الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010

أصل العربية


  
صديقي علي سوري متعود على اللهجات الشامية المتقاربة أو على مصرية المسلسلات والأفلام. لم يقابل مغاربياً قبل أن يعمل في ليبيا مع شركة برازيلية. وكما حال كل الشاميين فإن المغرب يزعزع أفكارهم التي تربط القومية العربية ببلاد الشام فيتأرجحون بين الدهشة وبين تعليل "إختلاف اللهجات المغاربية" بتأثير "اللغة البربرية"، لغة البلاد قبل الفتوحات، وكأن سوريا كانت "تتفصح" بلغة الضاد قبل الفتوحات التي "أنعم الله علينا بها." لكن علياً، كما كان دائماً حاد الذكاء والملاحظة وبعيداً عن التعصب، آثر الشك بالأصول العربية المزعومة لكل "العاميات" المحكية الآن في البلاد العربية، خاصة وأنه يكتب الشعر بلهجته الغربية الجبلية الجميلة. ثم سألني عن لغز اللغة العربية ولهجاتها "المشؤومة" التي صورتها القومية العربية كمسوخ لغوية سببها الجهل والإبتعاد عن "الروح العربية الأصيلة" التي تسكن في مكان ما من جبال الأولمب. والغفوة الدينية الحالية في "فلسفتها" اللغوية تمسكت بآراء القومية العربية وإن اعتقدت أن هذه الأخيرة من بدع الغرب التي سرقت منها عن دون حق خشبة المسرح لعدة عقود قبل أن "يستفيق" الناس إلى "القومية الحقيقية" والتي هي الإسلام.
ولأني أحب علي فقد حاولت جهدي أن أعطيه جواباً لمسألة عجزَ الباحثون عن الإجابة عليها فكان الله في عوني. في الحقيقة كل ما فعلته هو أني جمعت النظريات المعروفة عن نشأة العربية ولهجاتها في نظرية توليفية توفيقية كعادة الباحثين الذين لا يعرفون الجواب عن أسئلة "العامة" ولكن تمنعهم أنفتهم وعزة نفسهم وسنوات الدراسة الطويلة التي أفقرتهم وأهدرت بصرهم عن أن يقولوا "والله هذا سؤال جيد لكني لا أعرف الإجابة". وقد آثرت أن "أتفصح" في غير مجال معرفتي على أن أختم جوابي بما كان المؤرخون العرب يختمون به سلسلة من الأخبار المتناقضة، أي بجملة "والله أعلم." فإن نسيتها في النهاية فرجائي إلى القارئ أن يضيفها عند قراءته لهذه المقالة وأن يختم بها كل أحاديثه عن التاريخ وما شابهه من فنون الأدب.
متى نشأت اللغة العربية؟ وأين؟ وكيف أصبحت لغة ملايين من الناس؟ وما هي أصول اللهجات العربية المحكية؟ وهل هي فصحى" مكّسرة" كما يقولون أم لغات قديمة من زمن ما قبل الإسلام؟ يعتقد اللغويون أن اللغات تبدأ في مكان ما وفي زمان ما ثم تنتشر، فيرسمون أشجاراً جذابة لعوائل اللغات المختلفة. فهناك شجرة اللغات الحاموسامية أو الأفروسامية وهناك اللغات الهندوأوروبية وهناك اللغات الألتائية (ومنها التركية). وهذه الأشجار، على عهدنا بالأشجار عامة، لها جذع هو الأصل، وفروع هي الفروع أو الأبناء. تماما كما نجد في كتب الأنساب القديمة كيف انحدر العرب كلهم من إسماعيل ثم من عدنان وقحطان.
أما إبراهيم، أي أبو إسماعيل، فقد تكلم العبرية ولم يعلمها إلا لولده المفضل يعقوب. أما ابن الخادمة هاجر فقد تعلم لغة أخواله البرابرة العرب. وفي الفروع نجد السامية الغربية والسامية الشرقية. ثم تتفرع السامية الغربية إلى الأوغاريتية والكنعانية والفينيقية والعبرية، وتتفرع الشرقية إلى الأكادية والبايلية والآشورية والآرامية والعربية. لعلي أخطأت فاليهود تكلموا بالآرامية فيجب أن تكون العبرية شرقية أيضاً أو أن تكون الآرامية غربية. يا إلهي لقد بلبلتُ الألسن كما بلبل الله لسان مدينة بابل عقاباً لها على معصيته وقد كانوا يتكلمون العبرية ثم تبلبلت ألسنهم فرطنوا باللغات المعروفة اليوم وهاموا على وجوههم في البرية. هل تعتقدون أن نظرية اللغويين أفضل من نظريات أجدادنا في العصر العباسي (أي نظرية البلبلة، وإسماعيل الذي كان أول من تكلم بالعربية)؟ لا أعتقد، كلتاهما لا تشرحان شيئاً.
لقد سألت يوماً أستاذ اللغات السامية بعد أن درست معه شيئاً من العبرية وشيئاً من آرامية العهد القديم (وهو بالطبع يهودي روسي): لم تصر على أن الإختلاف بين الآرامية والعبرية هو اختلاف بين لغتين من أصلين مختلفين بعض الشيء وهذا الإختلاف ليس أكبر من الإختلاف بين لهجة قرية جبلية لبنانية ولهجة أهل "باب الحارة" الشامية "الأصيلة"؟ فغضب وقال أننا بصدد دراسة لغات مقدسة قديمة تناقلها "الناطقون" بها لأجيال. نعم "الناطقون بها" ونحن لا نملك أي نص عبري منقوش على صخرة صغيرة كتبها راع للغنم في جبال الجليل أو الضفة الغربية أو حتى في جزيرة العرب. فما دخل العبرية بالعربية واين أسوق القارئ بتهكماتي؟ أسوقه إلى التواضع. لماذا لا نعترف بجهلنا حين نجهل الجواب. لا نعرف أصل الأوغاريتية ولا نعرف أصل الآرامية ولا نعرف أصل العبرية ولا نعرف أصل العربية أيضاً. وهل من الضروري أن يكون هناك أصل من أصله، كما يقولون. آه هذه النسمة الحارة جاءت من "قبلي" كما يقول البدو المرتحلون حول حمص، أي من الجنوب. فأين أصل هذه النسمة؟ وأين هذا ال"قبلي"؟ أهو "القبلة" أي الكعبة؟ أجاءت النسمة من الكعبة؟ نتعب أنفسنا في السباحة عكس تيار الزمن لنصل إلى "الأصول". لكن عندي حل آخر. أنظر إلى سوريا مثلاً وهي بلدي التي أزعم معرفتها. أو إلى أي بلد يتكلم غالبية سكانه العربية. كم لهجة هناك "غاد" في سورية؟
ما تعريف اللهجة كبداية للبحث وما هو الفرق بين اللغة واللهجة؟ هو تماماً الفرق بين العرق الأسود والعرق الأبيض. ألا نستطيع التمييز بين إفريقي أسود وعربي أبيض ... أو أسمر ... أو أبيض لكن من أصل شركسي كما يزعم البعض. لا يمكن التمييز بين أعراق مختلفة. لا وجود لنقطة بداية للعرق الأبيض وبداية للعرق الأسود. دالّة مستمرة كما يقولون في الرياضيات (أو تابع مستمر إذا كان سنك من سني فقد غيروا المصطلحات). غيروا المصطلحات!! يا إلهي، لغة عربية منزلة ويغيرون المصطلحات، "شو بيت أبوهم!" نعم اللغات تتغير وليس من نقطة بداية ونقطة نهاية.
ولنعد للهجات سورية زاعمين أن لدينا تعريفاً غائماً للهجة وآخر للغة. وهنا أنبهكم أن اللبنانيين (أو بعضهم) يتكلمون "لبناني" وليس "عربي" لأنهم فينيقيون، وهي "لغة" مختلفة عن لهجة الساحل السوري!!! (أليس مفهوما اللهجة واللغة أيديولوجيين بامتياز؟) هناك اللهجة الشامية واللهجة الحورانية واللهجة الجبلية واللهجة الساحلية واللهجة الحلبية واللهجة الجزرية (أي لهجة أهل جزيرة الفرات ودجلة، وقد يقولون الجزراوية على وزن فعلاوية كما نقول فشلاوي أي يكتب بيده اليسرى). وهناك اللهجة البدوية (تلفظ القاف كالجيم المصرية) واللهجة الريفية (تلفظ القاف قافاً كما خلقها الله) واللهجة المدنية (أي أهل المدينة، وتلفظ القاف آفاً كما أراد الله أن يخلق القاف). لكن أية مدينة؟ وهناك لهجة "باب الحارة" ولهجة المزة وأبو رمانة، ولهجة القصاع وباب توما فهؤلاء مسيحيون ولا بد أن يكونوا مختلفين عن المسلمين!!! عفواً، هناك لهجة باب الدريب ولهجة المحطة في حمص، أي لهجة المعتّرين الفقراء الذين يعيشون في المدينة القديمة ولهجة المترفين الذين يعيشون في المدينة الجديدة العصرية التي بنيت قرب محطة القطار الذي جاء به الفرنسيون. عفواً، وهناك لهجة "عرب شرقي" و"عرب قبلي" و"عرب مغرّب." والعفو أيضاً فهناك لهجة أهل صافيتا (اللهجة الصفتلية العتيدة) ولهجة يازدية حمدان (او عين مريزة)، التي تبعد عن صافيتا مسافة عشرة كيلومترات. ثم نذهب إلى لبنان ونضيع بين الطرابلسية والزحلاوية والصيداوية وبيروتية الشرقية وبيروتية الغربية مع فروق واضحة عند معبر المتحف (أم هذا من مخلفات الحرب الأهلية؟).
مرة ادعيت أني أتكلم اللهجة الفلسطينية (طبعاً لهجتهم واحدة فهم بعيدون جداً عنا) أمام صديق فلسطيني قابلته في أمريكا والحقيقة أني كنت أقلد لهجة صديق آخر من "المخيم" (ولا داعي للتحديد فهو دائماً المخيم أينما كنت في الوطن العربي)، أي من مخيم اليرموك جنوب دمشق. فضحك عليّ وقال أنه من القدس وأنا أقلد لهجة طبرية في الشمال أو أهل الجليل إذا نزلنا عدة كيلومترات إلى الجنوب. والحقيقة كان محقاً فصديق "المخيم" تعود أصول عائلته إلى شمال فلسطين وبالتحديد طبرية. هذا الوضع يتكرر في كل بلد عربي. ونسيت هنا آرامية معلولا وجبعدين وصيدنايا المختلفة عن آرامية العهد القديم وآرامية الكنيسة السريانية وآرامية الإمبراطورية الفارسية القديمة (نعم لقد كتبوا مراسلاتهم باللغة الدولية آنذاك وهي الآرامية، ولكن أية آرامية). والهدف من هذا كله: هذه السلطة (مثل سلطة خضار) اللغوية كانت دائماً موجودة، فأين الشجرة الجميلة؟ وأيهما "الأصلي" (وهو الأجنبي أي عكس المصنوع محلياً) لهجة البدو أم لهجة الحضر؟ وأي بدو وأي حضر؟ قلت مرة لصديقي الكويتي المنحدر من عائلة من الحضريين المعروفين قديماً بتجارة اللؤلؤ: "لهجتك بدوية"، فانزعج لأنه يعرف الفرق بين البدوية الكويتية وبين الحضرية. لكن بالنسبة لي لهجته تشبه لهجة البدو الذين يبيعون اللبن والسمن في موسم الربيع في أسواق حمص (هذا في السبعينيات)؟ ومن يومين كتبت الدكتورة رجاء بن سلامة مقالة شيقة عن تأنيث الكلمات وتذكيرها وكيف تتظاهر السلطة الأبوية الذكرية لغوياً ونفسياً. فسألت، لكي أظهر بمظهر العارف، عن التأثير النفسي لغياب صيغة المؤنث في ضمائر الخطاب في اللهجة التونسية، إن وجد؟ فقد قابلت كثيراً من التونسيين في فرنسا، وأعرف اللهجة التونسية بالزاف ... عفواً (تشويشات مغربية) أريد أن أقول برشة (أي كثيراً). فعلق أحد الإخوة التوانسة (أو التونسيين) غاضباً أن لهجة الجنوب تفرّق بين المذكر والمؤنث وما ذكرته ليس إلا من بدع العاصمة.
فإلى الجحيم يا أستاذ الساميات اليهودي النيويوركي الذي يسكن كاليفورنيا وجاء أجداده من روسيا، مع شديد احترامي لأنه كان عميق المعرفة بالعبرية التوراتية والأرامية التوراتية والسريانية الإنجيلية (أي سريانية الرها). لكن قد يكون التظلل بشجرة اللغات أهون من هاجرة التعقيدات الواقعية التي توجد في كل اللغات وإن كانت المدرسة والكتاب والجريدة والتليفزيون والفضائيات يقضون على هذه الفروق "شوية شوية."
صبراً فنحن نقترب من لب الموضوع: أي لا توجد أصول وإنما سيرورة دائمة ذات أبعاد زمانية ومكانية وطبقية واجتماعية وما إلى ذلك من الإيّات. ولنلق نظرة على نص يعتبر من أقدم النصوص "العربية"، وهو نقش النمارة الذي كتبه امرؤ القيس (واحد منهم، الملك، ابن عمرو، الشاعر ذو المعلقة، على الأرجح) عام 328 م أو بالأحرى كتبه الذي قبَرَه لأن النص كانت على شاهدة القبر (في حوران، سوريا، رغم أن الأستاذ الشاعر من العراق). والله أعلم مَن قبره ومن خرج في جنازته ومن اقترح نص الشاهدة ومن نحت النص؟ ومن سيقرأ النص بعد ألفي سنة؟ امرؤ القيس هذا كان ملكاً للحيرة وحليفاً للفرس، لكنه هرب إلى الشام وغير ولاءه إلى الرومان كما اعتاد الزعماء العرب اللعب على التوازنات الدولية، ومات أخيراً مقتولاً في حوران. وطبعاً هزم كل القبائل ووصل إلى اليمن على طريقة انتصارات القادة العرب.

يقول النص المكتوب بخط نبطي جميل
1. تي نفس مر القيس بر عمرو ملك العرب كله ذوأسر التج
2. وملك الأسدين ونزرو وملوكهم وهرب مذحجو عكدي وجا
3. يزجي في حبج نجرن مدينت شمر وملك معدو ونزل بنيه 
4. الشعوب ووكلهم فرس ولروم فلم يبلغ ملك مبلغه
5. عكدي هلك سنت 223 يوم 7 بكسلول بلسعد ذو ولده.

وهذه ترجمة لجواد علي (نعم أقدم نص "عربي" يحتاج إلى ترجمة)
1- هذا قبر امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي تقلد التاج. 
2- واخضع قبيلتي أسد ونزار وملوكهم وهزم مذحج وقاد.
3- الظفر إلى أسوار نجران مدينة شمر واخضع معدا واستعمل بنيه. 
4- على القبائل ووكلهم فرساناً للروم فلم يبلغ ملك مبلغه. 
- 5إلى اليوم. توفى سنة 223 م في 7 من أيلول وفق بنوه للسعادة"، 
عام 223 بتقويم بصرى يوافق 328 ميلادي، المصدر جواد علي ج3, ص101

وإليكم هذه القراءة ومن ثم الترجمة التي وجدتها في منتدى الجمعية الدولية لمترجمي العربية (بقلم أحمد الأقطش)
(1) تي نفسُ امْرئ القَيس بن عَمرو ملك العرب كُلّها الذي أسرَ التاجَ
(2) ومَلَكَ الأَسْدِيِّين ونزارَ وملوكَـَهم، وهرَّبَ مذحجَ عكداً. وجاء
(3) يزجي في حَبَجِ نجران مدينةِ شمر. ومَلَك مَعَدَّ ونزَّلَ بنِيهِ
(4) الشعوبَ، ووكَّلهم فارس والروم. فلم يبلُغ ملِكٌ مبلغَه
(5) عكداً. هلكَ سنة 223 يوم 7 بكسلول. فليسعد الذي ولدَه.
تي: "هذه" اسم إشارة للمفرد المؤنث، وهي عربية صحيحة، ففي حرف الذال باللسان (هذي مُنْطَلِقة وتي منطلقة وتا مُنْطَلِقة(
نفس: "وهي بمعنى ضريح وقبر، وهي بهذا المعنى في عدد من النقوش الشمالية والجنوبية.
مر القيس: هو امرؤ القيس اللخمي أحد ملوك الحيرة.
بـر: "ابن"، وهي لغة عربية شمالية، وتوجد أيضاً في بعض لهجات اليمن.
كله: "كلها" وكانت حروف العلة لا تُكتب.
ذو: "الذي" وهي لغة طيئ.
أسَرَ: "أخذ" و "عصب" و "عقد"، والدلالة واضحة.
التج: "التاج".
الأسديين: نو أسد.
هَرَّبَ: جعلهم يهربون ويفرّون. وقد فسّرها جواد علي بـ "هزم".
عكدي: "عكداً" أي "قوةً"، والعُكدة أصل القوّة.
يزجي: "يدفع" و "يسوق".
حبج: "ضرب"، حبجَه بالعصا يحبجُه حَبْجاً: ضربَه.
شمر: هو الملك الحميري "شمر يرعش" في كتب التراث العربي.
سنة 223 تقويم بصرى عاصمة حوران، وهو يبدأ بدخولها في حوزة الرومان سنة 105م. فسنة كتابة النقش تقابل سنة 328م.
كسلول: هو شهر كسلو، ويقابله كانون الأول "ديسمبر".

وتعجبني هنا الروح القومية العربية التي ترى حركات الإعراب في كل مكان (فتتحول عكدي إلى عكداً بقدرة قادر) وتحتكم إلى لسان العرب الذي يجمع "لسان العرب" ولنقل "ألسنة العرب وغيرهم" وتهمل فروقات المعنى بين لسان العرب والإستخدام النصي وتحل أية تناقضات بأن تنسبها للهجات قبائل متناثرة جغرافياً. وإليكم تلعليقاتي على هذه القراءة والشروحات التي انتقيتها لأنها تمثل تماماً العقلية الراهنة التي من خلالها نحاول فهم تاريخ العربية
تي: طبعاً معروفة، أي هي في السان أيضاً ولكن يندر وجودها في الكتابات الإسلامية القديمة ولا أحد يستعملها الآن. لكنها تبقى عربية. والدليل أنها توحي بالفصاحة من باب الإغراب في الألفاظ جرياً وراء الجزالة.
نفس: (والتي قد تقرأ نفش) هي النفس التي نعرفها ولكن هنا جاءت "بمعنى" قبر أو ضريح (لا فرق أيضاً بين القبر والضريح) من باب المجاز أو الإستخدام الموثق لعرب الشمال وعرب الجنوب. وإذا كان المعنى سائداً في الشمال والجنوب فلماذا لم يسجله اللسان.
مر: هو إمرؤ (طبعاً مع إضافة طبيعية لهمزة وصل في المقدمة وهمزة قطع في المؤخرة). وطبعاً إذا كان القرآن يفعل ذات الشيء في إضافة الهمزات هنا وهناك كالبهارات على الطعام دون شرح (إلا التواتر على زعمهم) فلم لا نفعل هنا ذات الشيء. على كل حال رسم الهمزة اختراع متأخر وكانت النصوص تكتبها ألفاً فأين الألف في نصنا؟ ولماذا استمرت الكلمة في المحكيات العربية دون همزة حتى عصرنا هذا (مار إلياس أي القديس، مرتا مريم أي القديسة، مرتي أي زوجتي، مرة أي إمرأة). لأن المحكيات لغة العوام الجهال الذين كان أصلهم نبط وزط وموالي من الراطنين بالعربية الفصيحة.
بر: أيضاً معروفة (أين؟) وهي عربية شمالية (يقصد آرامية) والناس يستعملونها كثيراً مثل محمد بر عبد الله وعلي بر أبي طالب وعمر بر الخطاب. ولن ندع راءاً تقف بيننا.
كله: طبعاً قال الناقش في نفسه وهو ينقش (كلها) حفاظاً على تأنيث (العرب) التي تدل في الحقيقة على جماعة من الذكور لكن "درجت العرب على تأنيثها" وهذا "سماعي وليس قياسي." ثم كتبها (كله) لاحترامها قاعدة إملائية قديمة مفادها أن العرب كانت تحجم عن كتابت أحرف العلة. ولماذا تكون ألف ضمير التأنيث المتصل حرف علة وهي ملحقة لا دور صرفي لها (أي أنها لا تعلّ الكلمة التي تلحق بها). لكن الناقش الأهبل نسي هذه القاعدة وكتب ألف (جا) وهي فعلاً هنا حرف علة، وكتب ياء (يزجي) وهي فعلاً هنا حرف علة، وكتب واو (ذو) وهذه حسب تعربف المترجم يجب أن تكون حرف علة. ثم عاد فأهل الألف في (التج) لأن العرب كانت تهمل كتابة الألف في الكلمات الفارسية الأصل مثل (التاج)!!!
ذو: معروفة أيضاً وهي لغة طيء (القبيلة الفصيحة المعروفة التي ذكر لها النحويون استثناءات لا تحصى) وهنا نستعمل (لغة) بمعناها القديم (أي لهجة) لأن المعلوة جاءت من لسان العرب. وطيء هذه قبيلة يمنية قحطانية هاجرت بعد السيل العرم ودمار سد مأرب وسكنت جبل طيء (أي جبل شمر الآن) ومناطق أخرى عديدة حيث نحتاجها أن تكون لتشرح قاعدة لغوية. وقد وتكلمت الفصحى لكن مع استثناءات قريبة جداً من الآرامية أو اليمنية السبئية (التي تستخدم ذو بكثرة إلى الآن). بدأ رأسي يدور.
أسر: "أخذ" أو "عصب" أو عقد" (والمعنيان قريبان جداً من بعضهما) والدلالة واضحة لذوي الألباب ولا حاجة لشرحها. طبعاً أن يستخدم شاعر المعلقة كلمة بغير معناها المعجمي يفسر من قبيل "يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره" (وما لغة معاجمنا أصلاً إلا قائمة بتجاوزات الشعراء الميامين، العرب الأقحاح الذي كانوا يعرفون العربية بالسليقة التي لا تخطئ، وهل يخطئ البدوي). طبعاً القرآن ليس لهجة البداوة لكنه عربي أصيل.
هرّب: فسرها جواد علي (الأسطورة في التاريخ العربي الجاهلي) ب"هزم" رغم أن العربيات المحكية تستخدم (هرّب)، لكن متى كانت المحكيات العامية (أي لغة العوام الهوام) مرجعاً لدراسة لغة القرآن.
عكدي: بمعنى (والآن نحن متمرسون بهذه الكلمة وتجاوزاتها اللغوية) عكداً لأن الياء كانت علامة نصب الحال في عربية كاتب المعلقات. ثم هناك عكدي أخرى في نهاية النص منصوبة أيضاً بالياء لكن على الظرفية (بمعنى يوماً). رأسي فعلاً يدور.
يزجي: "يدفع" ويسوق" وتستخدم دائماً مع حرف الجر (في) بمعنى (دخل في الحائط) أو (يزجي في حبج نجرن) أي (ينطح سور نجران) . و(حبج) معروفة أيضاً (حبجه بالعصا أي ضربه) لك هنا استخدامها مجازي بمعنى (سور) والدلالة واضحة!!!
جا يزجي في حبج نجرن: تعني (قاد الظفر إلى أسوار نجران) وليس كما نقول بالعامية (وجا ينطح راسه بالحيط) فحاشا لشاعر المعلقة إمرئ (وليس مر) أن ينطق بهكذا عربية (مكسرة مطحبشة متل أسوار نجران). هذا إن كان ذهب إلى نجران فعلاً ولم يكن يكذب كما كذب رمسيس على مسلته حين ادعى هزيمة الحثين في قادش وكما ذهب تبع اليمن إلى الهند وهزمها.
ولن ندخل في خصام حول كسلول، أو أيلول، أو ديسمبر فلا نريد أن نخصر بعضنا ونفرط العقد ونحل رابطة العروة الوثقى من أجل كلمة.
والناقش أرّخ بالتأريخ النبطي لأن العرب درجت على ذلك حباً بالأنباط العرب أصلاً والذين كتبوا دائماً بالآرامية (يا أخي حتى الفرس كتبوا بالآرامية). وسعرهم بسعر التدمريين العرب أيضاً لكن الذين كتبوا بآرامية تسمى التدمرية وكذلك بالإغريقية، وذلك إخفاءً لأصلهم العربي.
طبعاً النتيجة هي أن الخط عربي والنص عربي والكلدانيون كانوا يتكلمون العربية الأولى والبابليون والآشوريون كذلك ولا فرق بينهم فكلهم عرب. وبعدين (ولا قبلين) انتصرت لهجة قريش وأصبحت لغة 300 مليون إنسان يتعلمونها في المدارس ويصبح الواحد مسخرة أهل الحارة إن تكلم بها. والتشكيل سقط سهواً وكذلك النقاط. و (تي) عربية معروفة فهي في القاموس وتكلم بها أهل الشمال، وذو لغة طيء بمعنى الذي. ومر هي إمرؤ أو إمرئ أو إمرأ وهي عربية، شوف من اسمو امرؤ القيس. وهي نفس كلمة مار (مؤنثها مرتا) وتعني السيد والقديس والملك والزوج وفي العربية تعني واحد بعمري ما شفتو. وكل الهمزات سقطت سهواً. أو هي لغة شرقية من نوع مأمأة عبد القيس في عمان وكسكسة أسد وكشكشة ذبيان وتلتلة عبس وثأثأة ربيعة وكتكتة كلب. أما إياد فلا يؤخذ بلغتها لأنها اختلطت بالفرس وتنصرت كذلك، الوقحة (وهنا لا أنسب اللهجة إلى القبيلة الصحيحة). وطبعاً كل هذه القبائل تكلمت العربية الفصحى بفصاحة شديدة مع الإستثناءات السابقة الذكر. ولسان العرب (المكتوب في القرن السادس عشر الميلادي) يذكر أن (ذو القصة، موقع في الحجاز) هي في الأصل (ذو الجصة) لكن أهل الحجاز يلفظون الجيم على طريقة أهل اليمن (والمصريين أيضاً). ولما لم يكن هناك في العربية (التي أتت أصلاً من قريش الحجازية) حرف مشابه كتبوها قافاً لقرب اللفظ. هذه المعلومة بالنسبة لي كانت القشة التي قصمت ظهر البعير. فقد كنت بصراحة بعيراً لمحاولتي التوفيق (كما فعل أجدادنا العباسيون) بين كل هذه التناقضات.
وهذه المعلومات تبدو متناقضة إذا آمنا بنظرية العربية الفصيحة، لغة قريش، الني نطق بها إسماعيل، ونزل بها القرآن، وصدح بها امرؤ القيس في سوق عكاظ حيث ربحت معلقته الجائزة الأولى فكتبوها بماء الذهب على ورقة (او جلد غزال، والقرآن ياعيني كان مكتوب على عظام أكتاف البعير) وعلّقوها على الكعبة (وابن سعد لا يترك فرصة ليؤكد أن الكتابة بالعربية كانت قليل، هكذا دون تأنيث). وقبل أن أبدأ بالتنظير أؤكد للقارئ أني جاهل تماماً بحقيقة "أصل" العربية ومن تكلم بها ومن كتبها ومن جمع معجمها الأول (أي كتاب العين الذي جاء إلى البصرة على ظهر حمار من خراسان حسب إحدى الروايات وزعموا أن الخليل كتبه) ومن وضع قواعدها.
يقول بعض الباحثين أن العربية لغة مركبة (وهذا واضح من لسان العرب) غرضها الشعر وكتابة النصوص الرسمية. وهذه نظرية متأثرة بنظريات مشابهة عن أصل الإغريقية في كتابات هوميروس والتي تحتوي على لهجات متعددة من مناطق مختلفة. ويزعم آخرون أن نقش النمارة ما هو إلا عربية في طور النضوج (بدلالة ال التعريف) فيقولون بحداثة نشأة العربية. وما نعرفه في الحقيقة هي عربية التدوين. وبرديات مصر التي تعود إلى العصر الأموي تجمع صيغاً بين الفصحى المتعارف عليها الآن وبين العامية، لكنها أقرب إلى الفصحى. وهذه البرديات ما هي إلا مراسلات بين عامل الأمويين على مصر وعماله على النواحي المصرية (وأغلبهم رجال دين مسيحيون) الموكلين بجمع الجزية (وطبعاً الأموي يهددهم على الطالعة النازلة ويذكرهم في كل رسالة بأنهم ليسوا "من اتبع الهدى"). والفروقات والتشابه بين عربية القرآن وعربية الأشعار المسماة بالجاهلية ومعروفة. ومعاجم العربية والأخبار القديمة تذكر وجود لهجات كثيرة بعضها يشبه لهجات حالية من الجزيرة العربية (لكن الأمثلة قليلة). وكثيراً ما تذكر المعاجم لفظين أو ثلاثة لكلمة واحدة وتزعم أنها (لغات) وهذا يعني إما أخطاءً في اللفظ أو لهجات محلية. ونحن نعرف أن الأخطاء مفهوم وضعي اصطلاحي مرتبط بوجود قواعد مدونة للغة المحكية يتعلمها الأولاد في المدرسة ليميزوا بين "ما هو صحيح" وما هو "خطأ".
لكن العربية التي نعرفها تحتوي على ظاهرة لم يرها الآثاريون منذ زوال الحضارة الأكادية، ألا وهي ظاهرة إعراب الأسماء والصفات (أي انتهاؤها بحركة تدل على وظيفتها القواعدية في الجملة) كالرفع والنصب والجر. فأين كانت هذه الزوائد طول ثلاثة آلاف عام. أمن الممكن أن تختبئ في الصحراء طوال هذه المدة لتظهر فجأة ولتختفي بعد قرن على ظهورها المفاجئ. أما الفروق والتشابه بين المحكيات الحالية والعربية المسماة بالفصحى فأتركها إلى مقالة أخرى لطول الحديث عنها. لكن هذه الفروق والتشابهات تدل على اختلاط بين حاكم ومحكوم ومن ثم على تعليم منظم للغة الحاكم. وأقدم ترجمة للعربية معرفة لأجزاء من كتاب العهد الجديد (وجدت في كنيسة القديسة كاترينا في سيناء) تعود إلى القرن الثامن على ما أذكر وتدل على تحول سريع لسكان الشام المسيحيين إلى العربية. ولكن أية عربية؟
وفي طبقات ابن سعد الذي يعود إلى القرن التاسع الميلادي ذكر لكلمات مثل (إيش) مما قد يدل على وجود ما يشبه العامية الحالية. وأنا أرجح وجود عربيات مختلفة (ولغة تدوين مختلفة وجامدة) تطورت مع الزمن إلى العربيات الحالية. ويعتقد الباحثون مثلاً أن الفرنسية والإسبانية ماهي إلا حفيدات لاتينية الجنود البعيدة عن لاتينية النصوص الأدبية القديمة، أي أن اللهجات هي حفيدة لهجات أيضاً كانت عامية ذلك الزمان. وإن نظرية سعد الصويان بأن الشعر النبطي حفيد الشعر الجاهلي تماثل هذا الشرح لتاريخ أحفاد اللاتينية. 
ما لغة التدوين والأدب إلا صورة جامدة للغة المحكية في لحظة من لحظات وجودها الدائم الحركة والتغير، بل بالتحديد صورة للهجة (أو تركيبة من لهجات) منتقاة من تنوع هائل يشبه تنوع المحكيات العربية الحالية. فلا يمكن إذا معرفة أصل أية لغة وإنما نستطيع أن نتتبع تاريخ تدوينها (أحياناً) وتجميدها في قواعد للغة تدوين وأدب رسمية تشرف عليها مؤسسة نخبوية ودينية في الأغلب تنقلها عبر الأجيال عن طريق التعليم والتلقين والإعادة و"التقويم" بالعنف النفسي والجسدي.
والله أعلم

هناك تعليق واحد:

Boutheina يقول...

مقال ممتاز. شكرًا على الإفادة