الجمعة، 6 يوليو 2012

الملحد جاري




ما كنت لأظنّ أنّ هناك شيئا معلوما في الدّين لا يتّفق في شأنه بلهاء الإيمان مع مشايخهم و علمائهم و مراجعهم.
و ما كنت لأظنّ أنّ من يصدّق بأن النّمل ينطق و أن الحمير تبصر الشياطين و الديك تبصر الملائكة، سوف يرفض من إمامه و مرجعه ، فكرة موت نبيّه مسموما أو مقتولا!!!
لماذا يا ترى يرفض المؤمنون هذه الفكرة، و لا يقبلونها!!!؟ و لماذا تشكّل عندهم ضيقا نفسيا و أزمة عصبية ، يحاولون التخلّص من مناقشتها و تداولها حتى مع أئمّتهم و مشايخهم المبجّلين؟
و الحقّ ، الحقّ، أن قوّله : و الله يعصمك من النّاس ، إذا ما شفعته بفكرة تسميم رسوله الأعظم من طرف يهودية، كما يقول قِسم من أهل السنة و الجماعة ،أو بواسطة اللد على يد عائشة و حفصة ، كما يصرّح قسم من الشيعة ، فإنّ الخليط المحصّل عليه يكون ممزوجا، مرفوضا، لا دسم فيه، و لا طعم له . إلا أن الأعجب هو أنّ هذا التّناقض ، على مرارته ، يشكّل بالنسبة لمشايخ الأمّة و علمائها مادّة دسمة، يقبلون عليها بكل فهاهة ،إقبال المتلهف على الماء.
ـ و الله يعصمك من النّاس ـ لا تستقيم و سحرَ النبي ، فكيف بها تستقيم عند أهل السنة مع فكرة تسميمه من طرف يهودية؟ و كيف بها تستقيم عند أئمة الشيعة مع التآمر على شخصه من طرف زوجتيه و تسميمهما له ؟
هذا ما استخلصته من الجلبة التي أحدثتُها في حشد من المشيّعين ، الذين جاءوا
ليشفوا صدورهم بموت جاري الغنيّ الملحد السّكّير، الذي لم تطأ قدماه يوما مسجدا و لا عرف الصوم له مسلكا
أعرف جاري السّبعينيّ العمر ، لأكثر من أربعين سنة خلين...عرفته شابّا وسيما، عريض المنكبين صبوح الوجه  عالي الهامة ، تتفنّن مراهقات المدينة في تتبع حركاته، و يتنافسن على مرافقته. ثم عرفته أبا، فرجلَ أعمال ناجحا قلّ أن لا تمرّ صفقة من الصّفقات اللاتي غيرت معالم مدينتي من بين يديه...و عرفته ذاك المتقاعد الذي يلزم يوميا رأس الدّرب متكئا في مقعده الوثير من سيارته الرباعية الدّفع ..تلك السيارة التي كانت لإلى الأمس القريب، رهن إشارة النفساء و المريض و المعلول ، و الطفل الذي فاته وقت المدرسة ، و الأب المحزون ، و كلّ من ضاقت به الأرض بما رحُبت...
لم يمرض جاري... لم يعتره الزهايمر، ولا أصابته حمىً و لا ذات جنب ... من أسبوع  مضى سقاني الصّهباء في سيارته على أنغام (الروكن رول) التي كانت تزيد المكان رونقا و بهاء... تجاذبنا الحديث كعادتنا لساعات طوال. تحدّثنا في كلّ الأشياء،و عن كل الأشياء... لم نترك أنبياء و لا أولياء و لا حديث و لا قرآن... تحدّثنا عن ماركس.. عن أفلاطون ...عن فرويد و نيوتن و عن هيجل.. تحدّثنا عن أبي قثم . على فكرة ـ جاري هذا كان يحبّ كثيرا قراءة تعاليق صديقي الراوندي. و كان كلّما وجدته يسألني أن أفسّر له بعضا من كلامه
فيقهقه كلّ مرّة لكونه لم يستطع استيعاب تواجد ملحدين من طينة الراوندي بأرض الله ،فيقول لي : حقّا ، إن الأعراب لأشدّ كفرا، ياهذاـ ... و كان أكرهَ ما يكرهه جاري، مقابرَ المسلمين. فكلّما سمع بموت صديق أو حبيب إلا و يأسَفَ له قائلا :مسكينٌ فلان ، سيرمونه في المزبلة. ثم تعلوه حسرة شديدة و يضيف : لقد نسوا ضرائبه و جباياته و صدقاته ، إنّه الآن كومة عظام لا تصلح لديهم لشيء...  كان دائما يقول لي : يا أبا قثم!  إن المسلم حشرة و هو حي، ونجاسة و هو ميت. فإذا مات تخلصوا منه بسرعة و توضؤوا اغتسالا منه...لا كرامة للمسلم ، يا أبا قثم حيّا،  و لا حرمة له ميّتا. أنظر إلى مقابرنا و قارنها بمقابر الكفار الذين غضب الله عنهم و أحبط أعمالهم.. أ ليست مقابرهم أشبه بالجنان التي يعِد بها الرحمان بلهاء الإيمان؟!!. كان جاري لا يمرّ بسيّارته قرب مقابر المسلمين ، ليس حذر الموت ، و لكن اتقاء النّكد و القرف الذي تبعثه في نفوس النّاظرين.
في ذاك اليوم المشؤوم الذي سيغادرنا فيه جاري، خرجت كدأبي كلّ يوم لأستقلّ سيّارة أجرة تقلّني إلى عملي ... لاحظت حركة غريبة ، لم أفهمها ... وتواجدا غير عادي لم أستوعبه ... إذ بي ألمح من بعيد ابن جاري البكر يلوّحّ بيده إليّ مناديا . فخففت نحوه. حيّيته؛ فحيّاني بحرارة، و قال هامسا جهة أذني، و كأنه يهمّ تقبيل كتفي : إن الوالد يريد أن يراك... دلفت المنزل الفخم خلفه .. فلاحظته أصْمَتَ ممّا عهدته، بينما كان التواجد فيه كثيفا!!. في كلّ حجرة مررت بها كنت أسمع همسا ... و البهوعلى طوله ، و أنا أجتازه ؛ لا حظت أني قابلت فيه أشخاصا كثرا لم يسبق لي أن عرفتهم. و بعد أن صعدنا الدّرج و توسّطنا الدار و واجهتنا حجرة نوم أبيه، بادرني الابن  قائلا: الله يهدي الوالد، يرفض أن نشغّل القرآن . فهلاّ أ قنعته ، يا أستاذ !! ثم دفع الباب ، لأجد نفسي داخل الحجرة، و أنا لم أستوعب بعد شيئأ...فإذا بي أمام جاري المتهالك فوق فراشه الذي لزمه ليومين بعد وعكة قلبية شديدة ، ألمّت به ،لم يعلم بها أحد من الجيران .. لقد أعلَمَه الأطباءُ بفقدان الأمل، فعاد من توّه ليلة الأمس... وجدته يضحك مع أحفاده الذين جلسوا على سريره الأبيض الوثير بينما تقتعد إحدى بناته أريكة جانبه .. لمّا رآني شاخصا أمامه قهقه قهقهة اهتز لها كيان الحجرة الخامل قائلا بصوته الجهوري : يا هلا يا هلا بأبي قثم
تسمّرت في مكاني ، كانت ضحكاته أثقالا تهوي على متني، فتثنيني لأنكسر أمام هول المشهد.. لم أنبس ببنت شفة ... نسيت نفسي... ضاعت مني الحواسّ إلا البصر الشارد منّي. فإذا بصدى ضحكه يعيدني إلى الرّشد ، لأجده يقول لي بمرحه المعهود : ها أنت ذا ترى ، يا جاري ، سوف يرمونني في المزبلة بعد قليل  ... ثمّ قهقه قهقهة خفيفة و صمت قليلا .. ثم مدّ يده جهتي و هو يقول : لقد وصل دوري ...فوداعا يا جاري ، المسامحة يا جاري ،.. أوصيك .. أوصيك بأبنائك خيرا.. و بقي مادّا يده التي لايتحرّك منها إلا الخنصر و البنصر إليّ كي يعانقني..ما صدّقت ما أسمع و ما عدت أحس بالأرض التي تقلـّني.. وحدها يده الممدودة نحوي هي  التي كانت تشدّني إلى الواقع... هويت عليه و الدّمع مني يتهاطل في صمت..ضمّني إليه ضمّة لن تفارقني حرارتها ما حييت ، ثمّ خضّني، و همس في أذني : إضحك يا راجل إضحك يا راجل..
خرجت خارّ القوى، مهزوم الفرائص، منهوك الأعصاب ، فاقدا مفهومي الزّمان و المكان .. سرت لخطوات أبحث عن الأنا الذي مني ضاع.. ألملم مفاصلي المبعثرة أتلمّس المكان الذي يحتويني



ملّيت النظر .. ملّيته أكثر ، لأجد الشارع قد امتلأ أكثر فأكثر... السيارات من كل الأنواع و الأحجام ، أمّا الناس فمنهم من أعرفه و منهم من لم أره قطّ . إنهم من كل الطوائف ومن كل الطبقات ..الفقراء ، الأغنياء ،التجار ، الصناع ... المسلمون و غير المسلمين ، أصحاب اللحي و الحليقون .. كلّ طوائف المجتمع أصبحت مجتمعة في الدرب
قصدت دكّان البقالة ، مطأطأ الرأس ، طلبا للسجائر.. سحبت علبتي و فتحتها... أوقدت أول لفافاتي التي كدت أكملها في نفسين ... خلفي، كان يتحلّق جماعة من المتديّنين حول ملتح وهابي خبيث. بينما كان فمُه يشتغل مع مريديه المنتبهين إليه، المتحلقين حوله؛كانت عيناه تصولان من فوق رؤوسهم في الشارع و تجولانه طولا و عرضا، متراقصتين، لا تغفلان عن صغيرة و لا تفلتان كبيرة . و لسرعة حركتهما و حركة شفتيه، تخاله مذيعا يغطي أطوار مقابلة في كرة القدم،  و المتحلقون حوله عميٌ ،لا يبصرون إلا من خلاله..و أنا أجرع نفسي من السيجارة، إذ يسترق سمعي جملة من حديثه أفقدتني ما بقي لدي من توازن. فلم أتمالك نفسي ... لقد سمعته يقول : اليوم لن ينفعه ماله و لا بنوه... فلم أدر متى قطعت حديثه و صحت في وجهه: و ما ذا نفعت النبوة رسولك؟؟ ألم يمت نبيّك حبيب الله و صفيّه؟؟ فلماذا تستكثر الموت في حقّ جاري !!؟ لا .. ألم يمت نبيك مسموما ؟!!! فماذا نفعته نبوّته ؟؟؟ ثمّ لماذا لم يرفع ربك نبيك كما رفع موسى و عيسى ؟
لم يجد الملتحي الخبيث غير ابتسامة استعراضية ماكرة هشّ بها في وجهي و قال مسترسلا  وكأنه يستعرض شريطا مسجّلا : هداك الله يا أخي.. استغفر لذنبك يا فلان .. ما هذا الذي تقول ،يا أستاذ .. أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم ..! كيف لمن اختاره الله و اصطفاه و فضله على العالمين أن يموت مقتولا بالسم؟؟ كيف ؟؟.. يا راجل ... و حتى إذا ما حدث فإنه يعتبر شهيدا ، يا هذا!!و ما منكم إلا قتيل و شهيد ...! لقد مات سيّد البشر شهيدا و ليس مسموما!! كاد الرّجل يُفَجّرني بغبائه ، و كدت أُسمعه ما لا قِبَلَ له به ؛ فإذا الصياح يعلو من دار جاري، وإذا بكاسيت القرآن يُشَغّل ..
 لقد فارقنا جاري لغير رجعة..نظرت إلى محدّثي ، فوجدته أبهج ممّا كان عليه ، و ابتسامتَه أعرضَ ممّا كانت عليه . فما أن التقى نظري ببصره حتى بشّ في وجهي قائلا و البهجة تعلوه: إنّا لله و إنّا إليه راجعون. بالصير و السلوان..تقبله الله...فكأني به كمّن كان يحمل على ظهره ثقلا فتخلّص منه بعد مكروه.!! فبادرته مصمّما العزم على أن أنتزع من وجهه تلك الابتسامة الماكرة،   و أسوّد يومه،و أغيظه غيظ الكفار
فقلت له
ما أجمل ميتة جاري . لقد مات سعيدا ضاحكا مستبشرا ، ودّع القريب و البعيد،  الغريم و الصّديق، مات وسط أبنائه و بين أحفاده ،يحكي لهم النكت و النوادر حتى فارق الحياة. أمّا محمد سيد المرسلين فقد مات ميتة جاهلية، معذبة. سواء بسم اليهودية أو بسمّ المؤامرة أو مات من الحمّى أو ذات الجنب . ففي أمر موته لا تتفقون كلكم إلا على شيء واحد وحيد هو  أنه مات ميتة قاسية شديدة لا يتمنى المرء مثلها و لو لعدوّه فما بالك بنبيه,؟
فأيهما تتمنى لنفسك يا فقيه ،ميتة جاري السكير الملحد أم ميتة نبيك المختار؟
تركته و الذين معه تعصرهم سَورة من الغضب يدمدمون و يحوقلون ، و رحت للمشاركة الفعلية في مراسيم تأبين جاري

أبو قثم

ليست هناك تعليقات: