الأربعاء، 24 سبتمبر 2008


 

 

قراءة في نفس الحقبة

 

أعلنت الدولة العباسية عن نفسها على لسان مؤسسها السفاح يوم مبايعته بقوله: إن الله ردّ علينا حقنا و ختم بنا كما افتتح بنا ، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح و الثائر المبير...و ليبين أنه أجدر الناس بحمل اسم السفاح فقد استهل حكمه بقرارين يغنيان عن التعليق ،  أظن أنه ليس لهما سابقة في التاريخ كله، كما لا أظن أن أحدا قد بز ّالسفاح فيما أتاه أو فاقه في ما فعل.

أما قراره الأول فكان أن أمر بإخراج جثث خلفاء بني أمية من قبورهم و جلدهم و صلبهم و حرق الجثث و نثر رمادها في الريح.يقول ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ :( فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إلا خيطا مثل الهباء ، و نبش قبر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فوجدوا فيه حطاما كأنه الرماد، و نبش قبر عبد الملك بن مروان فوجدوا جمجمته ، و كان لا يوجد في القبر إلا العضو بعد العضو غير هشام بن عبد الملك بن مروان فإنه وجد صحيحا لم يبل منه إلا أرنبة أنفه، فضربه بالسياط و صلبه و حرقه و ذراه في الريح. و تتبع بني أمية من أولاد الخلفاء فأخذهم فلم يفلت منهم إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس...). و يروي ابن مسعود القصة بتفصيل أكثر في مروج الذهب عن عمرو بن هاني أحد نباشي قبور بني أمية

 و الطريف أن بعض المسلمين رأى في ذلك معجزة إلهية و انتقاما ربانيا من هشام  الذي أخرجت جثته كاملة و مثّل بها شر تمثيل ، إذ خرج عليه زيد بن علي بن الحسين، و قتل في المعركة فدفنه رفاقه في ساقية ماء ، و جعلوا على قبره التراب و الحشيش لإخفائه . فاستدل على قبره قائد جيشه، فاستخرجه و بعث برأسه إلى هشام، فكتب إليه هشام أن أصلبه عريانا فصلبه يوسف كذلك، و بنى تحت خشبته عمودا. ثم كتب هشام إلى يوسف يأمره بإحراقه و ذروه في الرياح) مروج الذهب المسعودي ج3 .ص219 ...

إذا كان السفاح قد وصف نفسه بالمبيح فإن رباح بن عثمان والي الخليفة المنصور على المدينة  قد وصف نفسه على منبر الرسول بما هو أنكى و أمرّ ،حيث قال : (أنا الأفعى بن الأفعى ) اليعقوبي ج2 ص251 .

كما يشتهر السفاح بواقعتين شهيرتين: الأولى أنه أعطى ابن هبيرة قائد جيوش مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين كتابا يحمل إمضاءه و يتعهد له بالأمان. تم قتله بعد أيام من استسلامه.

 و الثانية حين قتل وزيره أبا سلمة الخلال أحد مؤسسي الدولة العباسية في الكـوفة، وتعمد أن يكون ذلك على يد أبي مسلم الخراساني المؤسس الأول لدولة بني العباس في خراسان .حيث أن التاريخ يعترف  لرجلين بالفضل كله في قيام دولة العباسيين هما أبو مسلم الخراساني و عبد الله بن علي عم السفاح و قائد جيوشه في موقعة الزاب التي انتصر فيها على الأمويين نصرا نهائيا.

غير أن أبا جعفر المنصور تكلف بإبادتهما إذ سلط الثاني على  عبد الله بن علي ثم تولى هو بنفسه أمر قتل أبي مسلم الذي لم يشفع له صياحه: استبقني لعدوك يا أمير المؤمنين. فرد عليه : و أي عدو لي أعدى منك .؟ فدخل عيسى بن موسى فوجد أبا مسلم قتيلا . فقال :قتلته ؟قال : نعم . قال : إنا لله و إنا إليه راجعون، بعد بلائه و أمانته ؟.فقال المنصور : خلع الله قلبك! و الله ليس لك على الأرض عدو أعدى منه. و هل كان لكم ملك في حياته..؟

هذا هو حكم بني العباس و هكذا بُني على الغدر والخيانة . يقال أن المنصور هو الذي سمى عبد الرحمن الداخل بصقر قريش . فرغم هزم عبد الرحمن لجيوشه في إشبيلية  ، إلا أن المنصور طالما حاول استمالته بالهدايا، و التودد إليه بالإعجاب و الإطراء. الشيء الذي لم ينفعه ، فبادر إلى التحالف ضده مع شارلمان ثم مع ببين ملكي الفرنجة. فشل التحالف في هزم عبد الرحمن، و نجح في إقرار قاعدة سياسية هي القاعدة المنصورية:  افعل أي شيء...أسلك أي سبيل... المهم أن تصل إلى غايتك... وتنتصر على عدوك  و خلال ذلك كله إنس الدين، و تغافل عن أحكام القرآن. و تجاهل السنة  و ابتعد بقدر ما تستطيع عن سيرة الراشدين. و تذكر فقط أنك( سلطان الله في أرضه ) كما وصف المنصور نفسه في خطبة شهيرة له بالمدينة.و (ظل الله الممدود بينه و بين خلقه) حسب التعبير الأدبي الشائع عند وصف الخلفاء في العصر العباسي الأول.و استند في حكمك إلى حق بني العباس في الخلافة و ليس إلى حق الرعية في الاختيار.

على أساس هذه القاعدة عذب المنصور الإمام أبا حنيفة النعمان و حبسه و جلده و دس له السم لرفضه ولاية القضاء. و تحت نفس اليافطة جلد الإمام مالكا و هو عاري الجسد  غير مستور العورة تشهيرا به لأنه ذكر حديثا عن الرسول لم يعجبه.

 و ننهي حديث الخليفة المنصور بابن المقفع الذي أرسل للمنصور كتابا صغير الحجم عظيم القيمة أسماه ( رسالة الصحابة ) ينصح فيه الخليفة بحسن اختيار معاونيه، و حسن سياسة الرعية. و كان في نصحه رفيقا كل الرفق رقيقا غاية الرقة. ولعله كان ينتظر تقديرا يليق بجهده.أو لعله لم يتصور أن مجرد إسداء النصح للمنصور جريمة، و أن غاية الأديب في رأي المنصور أن يمدح، و منتهى دور المفكر أن يؤيد. و أن عقاب من يتجاوز دوره كابن المقفع أن يفعل به ما فعل بابن المقفع الذي قطعت أطرافه قطعة ، قطعة  و شويت على النار أمام عينيه و أطعم إياها مجبرا قطعة ، قطعة حتى أكرمه الله بالموت.

هذا هو المنصور الذي دخل التاريخ من باب الجبروت، و تركه من باب رجال الدولة العظماء..لقد جار بفتاوى البعض من الفقهاء و خوف بعض و صمت من بعض آخر.و قسا بهدف بناء هيبة الدولة و أركان الحكم بمقاييس عصره. و أسال الدماء أودية و أنهارا و لكنه بنى بغداد و الرصافة، و حمى الثغور، و أعاد التماسك إلى الدولة الإسلامية و حكمته البليغة هي

إذا مد عدوك يده إليك فاقطعها، إن أمكنك و إلا فقبلها

                                                                     أبـــو قــــثم  

 

ليست هناك تعليقات: