الاثنين، 9 أغسطس 2010

تجـــارة اللصوص ـ الطرق التجارية


تجارة اللصوص  ـ  الطرق التجارية


يقول العلامة جواد
وقد كان العرب الجنوبيون يتاجرون مع بلاد الشام،
و لم يحدد من هم العرب الجنوبيون الذين يقصد
 فيرسلون إليها قوافلهم مارة بالحجاز إلى أسواق بلاد الشام باًلطرق البرية التي لا يزال الناس يسلكونها حتى اليوم مع شيء من التحوير والتغيير.
إذا فهؤلاء الجنوبيون يقصدون الشام عبر الحجاز ، و ليس بالضرورة عبر مكة .فهل هذا صحيح؟ هذا ما سنتعرف عليه
ثم يستدل العلامة على نظريته بقوله
 وقد عثر على كتابة دوّنها كبيران شكرا فيها الإله "عثتر"، لأنه نجاهما مع قافلتهما من الحرب التي كانت قد وقعت بين "مصر" وبين "مذي"، فوصلا معهما سالمين إلى مدينة "قرنو"، أي عاصمة "معين". وقد ورد أنهما كانا يتاجران مع "مصر" و "ا اشر"، أي "آشور"، و "عبر نهرن" "عبر نهران" (1)
ثم يعلق
 وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن هذه الكتابة تشير الى حرب وقعت فيما بين السنة "220" والسنة "205" قبل الميلاد. أي في عهد "البطالمة"، وأن تلك الحرب كانت بين "الميديين" الذين أشير إليهم ب "مذى" وبين "البطالمة" الذين أشير إليهم ب "مصر"، لأنهم حكام مصر، أو الحرب التي وقعت فيما بين "السلوقين" وبين "البطالمة"، و التي أدت إلى الاستيلاء على "غزة" سنه "217" قبل الميلاد. وقد كان العرب الجنوّبيون يتاجرون مع هذه المدينة التي تعتبر الميناء الذي يؤدي بالتجار إلى موانئ مصر(2).
فنلاحظ أن التواريخ التي يثبتها في شهادته هذه تعود كلها إلى القرن الثالث قبل الميلاد ، و أنها تصب في ما ذهبنا إليه من أن تجارة البخور لم تكن قديمة قدم مملكة سبأ التي يتحدث عنها العهد القديم و القرآن. و نلاحظ أيضا أن النص يتحدث عن منطقة في شمال غرب الجزيرة العربية حيث يربط الدكتور جواد علي و الذاهبون مذهبه من العرب و المستشرقين بين طريق الطيوب و طريق الإيلاف ،فيرسم العلاّمة حدودها و أبعادها بقوله: وقد كانت "البتراء" أي "سلع" Sela أهم عقدة طرق يمر بها المعينيون والسبئيون. ومنها يتجه طريق نحو البحر الميت، لمن يريد الاتجار مع بلاد الشام، وطريق آخر ينتهي بغزة، لمن يريد الاتجار مع هذا الميناء المهم، الذي بقي العرب يتاجرون معه إلى أيام الرسول. وقد كَان "هاشم بن عبد مناف" ممن يتاجر معه، وبه توفي كما تذكر الأخبار(3).
و هذا ما يؤكد حسب علّامتنا و حسب جميع المصادر الإسلامية التي يمثلها أن طريق الطيوب كان نشيطا  تمر به قوافل اليمنيين يوميا منذ قيام دولة سبأ في القرن التاسع أو العاشر قبل الميلاد إلى سقوطها على يد الحميريين اليهود و الساسان المجوس حوالي 550 بعد الميلاد (4) ، ثم استمر بعد ذلك هذا الطريق في نشاطه على يد قريش إلى ظهور الإسلام.
و لأنه مقتنع بأن دلائله هذه غير وافية فقد أضاف أنه قد أشير في التوراة إلى قوافل سبأ، وهي قوافل كانت تسير من العربية الجنوبية مخترقة العربية الغربية إلى فلسطين، فتبيع ما تحمله من سلع هناك. وقد كان السبئيون يسيطرون على العربية الغربية، حتى بلغت حدود مملكتهم أرض فلسطين.
هكذا يضع خطا غليظا تحت الطرق البرية ، ثم يتبعه بالتشطيب النهائي على الطريق البحري قائلا
 ولم تشر التوراة إلى وجود قوافل بحرية وسفن للسبئيين في البحر الأحمر، تتاجر مع فلسطين ومصر، ولم نعثر على كتابات باًلمسند تشير إليها، لذلك، فليس في استطاعتنا التحدث عن التجارة البحرية للسبئيين مع بلاد الشام (5).
هكذا و كما ترون، بجرة بسيطة و بكلمتين خفيفتين على اللسان، ينفي علّامتنا و الذاهبون مذهبه أي فضل للبحر على تجارة سبأ و أهل اليمن.و الحق، أن هذه النظرة المختزلة للتاريخ التي يبسطها المفكرون الإسلاميون عن هذه الحقبة من تاريخ الإسلام هي في الحقيقة انعكاس للشريط النمطي الرتيب الذي يصوره كل من  بليني المتوفى حوالي 89م و صاحب كتاب الطواف المتوفى حوالي 50م  و الذي يذهبان فيه  إلى أن أقدم الصلات بين البحر الأبيض المتوسط و بين المناطق الواقعة حول المحيط الهندي ترجع إلى طريق الطيوب البري التي نمت تجارتها في اليمن منذ الألف الثالثة قبل الميلاد (6). و التي تقوت منذ القرن التاسع قبل الميلاد بفضل زيارة ملكة سبأ لسليمان .ثم سيطر عرب الجنوب على الطريق البحري الرابط بين بابل و الهند (7) بعد غزو الفرس الأخمينيين للعراق من 559 إلى331 ق.م (8). ثم قاموا بمد مصر بالتوابل الهندية و المصنوعات و الأحجار الكريمة حول هذا التاريخ(9). أما الآشوريون فقد تركزت سياستهم اتجاه العربية حول تأمين طريق تجارة الطيوب(10) و هكذا أصبحوا( العرب الجنوبيون) يمدون زبناءهم بكل بضائع الهند و الشرق الأقصى و أفريقية الاستوائية من بلاد الحبشة إلى مدغشقر(11).فنلاحظ أن بليني و صاحب كتاب الطواف يصفان أهل اليمن لحد الآن بأنهم قوم بحريون يجوبون منطقة البحر الإريثيري كما يفعل الفينيقيون سادة البحر الأبيض. و استمر هذا النشاط على وثيرته إلى أن اضمحلت الأوضاع في العربية الجنوبية فتسلم أهل مكة المهمة و استمروا في تلبية طلبات الرومان و الإغريق الهائلة من البضائع الفاخرة (12).و استخدم أهل مكة الطريق البري الذي كان تحت سيطرتهم أصلا بواسطة الغزو،كما تمكنوا من فرض سيطرتهم على بقية أنحاء الجزيرة العربية(13) ثم قاموا باستيراد البضائع نفسها و المتمثلة في اللبان العربي و العاج من شرق أفريقيا و الذهب و التوابل الهندية و الحرير الصيني و البضائع الأخرى المماثلة، مما يفيد أن هذه التجارة ظلت مزدهرة حتى وضع الفتح العربي لبلدان الشرق الأوسط حدّا لها بعد أن عاشت ما بين 1500 و 2500 عاما.
وبناء على هذا السيناريو النمطي يشدد أهل الإخبار و البحاث المسلمون على "أن تجارة أهل الجنوب كانت تحمل برا و أن حكومة سبأ كانت قد سارت على سياسة التوسع التجاري، وهذا التوسع يقتضي السيطرة على الطرق، فبذلت جهدها لبسط سلطانها على الطرق والمسالك وجعلها تحت نفوذها وحكمها. وبعد استيلائها على بقية الحكومات العربية الجنوبية الأخرى وضعت الطرق الجنوبية المؤدية إلى أرض اللبان والمواد الأخرى التي اشتهرت بها العربية الجنوبية، والى الموانئ والمرافئ التي تتاجر مع إفريقية والهند وتستورد منها السلع النفيسة الثمينة تحت نفوذها وحكمها". "واتجهت نحو السيطرة على الطرق البرية المؤدية إلى بلاد الشام. ولهذه الطرق أهمية كبيرة بالنسبة إلى اليمن والعربية الجنوبية. وهى طرق موازية للطريق البحرية الممتدة في البحر الأحمر، ولها شأن خطير في التجارة العالمية"(14).
 (و هذا ما سنحاول إثبات عكسه . أما عن تاريخ ظهور تجارة الطيوب فقد أفضنا فيه ، و رأينا أن هذه التجارة لا تعود إلى أبعد من القرن السادس أو السابع قبل الميلاد. و أما تجارة  أهل اليمن إنما كانت تنحصر في الطيوب اليمنية المشهورة ، و أما الذهب و الفضة فرأينا أنهما منتجان لم يعرفهما اليمن إلا إثر التدخل الفارسي المتأخر حوالي 525 للميلاد. و أما الطريق البري الذي يدور حوله الإشكال فلما وصله الدكتور جواد علي قام فأفرد له بابا سماه بطرق الجاهليين، و أخذ القارئ فيه في نزهة شاقة في كل ما أوردته المصادر الإسلامية من مسالك و طرق و مفاوز تنتشر على طول الجزيرة و عرضها ، و جعل يقفز به من مجموعة طرقية إلى مجموعة، و من أحداث إلى معالم، و من أسماء الأماكن إلى أسماء الرجال؛ في رحلة عقيمة لا تعرف من أين بدأت و لا أين انتهت. و الظاهر أنه كما تعمّد عدم الإشارة إلى ملكة سبأ و قصتها في القرآن فقد تعمّد الآن الاقتصار على المصادر الإسلامية لتحديد الطريق الذي كانت تمر منه قوافل سبأ و لم يشر لا من بعيد و لا من قريب إلى الإشارات الهامة الواردة في المصادر الكلاسيكية. و المتمعن في الخريطة التي قدمها لنا جواد اعتمادا في الأساس على كتابي الممالك و المسالك و تاج العروس يجد أن هناك ثلاثة محاور رئيسية تبتدئ منها جل الطرق و تنتهي إليها و هي محور المدينة و الطائف و نجران و من هذه النقط  الثلاث تتفرع الطرق الصاعدة و الهابطة من الشام و اليمن و تتصل عندها بالطرق الواردة من العراق و عمان. أما مكة بيت القصيد فيعرّج إليها في كل الأحيان من الطائف عبر عكاظ أو نخلة و يعرج إليها من المدينة عبر معدن القرشي، وهو "معدن النقرة". وعنده تفترق الطريق، فمن أراد مكة نزل "المغيثة"، ومن أراد "المدينة" أخذ نحو العسيلة فهبطها.(15). و لا تجد طريقا تبتدئ من مكة إلى الشام إلا عبر المدينة و لا تجد مسلكا نحو نجران إلا عبر الطائف ، أما المسلك الرئيسي الطبيعي بين اليمن و الشام فإنه يمر بصعدة فنجران فالطائف و نخلة ثم رأسا إلى المدينة، أما من أراد زيارة مكة فعليه أن يعرج من نخلة أو عكاظ إليها ( أنظر الخريطة أدناه). و عليه فخريطة الدكتور علي لا توحي لنا بوجود مكة على أي مفترق للطرق. تصوروا أن القادم من مصر إلى مكة يجب عليه أن يبدأ بشرف البعل،  ثم إلى "الصلا"، ثم إلى "النبك" (موضع بين ضجوة و مضيق جبة من منازل حاج مصر، (16)، ثم إلى "ظبة"، ثم إلى "عونيد"، ثم إلى "الوجه"، ثم إلى "منخوس"، ثم إلى "الجرة"، ثم. إلى "الأحساء" ثم إلى "ينبع"، ثم إلى "مسئولان"، ثم إلى "الجار(تاج العروس 3/112 (جار )) ثم الى المدينة (17) . فهو بذلك يحاذي الساحل إلى أن يصل إلى ميناء الجار فيعرّج منه لمسيرة ثلاثة أيام ليصل إلى المدينة ،حيث يتمكن آنذاك من العروج نحو مكة. و على كل حال فمحمد بن أحمد المقديسي الذي يعتبر من المصادر الإسلامية الموثوق بها في مسألة الطرق و المسالك و الذي لم يشر إليه هو الآخر الدكتور جواد علي في هذا المقام، يلاحظ في نص حساس جدا، ورد له في كتابه "وصف بلاد المسلمين"، بأن مكة كانت مدينة داخلية . فيقارن بينها و بين شبوة عاصمة حضر موت قائلا:و كان لشبوة أهمية تناظر أهمية مكة قبل الإسلام، فهي تقع في الداخل في منطقة قاحلة و لها مركز للعبادة، علاوة على كونها مركزا للتجارة، ثم يضيف، و كان حظ حكام شبوة جيدا حيث تمكنوا من السيطرة على مناطق إنتاج البخور في بلاد العرب، و كان لهم حق اختيار المكان الذي يتم فيه تجميع البخور و هو شيء لم يكن له نظير في المنطقة أو أثناء سيطرة مكة.(18) .و النص كما ترى رغم صغره و شموليته فهو زاخر بالإرشادات و المعطيات التي لا غنى للمرء عنها لتكوين صورة دقيقة عن طريق الطيوب؛ مثل، أن مكة لم تكن مجمعا للبخور و لا البضائع مثل شبوة، التي كانت على العكس مستودعا ضخما يسيطر على كل إنتاج البخور و يحتكره. و ذلك راجع إلى كون مكة لم تكن سوقا تجارية قبل فرض الحج على المسلمين كما أنها لم ترد في أية قائمة من قوائم الأسواق حتى التي قدمها لنا جواد علي نفسه إلا من باب المجاملة؛ و هذا ما سنتطرق إليه في حينه. ثم أن شبوة كانت سوقا لتسويق البخور في كل الجهات مثلها في ذلك مثل ما تدعيه مكة. ثم إن شبوة مثل مكة كانت تعد مركزا دينيا هاما و حجا للعبادة. بالإضافة إلى أنها مثل مكة تقع في منطقة متطرفة نائية عن الطرق الرئيسية ، و جرداء قاحلة. و هذا ما تدعمه المصادر الأدبية الكلاسيكية اللاتينية و الإغريقية التي أهملها الدكتور علي في مسألة الطريق البري للطيوب السبئية. إذ يوضح كل من موللر Muller و جروم Groom  أن طريق البخور كان يبعد عن مكة بمسافة ألف ميل(19) و عليه فالذهاب من جنوب العربية إلى سوريا يعد خروجا و ابتعادا عن الطريق الطبيعي. و القوافل التي تسافر عبره تتوقف خمسا و ستين مرة في خلال رحلتها و لم تكن مرغمة على التوقف في مكة بسبب توسط موقعها، و إضافة إلى ما تقدم ففي رحلة تستغرق حوالي شهرين فإن فكرة الاسترخاء في منتصف الطريق تعد فكرة غير صائبة (20) و يضيف "بوييي Buillet " أن مكة كانت بعيدة عن الطرق المطروقة و تقع في مناطق جرداء قاحلة ، فهي إذا لا تصلح منتجعا للتجار خصوصا و أن الطائف توجد على مقربة منها و هي الأكثر أهلية باستقطاب التجار لكثرة ظلالها ووفرة مياهها و كثرة أسوقها. فمجنة و عكاظ و ذي المجاز أسواق عامرة بالطائف يقصدها التجار و الشعراء و المستكشفون و السياح من كل حدب و صوب. حتى الفرس كانوا يقصدونها للتجارة، ما دفع بأهل قريش إلى المساهمة في تجارتها العامرة بالقروض على شكل ربا و شراء المتاجر و الضياع و إقراض الأموال لمنتجي العنب.
و من خلال كل ما سبق يتضح لنا، أن هناك طريقا ما؛ أو طرقا ما برية؛ تربط أو ربطت في مرحلة ما من التاريخ ،ما بين اليمن و الشام. و يبقى علينا أن نتبينها وسط هذا الزحام من المسالك و المفاوز و التي تنتشر طولا وعرضا في فضاء المصادر الإسلامية و غيرها.
فبالرجوع إلى المصادر الأدبية الكلاسيكية فإننا لم نسمع شيئا عن الطريق البري حتى العصر الهللينستي،حيث أخبرنا المؤرخ هيرو نيموس الكاردي (Hieronymo of Cardia ) في الفترة(272 ـ 323 ق.م)، و الذي وردت كتاباته عند ديودوروس الصقلي (Diodurus Siculus) بأن عددا كبيرا من الأنباط اعتاد أن يحمل اللبان و المر و أغلى أنواع التوابل إلى البحر الأبيض المتوسط، و كانوا يقومون بجلبها من القوافل التي تأتي من المنطقة التي يسمونها بالعربية السعيدة.(21)، و بالرغم من أن النص لا يقدم لنا تاريخا محددا،إلا أنه يؤكد أن البضائع كانت تصل برا إلى الأنباط ،ما يعني أنهم كانوا يتسلمونها عند نهاية البحر الأحمر ثم يقومون بنقلها إلى البحر الأبيض المتوسط.و قدم لنا إيراثوثينيس (Erathothenes) (ما بين 275 و 194 ق.م) تفصيلا أكثر عنها ورد عند الجغرافي لإسترابون، فذكر أن اللبان و المر و الطيوب العربية الأخرى التي كانت ترد من حضر موت و قتبان ، كان يتم تبادلها مع التجار الذين كانت تستغرق رحلتهم سبعين يوما من عيلانة (Ailana) (أيله ـ Ayla) إلى معين ، حيث يحملها الجابيون (Gabaioi) و كل من يريد من التجار الموجودين إلى حضر موت في أربعين يوما (22). كذلك أشار أرتيميدوروس (Artimidorus) حوالي 100 ق.م إلى الطريق البري الذي ورد ذِكره لدى إسترابون عند حديثه عن حياة الدعة و الكسل التي يعيشها السبئيون الجنوبيون حيث قال: إن هؤلاء القوم الذين يعيشون على مقربة من بعضهم البعض ، يصل إليهم بطريقة متواصلة أحمال الطيوب ليقوموا بتوصيلها إلى جيرانهم في المناطق البعيدة مثل سوريا و بلاد ما بين النهرين.و خلال قيامهم بهذا العمل كانوا يتأثرون بسبب استنشاقهم الروائح العطرية، لدرجة أنهم يضطرون لاستنشاق مواد أخرى مختلفة لكي يظلوا مستيقظين(23)
و قدم لنا الحكيم جوبا الثاني ملك موريتانيا البربرية الذي عاش ما بين 52 ق.م و سنة 23 للميلاد، تفصيلات أكبر عن هذا الطريق البري اقتبسها عنه بليني (Pliny).و وفقا لما ذكره فإنه كان يتم إرسال كل اللبان إلى سوبوتا (Sobota)، و هي شبوة عاصمة حضر موت التي جعل منها ملكها محطة الشحن الرئيسية التي تشحن منها الجمال و التي تتجه منها بعد ذلك إلى الطريق العلوي.و من شبوة تتجه إلى جيبانيتي (Gebbanetae)  و عاصمتها ثومنا (Thomna) و يعرف موقعها في النصوص الأثرية باسم تمن Tmn و هي عاصمة قتبان (24).و منها تتجه الرحلة إلى غزة، و قد قسمت إلى خمس و ستين مرحلة زودت كل منها بمحطات للجمال. و يتم دفع الضرائب عنها لملوك حضر موت في شبوة و لملوك قتبان في ثومنا، بعد استقطاع ما لرجال الدين و السكرتاريين و الحراس و الخدم من تلك الضرائب. و بلغت نفقات حمولة الجمل الواحد 677 دينارا قبل أن يتم دفع الضرائب عنها للرومان(25). ثم عاد بليني و تحدث مرة أخرى عن الطريق البري عند حديثه عن المدن الداخلية التي يقوم العرب الجنوبيون بإحضار طيوبهم منها لتصديرها. كما يعرف أن اللبان كان يصدر عن طريق الأراضي المعينية من خلال ممر واحد ضيق. (26).و يخبرنا صاحب كتاب الطواف أيضا بأن جميع إنتاج البلاد ( حضر موت) من اللبان و المر كان يصل إلى ذلك المكان(شبوة) بواسطة الجمال ، ليتم تخزينه لتصديره، أغلب الظن، بطريق البر(27) ، و هذه هي كل المعلومات التي تسعفنا بها المصادر الأدبية الكلاسيكية فيما يتعلق بالطريق البري و التي نرى مدى تطابقها مع ما أشار إليه المقديسي و تجنّبه بصورة ملفتة الدكتور جواد علي.
و عليه فالملاحظ من خلال قراءة أولية لهذه المعلومات أنها تتحدث في بادئ الأمر عن البضائع العربية فتحددها أساسا في اللبان الحضرمي.فلا التوابل الهندية و لا الحرير الصيني أو عاج أفريقيا الشرقية و لا الذهب و لا الفضة أو العبيد كانت تحمله القوافل المتوجهة لسوريا عبر الطريق البري. و الملاحظة الثانية هي أن هذه النصوص هي النصوص  الوحيدة التي ذكرت هذا الطريق البري و أنه لم يعد أي ذكر له بعد بليني و صاحب الطواف ، لنستنتج أن هذا الطريق كان محدودا سواء من حيث البضائع التي كانت تُحمَل عليه أو من حيث الفترة الزمنية التي استخدم فيها. و إذا ما تعمقنا أكثر في هذه النصوص فإننا نجد أن إيراثوثينيس يحدد البضائع المحمولة برّا عبر هذا الطريق بتلك التي تأتي من حضر موت و قتبان ، و يؤيده جوبا ، أما صاحب كتاب الطواف فيذكر حضر موت فقط، و ربما لقيامها بالاستيلاء على أراضي قتبان في هذه الفترة (28). و بالرغم من ذلك فقد ورد اسم السبئيين لدى أريميدورورس عند حديثه عن رجال القوافل الكسالى و في قائمة بليني عن المدن التي كانت الطيوب تصدّر منها.و قد ذكر كل من هيرونيموس و إيراثوثينيس أن هذه البضائع تضم اللبان و المر و بعض الطيوب، أما كل من بليني و صاحب كتاب الطواف فلم يذكرا سوى المر فقط. كذلك أكد لنا كل منهما أن الطريق عبر شبوة  كان قد سيطر عليه تماما ملوك حضرموت مما يؤكد أن الطريق البري كان دائما مرتبطا بحضرموت سواء بمفردها أو مع قتبان و لم يكن مرتبطا أبدا بالسبئيين أسلاف قريش في التجارة. و هذا ما يؤكده الواقع و يلفى قبولا واسعا لدى الكثير من الباحثين لكون حضرموت كانت هي المصدر الرئيسي لإنتاج اللبان أو بمعنى آخر كانت مصدرا لأجود أنواعه في ظفار(29) .من أجل ذلك و في إطار تنافسهم المرير مع السبئيين قرر ملوك حضرموت حمل اللبان عبر الطريق البري  و جباية ضرائبه في شبوة  ثم ظفار فيما بعد .و ذلك بعد اتفاقهم طبعا مع القبائل التي ستمر منها طيوبهم . يقول صاحب معجم البلدان: و كانوا يقومون بجمع المحصول و حمله إلى ظفار حيث يحصل الحاكم على نصيبه فيه، و لم يكن باستطاعتهم حمله إلى أي مكان آخر تحت أي ظرف من الظروف ، و إذا سمع عن قيام أي فرد بحمله إلى مدينة أخرى، قتله. (30) .و يبدو أن هذا اللبان الحضرمي وحده هو الذي كان يحمل برا في عصر بليني و صاحب الطواف. و إذا علمنا أن السبئيين كانوا يسيطرون على أكثرية الموانئ و أكبرها مثل موزا و ميناء عدن المعيني فإننا سنفهم أن ملوك حضرموت قد اختاروا الطريق البري في إطار محاربتهم السياسية و الاقتصادية مع سبأ.خصوصا و أن ميناء قنا الحضرمي كان يوجد في منطقة متوسطة بين عدن غربا و مضيق هرمز الذي يسيطر عليه الفرس و الهنود و أهل جرها.لدى يمكن القول بأن ملوك حضرموت قد وجدوا متنفسا في الطريق البري ، و طريقة لجباية الضرائب و المكوس في تلك اللحظة التي استفردوا فيها بسوق الإنتاج. فكان هذا الطريق في صالح الملوك أكثر منه في صالح التجار الذين كما سلف ذكره كانوا ينفقون 677 دينارا عن حمولة كل جمل. و بالرغم من وعورة المسالك البحرية و وجود القراصنة الذي ثبت لدى كل من بليني في الوثيقة (N.H 2/101) و كتاب الطواف قي الفقرة 20 ،فإن هاتين الوثيقتين تثبتان أن وجود القراصنة لم يمنع التجار من الإبحار، و لهذا أخذ التجار حذرهم و سلحوا مراكبهم بالسهام التي وصفها بليني في الوثيقة أعلاه. كما أن الرحلة من ميناء قنا إلى ميناء برنيس (31) كانت لا تستغرق إلا ثلاثين يوما (32).بينما تستغرق الرحلة البرية ما بين 65 و 70 يوما أو طبقا لترجمة أخرى ما بين 120 و 130 يوما من شبوة إلى سوريا(33).إلا ان السبئيين و بحكم حذقهم و بحثهم الدؤوب من أحل تطوير حباتهم اليومية وبحكم تعاملهم مع البحر و أهواله استطاعوا أن يكتشفوا مصدرا آخر منافسا لإنتاج اللبان.فبذكر أجاتارخيديس عام 130 ق.م أنهم تمكنوا من صناعة طوافات و قوارب جلدية لحمل بضائعهم(34) ، ثم جاء أرتيميدورورس عام 100 و ذكر لنا أنهم استخدموها للانتقال من إثيوبيا إلى العربية ، و في هذه المنطقة عثر على اللبان و المر بكميات كبيرة كما سبق أن اكتشف قدماء المصريين ذلك. كما أن أرتيميدوروس يعرف أن السبئيين كانوا يتاجرون في الطيوب المحلية و المستوردة من إيثيوبيا.(35)  و لم يأت القرن الأول الميلادي حتى أصبح اللبان الإفريقي له نفس أهمية الأصناف العربية بينما احتل المر الإفريقي المرتبة الأولى(36) . و في القرن السادس للميلاد أصبح اللبان الإفريقي النوع الوحيد الذي وجد التاجر كوزماس (Cosmas) أنه جدير بالذكر و لا يزال هذا النوع هو المسيطر على الأسواق لحد الآن(37.) هكذا قضت سبأ على كل طموحات الحضارمة في احتكار تجارة الطيوب، و بدأ السبئيون، الذين أصبح منهم الملوك في الحبشة و الصومال و غيرها، يبحرون عبر البحر الأحمر من جزيرة إلى جزيرة، و من ساحل إلى آخر بطوافاتهم، إلى أن يصلوا إلى ميناء ليوكي كومي في شمال البحر الأحمر الذي يعد ميناء للأنباط و سوقا لهم، حيث تخرج قوافل الجمال من البتراء و إليها بأمان كامل و سهولة. و في ذلك التاريخ نفسه أصبح ميناء ميوس هيرموس على الجانب المصري من البحر الأحمر يمثل طريقا آخر للنقل البحري.و من هذين الميناءين فقط كان يتم نقل البضائع برا إلى الإسكندرية و رينو كولورا أو إلى أي مكان آخر(38). و يبدو أن البخور الحضرمي في ظل هذه المنافسة الشرسة قد استغنى هو الآخر عن الطريق البري لكثرة تكاليفه و طوله و أصبح هو الآخر يشحن من قنا و ظفار، فيحمله الجرهائيون بطوافاتهم ليوزعوه بدورهم عن طريق البحر إلى حد ما في الخليج الفارسي، و من المحتمل أنهم كانوا يجمعونه برا و لكنهم كانوا يستخدمون عند عودتهم لجُرها الطوافات الجلدية التي سماها جواد علي بالأرماث للوصول إلى بابل، ثم يبحرون في الفرات(39). و على أي ، فإن ما ينبغي الوقوف عليه هو أنه لم تعد هناك أية إشارات إلى الطريق البري في المصادر الكلاسيكية بعد جوبا التي وردت عند بليني و صاحب كتاب الطواف الذي يرى البعض أنه يعود لعام 50 للميلاد، أو إلى أوائل القرن الثاني الميلادي، و يرجعه آخرون إلى نهاية القرن الثالث الميلادي؛ و أن ملوك حضر موت الذين كانوا يرغمون التجار على استخدام الطريق البري كانوا قد فقدوا استقلالهم لصالح سبأ(40)
أما الطريق البحري فقد استمر بعد ذلك و تقوى بفضل القناة التي تريط بين البحر الأحمر و النيل التي حفرها الإمبراطور تراجان(98 ـ117م) عند كليزما (Clysma) ( القلزم Culsum) السويس حاليا ، كما قام بتمهيد الطريق  إلى أيلة و البتراء و بصرى و دمشق. و لا شك أن هذين الميناءين قد أثرا على ميناءي برنيس و ليوكي كومي فأصبحا هما المركزين الأهم للسفن في البحر الأحمر حسب المصادر الإسلامية.و حل ميناء عدن محل موزا في اليمن، و بقيت الحال كما هو عليه إلى أن خرّب العربية السعيدة قيصر أغسطس في حملته الثانية كما ورد عند صاحب الطواف. و لكنها ما لبثت أن استعادت أهميتها في القرن الرابع الميلادي(41)
و الظاهر أنه ما لبث أن جاء القرن الثالث للميلاد و انتشرت المسيحية في الشرق الأوسط حتى انحسرت تجارة البخور لاتصالها بالطقوس الوثنية التي حلت على أنقاضها المسيحية. و رغم استهلاك البخور في بعض الطقوس الجنائزية و الدينية المسيحية إلا أن الإقبال عليه قد تراجع بشكل مهول ، إذ لم يعد هو الهواية المفضلة لدى الطبقة الأرستقراطية فقلّ الإقبال عليه و تراجعت بالتالي أسواقه. و إذا أضفنا إلى الحسبان توفر أهل الشام على إنتاجهم للعطور و تطوّر صناعاتها لديهم ، فإنه يمكننا القول بأن تجارة اليمن أصبحت تنقل جميعها بحرا منذ القرن الأول للميلاد ، و أن الطيوب الحضرمية تبعتها على الطريق نفسه بعد فترة قصيرة، ثم بدأ انهيار سوق التجارة في اليونان و الرومان منذ القرن الثالث الميلادي. ذلك الانهيار الذي لم يتراجع أبدا . و عندما بدأ نجم تجارة مكة المزور في الظهور لم يكن هناك طريق بري لترثه قريش كما لم تكن هناك سوق رومانية و لا بيزنطية ليستفيدوا منها.
هذه النتيجة لا يمكن اعتبارها كارثية بالنسبة لتجارة مكة فحسب، باعتبار أن تجارة البخور تعتبر محور تجارة أهل اليمن التي تدعي المصادر أن قريشا و رثتها . فتجارة مكة ليست في واقع الأمر إلا ورقة في اللعبة التاربخية الإسلامية. يل إن هذه النتيجة في الحقيقة طامة كبرى على القرآن الذي يفترض أنه نزل في بيئة تجارية و تكلم بلسان تجاري و استعمل منطقا تجاريا في أكثر آياته.فلقد حفل القرآن بذكر التجارة و شروطها و عقودها و أخلاقها في أكثر من 125 آية ." منها 85 آية في المال و 6 في البيع و الشراء و 7 في الربا و مثلها في التجارة و 13 آية في القروض و 4 في القسطاط.(42). فلنا أن نتساءل عمن هم هؤلاء التجار الذين خاطبهم القرآن؟ و إذا ثبت أن مكة لم تكن سوقا تجارية و لا كانت تسودها الأجواء التجارية، ففي أية بيئة تجارية نزل القرآن إذا؟ ..و لنا أن نلاحظ شيئا آخر قبل حتم هذا الفصل و هو أن تجارة البخور كانت تجارة عالمية تؤدى عليها الضرائب و الأعشار في الأسواق و لدى الحكام و الدول، لذلك يمكن القول بأنها كانت تجارة قانونية. و هذه التجارة القانونية تبين لنا الآن بالدليل و الحجة على أنه لم يكن لقريش فيها أي نصيب يذكر


ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - Paléographie des inscriptions Sud – Arabes. J. Pirenne
المصنف 7/236 ـ 2
3 - نفس الصفحة من نفس المصدر
مملكة سبأ ـ ويكيبيديا ـ عربية ـ 4
المصنف 7/241 ـ 5
ـ 6 C.Rathjens PP 115 ,122
7 -  H.Van wissmann . Ancient trade Routes in South Arabia P 3525
8 - J. Rennedy . The Early Commercze of Babylon with India P 271
9 - W.H. Schott, tr. The Periplus of the Erythrean Sea P 326
10 - ( Rathjens , Wethandlstrassen , P 122j. Rendnedy. The Early
11 -  Commerce of Babylon with India P271
12 - Schoff, Periplus P 6 _ Donner , Mecca Food Supplies ,P 250
13 - Watt , Muhammad at Mecca , P 3
المصنف 7/240 ـ 14
تاج العروس 3/582 .( نقر) ـ 15
تاج العروس 7/186 (نبك) ـ 16
قدامة 191 ـ 17
وصف بلاد المسلمين ص 85 ، عدن ص95 ـ 18
19 - w.w. Muller , Weihrauch, col 723 ; N. Groom , Frankincense & Myrrh P 193
20 -  Buillet , Camel and the wheel , P 105
21 - Diodurus Siculus , Bibliotheca Historica 16/94 :5
22 - Strabo , Geography , 15/ 104 : 14
23 - Frankincense P 292
24 - E12. S.v. Kataban. Beeston
25 - Agatharchides ,101 ,Photius Bibliotheque T 7
26 - Pliny. Natural History. 12/63
27 - PeriplusP 27
28 - W.F. Allbright. The Chronologie of Ancient South Arabia PP9(سقطت قتبان حوالي عام 50ق.م و يرى موللر أنها سقطت حوالي 25 ميلادية ،Muller, Weihrauch, col726، و اقترح بييرين تاريخا متأخرا و هو عام 250م j.Pirennes , Le Royaume Sud-Arabe de Qataban et Sabatanian. A.D 250و نستطيع القول بتأكيد أنه قد توقف ذكر قتبان في النقوش في القرن الرابع للميلاد E12 , s,v. kataban )
29 - Van Beek.Frakincense & MMyrrh P72, i
ياقوت الحموي ،البلدان 3/588، مادة ظفار ـ 30
ميناء صغير بجنوب محافظة البحر الأحمر بمصر سمي على اسم بطليموس الثاني ـ 31 و قد أصبح ميناء تجاريا هاما حوالي 275 ق.م
32 - Pliny N.H 4/104
33 - cf. Beeston , Some Observations pp.8f
34 - Agatharchides 101
35 - Artemidoros in StraboK Geography 16/4 :19
36 - الفقرات7 ـ 12من كتاب الطواف تمت ترجمتها لدى جروم Frankincense ? pp 138 ff
37 - Cosmas indicopleustes, Topographie chretienne, 2/64
38 - Strabo ; Geography16/4 :23
39 - Aristobulus in Strabo 15/13 :3
40 - E12, sv Hadramawt ; w.w. Muller ,pp 231/249
41 _ Periplus , ed. H . Frisk  26
الحاشية 18 ـ المال و الحلال ـ ص 20 ـ 42

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

ربما يريد أحدكم أن يذكّرني بما كتبته قبل قليل عن دبي، فأقول إن الوضع مختلف والمقارنة غير واردة، فبيجينغ وريثة إرث حضاري يتجاوز عمره الثلاثة آلاف سنة، وهي اليوم إحدى عواصم العالم الكبرى، وأي قرار يتخذ فيها يمكن أن يهز أحد أركان العالم أو كله، فضلا عن كونها مركز الثقل في نمو الصين الاقتصادي والتنموي. بينما دبي لا يتجاوز تاريخها عشرات السنين، وهي فعلا مثال نادر للنمو والتطور في العالم الثالث، لكنها لا تقاس بقوة عالمية، وهي تكتفي بكونها تمثل حضارة مدنية حديثة. والخلاصة هنا أننا حين نرى أي تطور مادي لا يمكن أن ننزع عنه قالبه الحضاري أو نهمش دلالاته الفكرية. .………………………………………………… ابن بطوطة .. أعجبنى رأيك هذا جدا فوجدت لزاما على ان أسجل اعجابى .. احترامى .