العرب، فإن رأيتَ أن تكتبَ لي كتابا يؤمن تجارتهم فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز و ثيابه، فتباع عندكم، فهو أرخص عليكم.فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم.فأقبل هشام بذلك الكتاب، فجعل كلما مرّ بحي من العرب بطريقه إلى مكة،عقد معهم عقدا على أن تقدم قريش إليهم ما يرضيهم من بضائع و هدايا تؤلف بينهم و بين قريش ، فكان الإيلاف"انتهى.و يضيف الثعالبي قائلا". وكان  يأخذ الإيلاف (و يعني به العهد هنا) من رؤساء القبائل و سادات العشائر لخصلتين: إحداهما أن ذؤبان العرب وصعاليك الأعراب وأصحاب الغارات وطلاب الطوائل كانوا لا يؤمّنون على أهل الحرم ولا غيرهم، والخصلة الأخرى أن أناساً من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدراً، كبني طيء و خثعم و قضاعة، وسائر العرب يحجون البيت و يدينون بالحرمة له .ومعنى الإيلاف إنما هو شيء كان يجعله هاشم لرؤساء القبائل من الربح، ويحمل لهم متاعاً مع متاعه، ويسوق إليهم إبلاً مع إبله ليكفيهم مؤنة الأسفار، ويكفي قريشاً مؤنة الأعداء، فكان ذلك صلاحاً للفريقين، إذ كان المقيم رابحاً، والمسافر محفوظاً، فأخصبت قريش،(ثمار القلوب 115 و ما بعدها). وعليه فالإيلاف إذا عقد أمان تبرمه قريش مع زعماء القبائل تؤلفهم بمقتضاه بالمال و الأرباح مقابل عدم التعرض لقوافلهم و العمل على تأمينها على أراضيهم...
.إلا أن الجاحظ يفسر الإيلاف على أنه جعلٌ فرضه هاشم على القبائل لحماية مكة من الصعاليك ومن المتطاولين، إذْ قال: "وقد فسَّره قوم بغير ذلك. قالوا: إن هاشما جعل على رؤوس القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أصل مكة. فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب الطوائل، كانوا لا يؤمنَون على الحرم، لاسيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدراً. مثل طيء و خثعم و قضاعة وبعض بلحارث بن كعب"(رسائل الجاحظ،70، السندوبي)
وإذا صحت هذه الرواية فإنها تعني بالواضح أن وظيفة قريش كانت تنحصر في التحكم في صعاليك الأحياء و ذؤبان العرب و أصحاب الطوائل، و أن قريشا هم الذين كانوا يسلطون الذؤبان و الصعاليك و الخلعاء على القبائل و على تجارات تلك القبائل .و أنهم الوحيدون الذين يستطيعون كف أيديهم عنهم ، مقابل خراج تدفعه تلك القبائل لقريش  لتصرفه في تأليف  أولئك الصعاليك و المحرومين و أبناء السبيل و إجارتهم و تقديم كل التسهيلات لهم، و من تم تجييشهم لصالح تأمين التجارات التي تمر بطرق الحجاز.و تفسير الجاحظ هذا أكثر منطقية و ملائمة للأوضاع التي أمامنا. فقصي إنما تحكّم في الصعاليك الذين كانوا يقطعون الطرق التجارية و لم يخلق لقريش تجارة خاصة بها.بل كان الصعاليك هم العملة التي بدأ قريش يسوقون لها، و تأمين الطرق هي الوظيفة التي أناطها قصي بهم. فأصبحت قريش بهذه السياسة تهيمن على طرق الحجاز بأسرها من خلال أولئك الصعاليك، و تفرض على السلع المارة منها و القبائل المجاورة لها الخراج و العشور مقابل تأمين الأرواح و المتاع.و هذا هو الدور المطلوب القيام به من قصي...كما يساهم هذا التفسير الموضوعي من جهة أخرى في إزاحة بعض شكوك باتريشيا كراون الشرعية حول تجارة قريش وأنواعها و حجومها. فقريش و مكة فعلا،لا يتوفران على شواهد إثبات تثبت أنهما كانا يسيطران على التجارة العالمية ذات يوم. كما أن القالي و الثعالبي يقولان على لسان هاشم أن تجارة قريش مع الروم كانت تقتصر على المتاجرة في الأدم و هي الجلود الخالصة الغير مدبوغة و ثياب الحجاز ، و هاتان البضاعتان لا تصلحان لتشكيل تجارة من الحجم الذي تتحدث عنه المصادر.لكن إذا قبلنا بتفسير الجاحظ مع الأخذ بعين الاعتبار تحفظات باتريشيا جاز لنا أن نقول بأن تجارة قريش  كانت هي تجييش المرتزقة و المحرومين و الصعاليك. و العمل على تسخيرهم في تأمين تجارة حلفاء قريش و كل من يؤدي حق قريش .و بيع خدماتهم لكل من يؤدي عليها.و تلك لعمري كانت هي تجارة قريش الحقيقية. أما ما عدا ذلك  فكل تجارة أمنتها قريش و أخذت خراجها تنسبها إليها و تسميها تجارة قريش فتصير لتلك التجارة صفة القانونية و الشرعية على طول الطرق التي تؤمّنها قريش.
.وهذا النوع من التجارة الذي نفترض أن قريشا كانت تمارسه لا يتطلب مع كل الأسف الوثائق التقليدية التي يبحث عنها المؤرخون، و لا الشواهد و لا العهود و لا الاتفاقيات .كما أنه ليس تجارة خلق و إبداع و تبادل و تلاقح و انفتاح من شأنها أن تغني الذوق في مكة و ترتقي بالإنسان فيها إلى مصاف التحضّر و الرقي، إنما هي كانت تجارة سطو و نهب و تخريب وهدم ،تجارة يمكن تصنيفها من قبيل ما لا تبقي و لا تذر،لهذا لا تملك مكة اليوم دلائل ملموسة على أنها كانت تتربع على عرش التجارة لقرنين من الزمن.
كما أن لقريش أنشطة تجارية أخرى و من نوع آخر.فلقد كانت تقرض الأموال بالربا و تجري المرابحات ، و كانت تجمع أموالها و أموال التجار و الحجاج في الكعبة و تضع عليها الكتبة و الحراس، حتى الأصنام إنما استُجلبوا ليُساهموا في تأمين خان زمزم، حيث تُجمع الأموال و تخزن الفضة و الذهب.و مما يزيد من تأكيد هذا الطرح ما أتى على لسان الجاحظ في قوله وهو يفسر الإيلاف على أنه جعلٌ فرضه هاشم على القبائل لحماية مكة،فيقول: إن هاشما جعل على رؤوس القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أصل مكة.فما علاقة رؤساء القبائل بمكة حتى يؤدوا الخراج لتُحمى به مكة و أصولها.الجواب التقليدي يقول بأن السبب هو تواجد أصنام تلك القبائل بالكعبة و قداسة مكة و ما إلى ذلك من التفاسير المستهلكة.و لكن إذا افترضنا أن أموال تلك القبائل كانت هي الأخرى تخزن في الكعبة، ستصبح مسألة حماية القبائل لمكة و الكعبة مسألة منطقية و مقبولة عقليا.فالقبائل كما نعرفها تترحل يوميا إما للرعي أو للغزو.و في كلتي الحالتين يجب على رجالها التخلص مما يزيد على حاجتهم من المال و المتاع و العتاد.و لمّا كان السبي بينهم كثيرا و النهب، فإنهم يلجأون إلى خزن أموالهم في الأماكن الآمنة البعيدة عن العيون.و الكعبة حرم آمن بالقوة و الأعراف و الأصنام و هالة القداسة المحيطة به.فليس هناك مكان على الأرض أأمن منه و أكثر منه مناعة و حرمة لذلك أراهم كان يحتفظون بذهبهم و فضتهم بالكعبة مقابل أجر يؤدونه  لقريش،وقد يضاربون بها قريشا في تجاراتهم.و عليه فإن مناعة و قداسة الكعبة قد استمدتها من هذه الوظيفة الخطيرة التي كانت تقوم بها وظيفة خزن الأموال و ترويجها..
 ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن هاشما بن عبد مناف، هذا الذي تكثر من ذكره السير و الأخبار في شأن الإيلاف، لم يعش بعد موت جده قصي بن كلاب إلا 19 عاما، و أنه قد توفى سنة 497 و هذا يعني أن هاشما قد عايش جده ردحا من الزمان ما يؤكد أن الإيلافات التي عقدها كانت بأمر من قصي وفي حياته. و أن هاشما إنما كان سفيرا لجده.و هذا ما سنقف عليه في مكانه.
إلى هنا و لا زالت السير و الأخبار تتستر على علاقة قصي بأهل غسان.فتصور لنا الأمر كما لو أنه كانت هناك قطيعة بينه و بين غسان في الشمال.و لكن الواقع يقول أن الاتصال بين قصي و الغساسنة لم ينقطع طوال هذه المدة.بل لقد كانت التقارير تُرفع يوميا إلى غسان و المراسلات تتم أولا بأول:فكان الغساسنة يتتبعون ما يجري يوميا بمكة و يعدّون له العدد و يهيئون الإمدادات.فلولا تموين الغساسنة و تمويلهم ما كان لمشاريع قصي أن ترى النور أو تتحقق.
ففي إطار تعزيز سلطته السياسة الفتية و تثبيتها التفتّ قصي إلى البيت الذي اشترى مفاتيحه بزق خمر،ابتغاء السيطرة على الوظيفة الدينية التي كانت بيد بني صوفة.فكان اعتناؤة البليغ بشعيرة الحج و هيمنته عليها يدخل في باب استغلال الدين في تدعيم و نشر التماسك بين قبائل العرب، باعتبار أن الحج هو الشعيرة الوحيد التي تُجمع عليها جميع قبائل العرب و تتوحد فيها دياناتهم، بخلاف الأصنام التي ترمز إلى التعددية و استقلالية القبائل و تحررها..كما كان اعتناؤه بشعيرة الحج يدخل ،من جهة أخرى، في باب توظيف الجانب الديني الروحي و السحري في فرض سلطته الفردية و تكريسها. و لأجل بلوغ هذا المرام النبيل قام قصي بن كلاب بأول انقلاب عسكري في تاريخ العرب.جمع له أولا صعاليكه من الشعاب و الأودية و الجبال و اعترض بهم بني صوفة و غلبهم على ما بأيديهم من أمور الحج.يقول جواد علي"وترجع بعض الروايات نزاع خزاعة مع قصي إلى عامل آخر غير ولاية البيت، فتذكر إن خزاعة كانت قد سلمت لقصي بحقه في ولاية البيت، وأنها زعمت أن "حليلاً" أوصى بذلك قصياً، وبقيت على ولائها له، إلى إن اختلف "قصي" مع "صوفة". وكانت "صوفة" وهي من "جرهم" تتولى أمر الإجازة بالناس من عَرَفَة. فتجيزهم إذا نفروا من "منى" تولت ذلك من عهد جرهم وخزاعة. فلما كان قصي، أتاهم مع قومه من قريش وكنانة و قضاعة عند العقبة، فقالوا: نحن أولى بهذا منكم، فناكروه، فناكرهم، فقاتلوه، فاقتتل الناس قتالاً شديداً، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك، وحال بينهم وبينه، فانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي بن كلاب، وعرفوا انه سيمنعهم كما منع صوفة، فوقع من ثم ما وقع على نحو ما مرّ"(المصنف 4/43)
والذي وقع حقيقة هو أن قصيا أبرق إلى عملائه الغساسنة و أعلمهم أن اللحظة الحرجة في الخطة قد حانت، وأن الدقيقة الصفر قد وصلت، فاستنفروا كتيبة من المرتزقة المدججين بالعدة و العتاد و المدربين أحسن التدريب تحت قيادة المدعو رزاح بن ربيعة أخي قصي، و بعثوا بها على الفور.أما بنو خزاعة و بنو بكر لما استفاقوا من خداع قصي لهم ، و ذلك على هول ما أصاب بني صوفة،انحازوا عن قصي و حاولوا لمّ صفوفهم و استنفار أنصارهم، و لكن يعد أن فات الأوان.فلقد كانوا في ثقتهم العمياء بقصي أغفل من ابن غبشان.فما أن صحوا من غفلتهم حتى وصل الدعم و المدد و العدة و الرجال لقصي ،فخاضوا حربا غير متكافئة لم يكونوا في مستواها و ما كانوا لها مستعدين.فكانت الهزيمة النكراء حليفهم و التنكيل و التهجير مصيرهم
.يقول الإمام محمد بن يوسف الصالحي على لسان الرشاطي في موسوعته :فبادر قصي و استصرخ أخاه رزاح بن ربيعة فحضر هو و إخوته ...فخرجت خزاعة و بنو بكر فالتقوا و اقتتلوا اقتتالا شديدا.ثم إنهم تداعوا إلى الصلح و أن يحكّموا رجلا من العرب ، فحكّموا يعمر بن عوف بن كعب، المعروف بالشداخ.فقضى بينهم بأن قصيا أولى بالكعبة و أمر مكة من خزاعة.و أن كل دم أصابته قريش من خزاعة موضوع يشدخ تحت قدميه. و أن ما أصابته خزاعة و بنو بكر من قريش و كنانة ففيه الدّية.فودّوا خمسمائة و عشرين دية و ثلاثين جريحا و أن تخلي بين قصي  و بين البيت (سبل الهدى و الرشاد 1/325ـ332 ، قريش بين القبيلة و الدولة32ـ40).
هكذا فرض قصي نفسه ملكا على مكة و رئيسا و زعيما ،فاقتطعها أرباعا على أنصاره" يذكر الإخباريون أن" قصياً بعد أن تمت له الغلبة، جمع قومه من الشعاب والأودية والجبال إلى مكة، فسُميّ لذلكُ مجمّعاً، وانه حكم منذ ذلك الحين فيهم، وملك عليهم. فكان قصي أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكاً، وأطاعه قومه به، وأنه قسم مكة أرباعاً بين قومه، فبنوا المساكن، وأن قريشاً هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده، وأعانوه..."( الطبري2/257وما بعدها، ابن الأثير ، الكامل2/13 و ما بعدها، ابن هشام ، السيرة 2/124 و ما بعدها ـ المصنف 4/45)..ثم أمر بالكعبة فهدمها و جدّد بناءها بما يناسب أهداف الحكم الجديد و التوسع التجاري المرتقب،فتتفق جميع الموارد الإسلامية من سير و أخبار على" أن قصيا هو أول من بنى الكعبة بعد بناء تبع لها، و كان سمكها قصيرا فنقضه و رفعها. و إذا صحت الرواية، يكون قصي من بناة الكعبة و من مجدديها.." و ذُكر أنه أول  من جدّد الكعبة من قريش، و أنه سقّفها بخشب الدّوم و جريد النخل.و قد أشير إلى هذا البناء في شعر ينسب إلى الأعشى..و هذه الرواية تناقض بالطبع ما يرويه الإخباريون من أن الكعبة لم تكن مسقفة ، و أنها سقفت لأول مرة عندما جدد بناؤها في أيام شباب رسول الله و هو يومئذ ابن خمس و ثلاثين سنة"( الأحكام السلطانية 160 ، الطبري 2/283)و يضيف جواد علي"و في رواية أن قصيا أول من أظهر الحجر الأسود و كانت إياد دفنته في جبال مكة(الطبري 2/283ـ المصنف4/ 53ـ54)
هكذا تمكن قصي من خان زمزم، قلب الصحراء، أم القرى ، كهف القطاع و قبلة الصعاليك و الخلعاء و طلاب الطوائل.فابتنى لنفسه دارا قرب الكعبة و بدأ يصرف منها أمور دولته الصغيرة، فسماها دار الندوة."فكانت قريش لا تعقد أمرا إلا في داره، كما لا تنكح امرأة و لا رجل إلا في داره، و لا يتشاورون في أمر ينزل بهم إلا في داره، و لا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، و يعقدها لهم بعض ولده، و لا تدّرّع جارية إذا بلغت إن تدّرّع  من قريش إلا في داره ،يشقّ عليها درعها ثم تدرعه ثم يُنطلق بها إلى أهلها . فكان أمره في قومه من قريش في حياته و بعد موته كالدين المتبع لا يعمل بغيره تيمنا بأمره و معرفة بفضله و شرفه.و اتخذ قصي لنفسه دار الندوة و جعل بابها إلى مسجد الكعبة ، ففيها كانت قريش تقضي أمورها "( الطبري2/257 و ما بعدها،الكامل 2/13 و ما بعدها ـ المفصل 45) ؛ وفيها كانت تحسب رعاياها و تتتبع أخبارهم فردا فردا من مهودهم إلى لحودهم، فكانت دار الندوة أول مركز مخابرات في دولة مكة الناشئة. و أظن أن الفكرة اصطحبها معه قصي من كنائس الشام. و دار الندوة هي من جهة ثانية دار مشورة في أمور السلم و الحرب ،عرفت على أنها" مجلس المدينة التي عرف رؤساؤها كيف يحصلون على الثروة و كيف يستعيضون  عن فقر أرضهم بتجارة تدرّ عليهم أرباحا عظيمة، و بخدمة يقدمونها إلى عابدي الأصنام جاءت إليهم بأموال وافرة من الحجيج.في هذه الدار يجتمع الرؤساء و أعيان البلاد للتشاور في الأمور و البت فيها ..و في هذه الدار أيضا تجري عقود الزواج و تعقد المعاملات.فهي دار مشورة و دار حكومة في آن واحد، يديرها الملأ الأعلى  و هم مثل أعضاء مجلس شيو خ أثينا الذين يجتمعون في المجلس.(الأحكام السلطانية 162، نزهة الجليس 1/24)و الذين يمثلون زعماء الأسر و رؤساء الأحياء و أصحاب الرأي و المشورة (واط ص9،أوليري ص183)."و في رواية أنه كان لا يدخلها إلا ابن الأربعين أو ما زاد"(الاشتقاق 97)
و لم يبق لقصي لأن يكون دولة على النمط الحديث إلا إنشاء القوة العسكرية ، و نحن نعلم أن قصي لم يستول على الحكم إلا بالقوة و السلاح و أن جيشه كان يتكون من فرسان العرب ،الصعاليك و الخلعاء إلى جانب فرسان الغساسنة المدججين بالسلاح و العتاد.لهذا فرض قصي على أنصاره و أتباعه من المستفيدين خراجا تخرجه قريش مرتين في السنة من أموالها يطعم منه الحاج و المعتمر و يصرف ما تبقى منه على الصعاليك و الجياع و المجرمين المستجيرين بالكعبة و الخلعاء و الخلطاء و الأحابيش الذين سيشكلون النواة الأولى لقوة نظامية في مكة.قال أبو عبيدة: و لما ولي قصي أمر مكة قال : يا معشر قريش إنكم جيران الله و جيران بيته و أهل حرمه. و أن الحجاج زوار بيت الله ، فهم أضياف الله و أحق الأضياف بالكرامة.فترافدوا و اجعلوا لهم طعاما و شرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم ، و لو كان مالي يسع ذلك قمت به.ففرض عليهم خراجا تخرجه قريش مرتين من أموالها، فتدفعه إليه ، فيصنع به طعاما و شرابا و لبنا و غير ذلك للحاج بمكة و عرفة(قريش من القبيلة إلى المدينة 32/40 سبل الهدى و الرشاد321/325)
تلكم كانت قراءتنا لشخصية قصي أول حاكم و زعيم في قريش.قراءة توخينا فيها البراءة و الصدق و عدم المحاباة.فقصي لدينا مرتزق بعثه الغساسنة تحت طلب قيصر بيزنطة ، ليقيم بتهامة و الحجاز حكما تابعا لهم يؤمن تجارتهم البرية و البحرية و يحمي حدودهم  و تخومهم.فآزروه على ذلك و أمدوه بالأموال و العدة و العتاد و الرجال الأشداء.يقول رزاح أخو قصي و هو يصف  حملته على مكة لمؤازرة قصي:
ولما أتى من قصي رسول * فقال الرسول أجيبوا الخليلا
نهضنا إليه نقود الجياد * ونطرح عنا الملول الثقيلا
جمعنا من السر من اشمذين * ومن كل حي جمعنا قبيلا
فلما انتهينا إلى مكة * أبحنا الرجال قبيلا قبيل
نعاورهم ثم حد السيوف * وفي كل أوب خلسنا العقولا
نخبّزهم بصلاب النسور * خبز القوي العزيز الذليلا
قتلنا خزاعة في دارها * وبَكرا قتلنا وجيلا فجيلا
نفيناهم من بلاد المليك * كما لا يحلون أرضا سهولا
فأصبح سيبهم في الحديد * ومن كل حي شفينا الغليلا
(خبر قصي بن كلاب و ارتجاعه ولاية البيت..البداية و النهاية ـ الجزء الثاني)
فهذا الشعر يبين لنا إلى أي مدى كان يعمر الشداخ حكيما في قضائه بين قصي و خزاعة.فما كان حكمه لصالح قصي ، و هو المتطاول على الحكم و المسيطر على حقوق الغير ، بالحكم الاعتباطي الغير العادل، بقدر ما كان حكما متعقلا رزينا يبغي الخير لخزاعة التي كادت تفنى عن آخرها.فحكم الشداخ دليل على أن الفريقين لم يكونا متكافئين و على أن جنود قصي كانوا منظمين و مسلحين بما لا قبل للشداخ و لا لخزاعة به.و أن خزاعة كانت أمام جيش قصي ضئيلة الحجم  هزيلة القوة منعدمة العتاد .فلا سلاح تملكه و لا جيشا منظما تقوده و لا فرسان تفخر بهم . و مع ذلك فقد استطاعت خزاعة أن تقتل من هذا الجيش العتيد المعتدي خمسمائة و عشرين فارسا وتجرح منهم ثلاثين . فقدمت فديتهم حقنا للدماء و نزولا عند حكم الشداخ.فآل حكم مكة إلى قصي الذي كلّف أبناءه في حياته بوظائف الزعامة من رفادة و حجابة و سقاية و لواء و ندوة.فبعثهم سفراء إلى القبائل لبعقدوا اتفاقيات الإيلاف التي ستؤمن الطرق التجارية باسم قريش و لصالح قريش. فكان قصي أول حاكم عسكري و ديكتاتور عربي يصعد سدة الحكم في مكة بواسطة تمرد شعبي و انقلاب عسكري مؤلف من المرتزقة و الجياع و اللصوص و الصعاليك ، و يقيم بهم نواة مشروع لإمبراطورية إثنية دينية في تلك المنطقة الصحراوية، القليلة السكان، والمنعزلة عن العالم.
و أظن أن قراءتنا هذه أعدل في حق الرجل و حق مآثره و محاسنه. فأهل السير و الأخبار إنما يصفون الرجل بالصعلوك العاق الذي تنكر لجميل من ربّوه و آووه، فنبذهم و خلع نفسه منهم ، تماما كما فعل موسى مع فرعون ،.فقصي حسب السير و عند أهل الأخبار ناكر جميل متمرد شرير آوى إلى الخلعاء و المطرودين و أصحاب الطوائل في جبال تهامة، فتزعم فيهم و نشرهم في طرقات الحجاز من الطائف إلى يثرب للسيطرة عليها ،ثم سلطهم على خزاعة الذين صاهروه و آثروه على أنفسهم، فأفنوهم عن بكرة أبيهم، واحتلوا مكانهم. و استحلوا حرم البيت فتجاسروا على بيئته و شجره ، فخبروا بيئته و قطعوا شجره و أقاموا فيه لهم الغرف و المنازل، و نكحوا فيه قرب الكعبة بعدما كان محرما عليهم.فقصي إذا ثائر متمرد في بلاد غير بلده، قلب الأوضاع بمكة و أقام نظام البروليتاريا والعبيد والجياع و اللصوص.
و قبل أن نطوي ورقة فصي أرى أنه من اللازم الإدلاء بملاحظتين مفصليتين في هذا الموضوع.أما أولاهما فتتعلق باسم قصي الذي لا يرد في المصادر العربية إلا مرة واحدة في التاريخ.فلا قصي تجده قيل قصي بن كلاب و لا قصي بعده..أما جواد علي فروي في هذا الصدد أن هذا الاسم لم يرد في نصوص المسند(بمعنى أنه ليس يمنيا) و إنما ورد في النصوص النبطية. و هذا الاسم هو اسم صنم في الأصل بدليل ورود اسم عبد قصي.ثم يستطرد مضيفا"و يلاحظ أن الاسم الذي زعم الإخباريون أنه اسم قصي الأصلي الذي سمي به يوم ولد بمكة و هو زيد فقد نص أهل الأخبار على أن زيدا هو صنم من أصنام العرب(الاشتقاق 13 ـ المصنف 4/57).و ثاني الملاحظات هي سكوت أهل الأخبار عن ديانة المدعو قصي.و إنما اكتفوا بذكر دفنه في الحجون مدفن الحنفاء من آل قريش حيث قبر عبد المطلب جد النبي .إلا أن هناك أمرين يفرضان الشك في أمر حنفية قصي أولهما أن قصيا تزوج مرة واحدة في حياته ، و كانت زوجته الوحيدة و أم أولاده هي حبى بنت حليل، بعكس الحنفاء الذين يعتمدون نظام التعدد في الزواج سيرا على هدي أبيهم الأكبر الصعلوك الأعظم إبراهيم الأسطورة عليه السلام.و ثانيهما أن قصيا قد أوصى  لابنه البكر عبد الدار بن قصي قبل وفاته بكل مقاليد الزعامة و الحكم ، بعدما كانت وظائفها موزعة على أبنائه و أحفاده.و هذا كذلك ليس دأب الأحناف الذين يوزعون الإرث على أصحاب الحقوق. و إنما ذاك دأب النصارى و أتباع المسيح..

أبو قـــثم



ليست هناك تعليقات: